بقلم : أحمد العجمي
أي مجتمع له كهف إفلاطون الخاص به، الذي يعيش ويتشكل داخله ليرى ويتعايش مع مقدار إضاءته وما يدور فيه من أحداث وحراك وتفاعلات وتصورات ومعتقدات، ويدير ظهره لأي ضوء قادم من خارج الكهف معتقداً أن العالم محصور داخل حدود هذا الكهف وأن أمانه وسلمه يتحققان في البقاء ضمن حدوده.
وداخل الكهف العام تتشكل كهوف خاصة لجماعات تتمثل في الكهف الثقافي، والكهف السياسي، والكهف الأدبي والفني .. إلخ. ويمكن أن ينقسم كل كهف إلى كهف أصغر فأصغر.
والعيش طويلاً في هذه الكهوف والاستراحة فيها يحدثان الارتخاء والتنميط والهشاشة والضمور أمام ما هو ممكن في خارج الكهف من عوالم أكثر حقيقية وجمالا.
وللخروج من الكهف العام والخاص يتطلب توافر وتحقق طاقة الإبداع، والشجاعة والمبادرة والاستدارة لرؤية باب الكهف، وتجاوزه للخارج والحصول على أكثر مساحة من الحياة والحرية.
كهوف مجتمعنا كثيرة ومتآزرة وما فيها من سلطات تعمل باستمرار على إبقائنا داخل الكهف تحت ضوئها الخفيف المتضائل، الذي يسمح برؤية الظل والخيال والحلم لا أكثر وتجعل ظهورنا تغلق مدخل الكهف.
وعملية التدجين داخل هذه الكهوف تتم ثقافياً ودينياً وسياسياً واجتماعياً، ومن خلال القوانين المتسلطة، وعبر سلطة الكلام المتكرر المخصص لتكسيل العقل، وبأفكار ومقولات صيغت داخل الكهف لمدحه ولتمجيد سلطاته، وتحذر مما هو خارجه من أضواء لا تتحملها أعيننا، كضوء الديمقراطية!
والكهوف لا تنتهي بمجرد الخروج منها، لأنه وبعد فترة سيتشكل كهف حول أي جماعة تخرج وتعتقد بالمطلق، وأنها نالت حريتها ورأت كل شيء؛ حيث مسببات ومكونات الكهوف تتربص في الخارج لتحاصر.
فهذه الجماعة بعد مدة من التشكل حول فكرة جديدة ستبدأ في تشكيل خطوط كهفها الجديد وفضائه وحدوده وإضاءته الذي يوفر لها نمطاً يريحها ويدجنها.
نحن كثيراً ما ندافع عن كهوفنا من خلال صراعات حول أي كهف أكثر اتساعاً وأكثر إضاءة وأمناً، وأنواع الصور التي نراها تتحرك على جداره الداخلي، ونستميت لحمايته من الضوء القادم من خارجه.
تلعب الأيدلوجيا والمعتقدات والقوانين الظالمة إضافة إلى الجهل والخوف أدواراً قوية وأحيانا قسرية في تشكيل وتعزيز الكهوف الدينية والطائفية والعنصرية والثقافية والقبلية والعرقية.
وأكبر كهف مخيف جامع ومظلم هو الدولة غير الديمقراطية، والثيوقراطية، والشمولية، والعائلية وما شابهها.
دائما هناك قلة أو نخبة تسارع للخروج من الكهف وتحرض وتغري الآخرين على ترك كهوفهم التي تدجنوا فيها ومرنوا عقولهم داخلها على الكسل والاتباع، وهؤلاء يخاف منهم سكان الكهف وسلطاته ويبدؤون في مطارتهم ثقافياً وقانونياً وسلوكياً.
هناك علاقة عكسية بين العقل وإنشاء الكهف واستمراه؛ كلما نشط العقل واستقل بذاته ضعف الكهف وضعفت سلطاته وتوسعت فتحات الخروج منه، وكلما تنمط العقل وكسل وخضع للتبعية والموالاة قوي الكهف وقويت سلطاته القسرية والاختيارية وزادادت عتمة وضاقت أبوابه.
ويكون العقل في ممارسته للعلم ولحرية التفكير وإنجاز مخرجاتهما أعظم الأخطار على صلابة الكهوف واستمرايتها وطول بقائها؛ لأنه يخرج الإنسان من كهف الجهل وكهف استلاب الإرادة والحرية ويمنحه طاقة أقوى من جدران أي كهف.
كل ما طال بقاء الكهف تشكلت له قداسة إرادية يخلقها عقل من يعيشون داخله ويستميتون من أجل البقاء فيه ويحاربون من يدير وجههه للخروج منه.
سيبقى من المهم في ظل بقاء هذه الكهوف المتداخلة والمتصارعة أن تنتظم معادلة متوازنة للمعايشة السلمية ولممارسة السلم الاجتماعي، واحترام التعدد والاختلاف، واحترام معتقد الآخر وتراثه وتقاليده بشكل متبادل، دون الارتهان للموت الذي تحدثه أو اللامبالاة لمحاولة إفراغها أو إضعافها بحرية التفكير والإبداع.