DELMON POST LOGO

البرنامج الحكومي وعظمة شعبنا .. ( من الاقتصاد الرأسمالي إلى الاقتصاد الأخلاقي)

بقلم :عبدالله جناحي
البرنامج الحكومي الذي يناقشه الجميع كل أربع سنوات، وفي النهاية سيتم اعتماده من قبل النواب مع بعض التعديلات الشكلية. لكن لنحلل الجانب الإنساني في هذا البرنامج، وهو الجانب الأهم لأغلبية شعبنا، وهذا هو سر قوة وعظمة شعبنا من جهة، وعدم تنفيذ هذا البرنامج بالشكل الطموح من جهة ثانية. كيف؟.
المفكر الألماني زيجمونت بومان في كتابه "الحب السائل" يقدم رؤية عميقة لبرامج حكومية لا تراعي الجوانب الإنسانية، وتركز فقط على الأرباح والناتج القومي الإجمالي. فلنستمع إليه:
(( اقتصاد السوق والاقتصاد الأخلاقي: إن الناتج الإجمالي للسعادة البشرية يزيد كلما زاد تبادل النقود بين الناس. ففي مجتمع السوق يطغى تبادل النقود على كل شيءٍ آخر. إن نموذج الناتج القومي يهيمن على-بل يحتكر- تصور أهل المجتمع الحديث السائل المتحرر حول النزعتين الفردية والاستهلاكية لفكرة الرفاهية و"المجتمع الصالح". هذا النموذج المهيمن ينكر أي أهمية موضوعية لقضية الثراء القومي والسعادة الفردية والجمعية. الكائن الوحيد في نظر صناع القرار الرأسمالي الجدير بالاهتمام هو ذلك الكائن صاحب الفضل في "استمرار دوران عجلة الاقتصاد" وتشحيم عجلات النمو الاقتصادي، إنه "الإنسان الاقتصادي" المنعزل المتمركز حول نفسه ومصالحه من أجل تحقيق أفضل الصفقات، وهو الكائن المستهلك للسلع، المتسوق الذي يجد من سرب المتسوقين في المحال التجارية الجماعة الوحيدة التي يعرفها ويحتاج إليها، إنه "إنسان بلا صفات". إن الإنسان الاقتصادي والإنسان الاستهلاكي يشيران إلى رجال ونساء بلا روابط اجتماعية. وهذا عكس "الاقتصاد الأخلاقي": الاشتراك الأسري في البضائع والخدمات، وعون الجيران ومساعدتهم، وتعاون الأصدقاء. أي كل الدوافع والبواعث والأفعال التي تنسج منها الروابط الإنسانية والالتزامات الدائمة. بفضل صمام الأمان الذي يمثله "الاقتصاد الأخلاقي"، وقد عجزت الاضطرابات التي ولّدها اقتصاد السوق عن اكتساب أبعاد انفجارية، وبفضل مُمتص الصدمة الذي يمثله "الاقتصاد الأخلاقي" عجزت النفايات البشرية التي ولّدها اقتصاد السوق عن الخروج عن السيطرة. فلولا التدخل التقويمي المخفّف الملطّف المُعَوض الذي يمثله "الاقتصاد الأخلاقي" لَكشَف اقتصاد السوق عن رغبته التي تدمر نفسها بنفسها. إن ما يصوره غزو السوق -المتحقق بالفعل أو المزمع- على أنه "منطقة رمادية" ينظر إليها أهلها الذين تعرضوا للغزو الكامل أو الجزئي، يرون فيها جماعة تراحمية وجيرة ودائرة أصدقاء وشركاء في الحياة وشركاء من أجل الحياة، يرون فيها عالماً يسوده التضامن والمحبة والمشاركة والتآزر والتعاطف. وهي جميعها أفكار غريبة على الفكر الاقتصادي الرأسمالي، ومكروهة في الممارسة الاقتصادية)).
الاقتصاد الأخلاقي أنقذ الشعب:
بفضل هكذا نوع من الاقتصاد الذي يراعي مشاعر الناس واحتياجاتهم، وهو الاقتصاد غير الرسمي، اقتصاد أغلبه في القطاعات غير المنظمة، وغير التابعة للاقتصاد الرسمي المطبق عليه "وحشية" النيورأسمالية. هذا الاقتصاد الذي صنعه شعبنا كضرورات الواقع هو الذي أنقذ الشعب الفقير، أو العاطل، أو المغضوب عليه، والمهمش،،،إلخ. فلولا التعاضديات والتضامنيات والتعاونيات، لما تمكن هذا الشعب أن يستمر في التنفس والحياة -من أحلك الظروف التي مرت به، وحتى أشرس السياسات وأوحشها التي تم تطبيقها، سواء الاقتصادية أو غير الاقتصادية-.
