بقلم : خالد الرويعي
عام ١٩٩٠، وفي انهماك مبكر وشغف بالكتابة والقراءة. وقبل دخولي في الجسم الثقافي والمسرحي، وجدتني اقرأ نص "الجواشن" لقاسم حداد وأمين صالح. فضول العنوان واجتماع كليهما في نص واحد اشبه بالنصوص الاوابد. وهذا الدفق المحتدم لصورة الانسان في تحولاته منذ اللغة وحتى معترك الدم والحياة.. كل ذلك الضجيج والغموض الفاتن. يتوجه اهداء شفيف: "إلى علي الشيراوي.. بلاغة الحب".
من هو هذا الشيراوي الذي حظي بفخامة هذا الصوت وهو يصدح بين اوراق النص.. من هو هذا الذي ارتقى بالحب حتى بلاغته. ثم كيف لهاذين الساحرين اللذين خاضا غمار الحرب في الجواشن بلغتهما المتوحشة وأصدائها العنيفة ان يكسرا ذلك بهاتين الكلمتين ويغلقان النص. "بلاغة الحب".. هل هي بالبساطة تلك؟!
نعم هي بتلك البساطة عندما تكون السيرة متقاطعة ببلاغة حب مثل علي الشيراوي.
بعدها بفترة وجيزة.. وفي ليلة من الليالي تقف تلك السيارة "الجيب" بجانب منزل علي الشرقاوي.. ينزل شخص ضخم البنية يمشي بتثاقل لفرط السمنة.. إنه "علي الشيراوي".. هكذا من على مبعدة. الهالة التي تحيطه لا تسعفك بأن تلقي السلام عليه. لكن حدثت المواجهة أخيرا عندما كنت ازور "جاسم شريدة" في ايامه الأخيرة بالمستشفى. كنت اتحين الذهاب مبكرا لأتفادى كمية الخجل على ملامحي في حضور الآخرين. واذا بالشيراوي يدخل.. إنها لحظة اللقاء.. لحظة تبادل النظرات بشكل مباشر وليست تحايا عابرة.. فيبدي اعجابه بمسرحية اسكوريال التي كنا قد قدمناها قبل ايام.
ترى من هو الشيراوي؟
هذا السؤال ظل يرافقني سنوات طويلة.. إذ لا يمكن أن تكون "بلاغة الحب" تمشي على قدمين ببساطة هكذا.
ثم يأتي يبدي ملاحظته على تأبين جاسم شريدة في الصالة الثقافية بمدينة عيسى.. يدخل بجسمه الممتلىء وانحناءة ظهره الخفيفة وصوته الفخم.
ثم عرفته واحببته.. يقول عن نفسه قليلا ويقول الاخرون عنه أكثر.. عن سنوات النضال والرفقة. عن المغامرات برفقة الاصدقاء.. عن ساعات الفرج والخذلان. كان يقول و(يتحندا) ويتابع التجارب المسرحية الغربية ويترجم نصوصا تجريبية. يحب المسرح ومن فيه.. يحب (أوال) وينتقد (أوال)، معجب بالصواري ويزعجه التعثر.. يحب حضور العروض المسرحية ويزعجه ان لا يستطيع ان يجلس في الخلف كعادته (خالد.. ما اقدر اصعد). ثم يمرض ونحن نراقب اللحظات الدقيقة والصعبة لمرضه.. لكنه مقاوم شرس.. يصل الى المطار بعد عودته مع الشرقاوي وكأنه خارج من معركة شرسة.. فيبدأ مسيرة التأقلم من جديد بلسان متلعثم وكلام مبهم.. فيستغرب الاصدقاء من كثرة حديثي معه لعدم فهمهم له بسبب مخارج الحروف الباردة بعد العملية الجراحية. ثم صار الشرقاوي رفيق المكان.. جمعهما السجن في البدايات وفي آخر العمر يسجنان بعضهما ببعض.. أليست هذه من بلاغة الحب.
وتمضي الايام.. ويأتي الفقد هكذا فجأة.
ستضيق الطرق الان أكثر.. فقد غاب. وأخذ المرآة معه.. مرآتي الى الشرقاوي أخذها معه.
يذهب علي الشيراوي.. لكن بلاغة الحب حاضرة.