DELMON POST LOGO

اضطرابات الخبز في إيران والتعنت في فيينا

بقلم : علي آلفونه

تعيش إيران موجة جديدة من الاحتجاجات أشعلتها الزيادة الحادة على أسعار المواد الغذائية في أعقاب الخطة التي أعلنها الرئيس إبراهيم رئيسي لإصلاح الدعم. في الوقت ذاته، تصدر من إيران إشارات متضاربة تتعلق بإعادة إحياء الاتفاق النووي لعام 2015، خطة العمل الشاملة المشتركة. وتعتبر هذه الإشارات أكثر وضوحًا عند الاخذ في الاعتبار فرص المكاسب الفورية لإيران الواردة في الاتفاق من خلال إلغاء تجميد ما يقرب من 120 مليار دولار من الأصول الإيرانية المحتجزة في الحسابات الأجنبية. ويمكن أن يكون ذلك مهمًا نظرًا لأن صادرات إيران النفطية قد أصبحت محدودة بشكل كبير بسبب نظام العقوبات الأمريكية الشديدة، وبحسب المعلومات، فإن مجموع الصادرات وصل إلى 100 مليار دولار ما بين مارس   2021 الى مارس  2022. فهل من المحتمل أن تؤدي الاحتجاجات الداخلية على الأوضاع الاقتصادية لزيادة رغبة إيران في الوصول لاتفاق نهائي مع الولايات المتحدة للعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة؟
إن للجمهورية الإسلامية تاريخًاً طويلاً من الاحتجاجات على الأوضاع الاقتصادية، ولكنها أصبحت تتكرر بشكل أكبر في السنوات الأخيرة. إن الجولة الجديدة من الاحتجاجات بدأت تتشكل منذ بعض الوقت؛ الآثار طويلة المدى لجائحة كورونا، وزيادة أسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق العالمية، وضعف العملة الإيرانية التي تعاني من عدم حل أزمة البرنامج النووي الإيراني والعقوبات الأمريكية التي ساهمت في إضعاف القدرة الشرائية للمستهلكين الإيرانيين.
ومع ذلك، فإن الشرارة الأخيرة كانت مع مقابلة إبراهيم رئيسي التلفزيونية في 9 مايو  التي أعلن فيها عن خطط لخفض دعم المواد الغذائية الأساسية، واستخدام كوبونات رقمية لخفض أسعار هذه المنتجات لصالح الفئات ذات الدخل المنخفض. ويسعى القرار إلى زيادة الدخل الأساسي العام للفئات ذات الدخل الأقل، وإضافة لذلك إعطاؤهم كوبونات إلكترونية لتسهيل حصولهم على المواد الغذائية الأساسية وفق أسعار حكومية ثابتة، وفي الوقت ذاته حرمان الفئات ذات الدخل المرتفع من تلك الميزة. كما يخطط رئيسي لإنهاء نظام سعر الصرف الإيراني المتعدد، بحيث تعمل الحكومة على تزويد مستوردي المواد الغذائية الأساسية بالعملة الأجنبية وبسعر مدعوم يكون أقل من سعر السوق.
نظريًا، هناك منطق في خطة رئيسي؛ برنامج الدخل الأساسي العام – الذي قدمه آنذاك الرئيس محمود أحمدي نجاد في 2011، والذي قدم حينها دفعات نقدية تساوي 29% من متوسط دخل الأسرة العادي – كان يهدف لتعويض الإلغاء التدريجي للدعم المقدم  للخبز والماء والكهرباء والتدفئة والوقود. وبجعله أقل شمولًا وموجهًا بشكل أكبر، كان رئيسي يأمل في تحسين نصيب الفئات ذات الدخل المنخفض وتقليل العبء عن الخزينة العامة. إن إنهاء نظام سعر الصرف الإيراني المتعدد سيقلل من الفساد الذي شاب المشروع.