ولذلك لاحظنا توسّعًا ملحوظًا في القطاع غير المنظم في الاقتصاد، سواء بروز الاقتصاد المنزلي الذي يصعب السيطرة عليه، وصيد وبيع الأسماك، والخضروات والفواكه خارج السجل التجاري، وارتفاع ملحوظ في الخدمات والتصليحات والصيانة، سواء المنازل أو السيارات أو الأدوات والأجهزة، وأيضاً خارج السجل التجاري، بل وحتى خدمة التوصيل وسيارات الأجرة غير المرخصة.
كل هذا التوسع في هذه القطاعات غير المنظمة وغير المسجلة رسمياً، هو الذي خلق ويخلق الإرباك والخسائر في المدخلات التي من المفترض أن تدخل كإيرادات للدولة. فأغلبية هذه المهن والأعمال من الصعوبة تطبيق الضرائب والرسوم عليها. وهذا "ما جنته يداي" بإصرار في تطبيق السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي لا تراعي الأبعاد الاجتماعية، والعدالة الاجتماعية، والمعيشة الاجتماعية اللازمة للإنسان المواطن، وزيادة البطالة في صفوف المواطنين. فمن المعروف بأن لكل فعل، ردة فعل. وهذا ما وضحه المفكر الألماني في تبيان فوائد الاقتصاد الأخلاقي كبديل عن الاقتصاد الرأسمالي.
حِبَّ جارك كما تحب نفسك:
هذه وصية معروفة في معظم الديانات الأرضية والسماوية. إنَّ الامتثال لهذه الوصية -حب الجار، بمفهومه الواسع يعني حب الناس، حب الفقراء، والمتقاعدين، حب أهل الفريج والقرية- هذا الحب هو ميلاد الإنسانية، وما عدا ذلك فمجرد تفاصيل قائمة أو مستجدة -غير كاملة- للتعايش الإنساني. (( ربما يتطلب حب الجار قفزة إيمانية، لكن النتيجة هي ميلاد الإنسانية، وهو أيضاً الانتقال المقدر من غريزة البقاء إلى الأخلاق. إنه انتقال يجعل الأخلاق جزءاً من البقاء، وربما شرطاً لا غنى عنه من أجل البقاء، فيصبح بقاء إنسان ما بهذا المكون -الفطرة- بقاء الإنسانية الكامنة في الإنسان. أما "حب النفس" فهو موجود بشكلٍ دائم. إن حب النفس هو مسألة بقاء، والبقاء لا يحتاج إلى وصايا ما دامت الكائنات الحية الأخرى-غير البشرية- تعيش في أحسن حال من دون وصايا. لكن حب الجار مثل حب الناس يجعل بقاء الإنسان مختلفاً عن بقاء غيره من الكائنات الحية. فمن دون هذا الامتداد/العلو الذي يتخذه حب النفس لا يكون امتداد الحياة الجسدية المادية في حد ذاته بقاءً إنسانياً، فهو ليس البقاء الذي يفصل البشر عن الأنعام -وعن الملائكة أيضاً- إن الوصول إلى حب النفس يحتاج إلى حب من حولنا، وانتفاء هذا الحب -أي الحرمان من كون المرء موضوعاً يستحق الحب- يوَلِّد الكراهية للذات والنفس. فحب النفس نبنيه من الحب الذي يمنحنا الآخرون إياه، فلابد من أن يحبنا الآخرون بداية حتى يمكننا أن نبدأ في حب أنفسنا)). وبالاختصار: حب الشعب للبرامج الرسمية المطبقة عليهم لن يتحقق، إلا إذا بدأ القائمون على هذه البرامج في حب الشعب، حباً حقيقياً، وبدون هذا الحب للشعب، لن يصلوا إلى راحة البال وحب الذات، بل سيولِّد الكراهية للذات.
هذه الدُرر من كلام المفكر الألماني في كتابه "الحب السائل" ينبغي أن تكون خارطة الطريق الاقتصادية، والبوصلة لأصحاب القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بدلاً من الترويج والتسويق الإعلامي-النظري فقط- بأن الأولوية للإنسان ومشاعره واحتياجاته و"سعادته"، في حين جوهر الأفعال والسياسات، نقيض هذا الترويج الإعلامي، حيث المزيد من الضرائب على الفقراء وذوي الدخل المحدود، والمزيد من سحب الحقوق والمكتسبات للمتقاعدين والعاملين.
إذن على حكوماتنا العربية أن تعيد النظر بصدق وشفافية بأن التنمية الإنسانية المستدامة تبدأ بالإنسان، وغايتها الإنسان، وليس أي شيء آخر. فالوطن خلاف الشركة، حاجة الإنسان، خلاف حاجة الشركة إلى الربحية التي هي غايتها الأولى والأخيرة، أما غاية الاقتصاد الحكومي خلق الرفاهية والسعادة للمواطن. وشتان بين الثرى والثريا!!.