عمليًا، ثبت أن مبادرة رئيسي كارثية، حيث إن المقابلة سببت حالة من الهلع العام. وحسب صحيفة شرق، رصدت مؤشرات جوجل زيادة ملموسة في عمليات البحث عن أسعار الغذاء خلال خطاب رئيسي. ومباشرة بعد الخطاب، زحف الأفراد نحو محلات السوبر ماركت لشراء زيت الطهي والمكرونة والبيض قبل ارتفاع الأسعار. وفي الأيام التي تلت المقابلة، نشر الناس فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي لمشاهد الفوضى في محلات السوبر ماركت، ما تسبب في موجة ثانية من المستهلكين المذعورين في الذهاب لمحلات السوبر ماركت للشراء، وفي بعض الحالات لسرقة المواد الغذائية. طوال الوقت، كانت ردة فعل السوق على الطلب المتزايد هي زيادة حادة على أسعار المواد الغذائية، والتي زادت بمعدل أكبر من تعويض الكوبونات ونسبة الزيادة على الدخل الأساسي العام للفئات ذات الدخل الأدنى.
الأسوأ من ذلك، هو وجود حالة من الارتباك حول من يستحق الحصول على مزايا الدخل الأساسي العام المتزايدة، ومن الذي سيخسر، وكيفية استخدام الكوبونات الرقمية. في 16 مايو  ادعى المتحدث باسم الحكومة أن 90% من المواطنين الإيرانيين يستحقون المزايا الحكومية الموعودة. إن صح ذلك، فهذا سيُفشل هدف الرئيس المتمثل في المساعدة الموجهة. لكن ادعى الكثير من الإيرانيين أنهم  لم يتلقوا التحويلات النقدية في حساباتهم المصرفية. وفقًا لعضو البرلمان علي رضا بكفيترات، فإن أكثر من نصف المستفيدين المستحقين لم يحصلوا على التحويلات النقدية للدخل الأساسي العام. ويدعي الكثيرون أن التحويلات النقدية المحولة لحساباتهم المصرفية قد تم حجزها حتى تصدر الحكومة الكوبونات الرقمية، وليس من الواضح متى سيتم ذلك.
منذ 12 مايو  خرجت الاحتجاجات إلى الشارع، وبالتحديد في المراكز السكانية الحضرية في الأقاليم الحدودية للبلاد، وشملت خوزستان ولوريستان وكوهكيلويه وبوير أحمد وتشهارمحال وبختياري. ومع ذلك، امتدت احتجاجات متفرقة إلى أصفهان وقزوين ومقاطعة طهران الكبرى، الأمر الذى أوحي بإمكانية ظهور انتفاضات تشبه تلك الاحتجاجات التي حدثت في عام 2019 ضد تحرك الحكومة لتحديد حصص البنزين.
اعترف نائب قوات إنفاذ القانون الإيرانية، التي تشكل خط الدفاع الأول للنظام ضد الاحتجاجات العامة قائلا، “إن للناس الحق في الاحتجاج على ارتفاع الأسعار”. ولكنه حذر أيضًا من أن المعارضة “العنيدة” تستغل المحتجين، ربما بالإشارة لشعاراتهم التي ركزت في بداية الأمر على ارتفاع الأسعار لكنها ما لبثت أن تحولت لهتافات ضد النظام، تمثلت في “الموت لرئيسي” و”الموت لخامنئي”، والهتاف لصالح رضا شاه، مؤسس عائلة بهلوي، الذي تمت الإطاحة به في ثورة 1979.
حاليًا، تقوم الشرطة بإدارة الأزمة، ولا يوجد تقارير عن تورط واضح لميليشيا الباسيج أو الحرس الثوري الإيراني في قمع الاحتجاجات. حتى إن الحرس الثوري الإيراني يحاول التودّد للجمهور من خلال حملته ضد المستغلين والمهربين، والذين يقال إنهم يقومون بتخزين زيت الطهي والأرز والسكر والمكرونة ودقيق القمح، وما شابه ذلك، أو يقومون بتصدير المواد الغذائية المدعومة للدول المجاورة.
يحاول رئيسي أيضًا إظهار اهتمامه بمحنة الناس من خلال زيارة مراكز توزيع الدجاج المجمد، وتقديم الوعود بالاكتفاء الذاتي في إنتاج المواد الغذائية الأساسية لحماية السكان. من الناحية الأخرى، في 18 مايو  أرسل المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي رسالة للجمهور، بدت منعزلة ومنفصلة عن الواقع، يحث فيها الشعب على إنجاب المزيد من الأطفال لحماية المجتمع من “آفاق المستقبل المروعة لمجتمع قديم”. ومع ذلك، فهو لم يقدم أي مقترحات حول كيفية إطعام هؤلاء الأطفال.
ومع ذلك، من المحتمل أن تُجبر الاحتجاجات الطويلة والمستمرة خامنئي على تفويض الحرس الثوري الإيراني بتقديم العون لقوات إنفاذ القانون واستخدام قوته العسكرية لقمع الاحتجاجات كما فعل في السابق. ولكن يمكن للنظام أن يتخذ خيارًا آخر، وهو تخفيف معاناة السكان من خلال المكاسب الاقتصادية الموعودة في حال العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة.
ومن المسلم به أن بعض العوامل تعطي طهران سببًا للحذر؛ إن الإدارة الحالية في واشنطن لا تستطيع أن تضمن بقاء الإدارة التي تخلفها ملتزمة بالاتفاق النووي. ومع ذلك، يمكن لإيران أن تتأكد من وصولها لمبلغ يتراوح ما بين 100-120 مليار دولار من الأصول الإيرانية المحتجزة  حاليًا في الحسابات الأجنبية. ويستطيع النظام أن يبدأ تصدير النفط والبتروكيماويات بعد تنفيذ الاتفاق، ويستمر في تلقي العوائد من هذه المبيعات حتى الوصول لاحتمال خضوع إيران مرة أخرى للعقوبات في حال قام الرئيس الأمريكي القادم بالتخلي عن الاتفاق.
قد تظهر الجمهورية الإسلامية ترددًا لأن الإدارة الأمريكية تجد حاليًا صعوبة داخلية في استيعاب طلب إيران بإزالة الحرس الثوري الإيراني من قائمة وزارة الخارجية للمنظمات الأجنبية الإرهابية، قبل انتخابات التجديد النصفي في الثامن نوفمبر/تشرين الثاني. وقد تلجأ إيران للتسويف في قبول الاتفاق إلى ما بعد انتخابات التجديد النصفي، لذلك، لدى الإدارة الأمريكية قدرة أكبر على المناورة في موضوع إزالة الحرس الثوري من القائمة. وحتى في حال إزالته من القائمة، يبقى الحرس الثوري خاضعًا لعقوبات أمريكية أخرى، ما يجعل إزالته من القائمة مجرد فوز رمزي لإيران، وهذه نقطة يتجاهلها النظام في الوقت الراهن.
في الوقت الحالي، تقوم إيران بإرسال إشارات متضاربة؛ في 15 مايو ، أشار كبير المفاوضين النوويين الإيرانيين علي باقري كاني، إلى استعداد طهران للعيش دون خطة العمل الشاملة المشتركة. في 22 مايو/أيار قال وزير الخارجية القطري إنه في الاجتماع الأخير بين أمير قطر وخامنئي في طهران، “عبرت القيادة الإيرانية عن استعدادها لحل وسط يتعلق بالملف النووي الإيراني”، وقد اعترضت وكالة تسنيم الإخبارية، المقربة من الحرس الثوري الإيراني، على كلمة “حل وسط”، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية سعيد خطيب زادة، “لم يتحدث المرشد الأعلى عن حل وسط، ولكنه قال لأمير قطر لقد قلنا دائمًا إن المفاوضات يجب أن تكون مثمرة لا أن تكون مضيعة للوقت. والأمريكيون يعرفون ما يجب فعله لتحقيق ذلك”.
في الوقت الذي تكون فيه الدلالات والمعاني، وليس ما هو منطوق، في صميم الجدل المتعلق بتصريحات خامنئي لأمير قطر، فإن وقت النخب الحاكمة في الجمهورية الإسلامية ينفد، ويمكن للنظام أن يقدم للجمهور الإيراني الفقير اتفاقًا نوويًا وخبزًا أو تعنتًا في فيينا ورصاصًا.
----------------------------------------------
علي آلفونه هو كبير باحثين في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.