DELMON POST LOGO

متلازمة "تايتانك" .. إدارة الاقتصاد في المجتمعات الفاشلة والمتوحشة

بقلم :عبد الله جناحي

سمات الاقتصاد الاستهلاكي:
هذا النمط من الاقتصاد الرأسمالي الحر  يعتمد بالطبع على المستهلكين، ولكن لا بد من أن نخلق فيهم الخوف وأن  يتملكهم الرعب، ويراودهم الأمل بأن  الأخطار والأزمات الاقتصادية التي تعلنها الحكومة من الممكن القضاء عليها  بشرط الرضوخ التام لإجراءاتها التقشفية  من جهة، وقوانينها الضريبية من جهة ثانية.
هذه المخاوف يسميها زيجمونت  باومان في كتابه (الخوف السائل)  بمتلازمة (تايتانك) نسبة إلى الفيلم  العالمي المعروف عن غرق السفينة  الضخمة بعد اصطدامها بجبل جليدي  عائم في المحيط. فالحكومة تنشر الأرقام، وتعقد  المؤتمرات الصحفية، وبالطبع تبث  الرعب في القلوب الرقيقة والمرتعشة  من النواب والتجار!، بأن  هذه  المخاوف (العجوزات + الدين العام وغيرهما) ستؤدي إلى  إنهيار أو كارثة قد تقع علينا جميعاً،  كارثة  تضرب بعشوائية ومن دون تمييز.
ويوضح كتاب "الخوف السائل" بأن مؤسساتنا السياسية التنفيذية على  وجه  الخصوص، والتشريعية- إن  وجدت!- والتي نعتمد عليها عند الأزمات  باعتبارها خطوط الدفاعات الرئيسية عن  حقوقنا المعيشية والتقاعدية والحياتية،  إنما هي مؤسسات تتكيف مع خدمة  (نظام  الأنانية)، وأن  المبدأ الرئيس  الذي يقوم عليه ذلك النظام هو  (الرهان  على الأقوياء)، (رهان على الأغنياء، رهان  على أصحاب المهارة والقوة والحظ بأن  يصيروا من الأغنياء). فبالطبع، هؤلاء  المنخرطون في نظام الأنانية  سيرضخون لسياسات اقتصادية، كالقبول  الصامت  برفع الدعم الحكومي عن الوقود  والكهرباء، كبداية، رغم  أضرارها المعروفة في رفع التكاليف على  منشآتهم وعقاراتهم. هنا تقوم الحكومة  بالكشف عن متلازمة تايتانك بشكل  واضح؛ فعندما يتعلق الأمر بإخلاء  سفينة الاقتصاد في أثناء غرقها أو إيجاد  مقعد في مركب نجاة، فلا تجدى  المهارة ولا القوة المالية التي ينادون بها  هؤلاء الرسميون والنواب والتجار كسمة أي اقتصاد حر وتنافسي مثل اقتصادنا!.
هذه الحقيقة المحزنة والمؤلمة لآلاف  من شعبنا يواجهها  كل  يوم. فما جدوى  المهارات والقوة عندما يتحول المرء إلى  عاطل وهو يرى أمامه وقد تحولت الوظائف في المنشآت للأجانب- ولربما  مهاراتهم قد اكتسبوها من خبرات  المواطنين. ما فائدة المهارة والشهادة  والخبرة والرؤى الاقتصادية التي تتشبث بشعارات الأولوية للمواطن.  ما فائدة ذلك عندما تتجه  الدولة-  الشركة- إلى إلغاء، بل تمزيق عقود  عمالها، وانتهاك حقوق متقاعديها، وعندما تسعى الشركة- الدولة- إلى  التخفيضات الكبيرة في الرعاية الصحية  والتعليمية عن طريق المزيد من تخصيصها، وتخفيض إعانات التقاعد.
يقول المفكر الفرنسي جاك أتالي عن فيلم (تايتانك): "تايتانك هي نحن، إنها مجتمعنا الأعمى المنافق الذي لا يرحم  فقراؤه، مجتمعاً يتوقع فيه كل شيء إلا  وسائل حماية الناس من المخاطر. إننا  جميعاً نظن أنه يوجد جبل جليدي عائم  ينتظرنا، يتربص بنا في مكان ما في المستقبل الضبابي، وسنصطدم به".  نعم هذه هي جوهر السياسة الاقتصادية/ السياسية في أي مجتمع فاشل اقتصادياً ومتوحش في سياساته تجاه الفقراء والسواعد المنتجة؛  حيث تخلق  الخوف وتنشره في قلوب وأدمغة الناس أجمعين، تمهيداً للمزيد من الإجراءات  التقشفية، وفرض المزيد من الأعباء  الضريبية، والتحرر من تحمل مسؤولياتها  وواجباتها-  كعقد  اجتماعي/سياسي-  بينها  وبين الشعب.
وفي كل مرة تعلن بوجود جبال جليدية عائمة لا جبل  جليدي واحد، بل عدة جبال، وربما  جبال جليدية لانهائية، جبال جليدية  مالية واقتصادية وسياسية وأمنية واجتماعية.
فكلما  قررت  تحويل  ميزانية  الدولة  إلى ميزانية  شركة  تجارية، وبالتالي  عليها  أن  تنتهي  السنة المالية  بالمزيد من الأرباح والإيرادات  التي ستذهب صوب الثقوب السوداء  بدل أن تنعم الناس بخيراتها، كلما  أعلنت بأن سفينة اقتصادنا قد اقتربت  من الاصطدام بجبل جليدي عائم، فترتعش القلوب وتخاف الناس وتبصم  على القوانين، لترتفع نسب الضرائب،  وتتراجع الحقوق العمالية والتقاعدية  والصحية والتعليمية والإسكانية  والمهنية والسياسية والحزبية والمدنية، والكل في تلك اللحظة يتذكر لحظة غرق  سفينة تايتانك، حيث لا القوة ولا المال  ولا المهارة ولا حتى الحظ يكون عوناً ومنقذاً  للناس  الأغنياء  منهم  والفقراء،  فلا مقعد  نجاة  متوفر، اللهم من أعد  نفسه مسبقاً بالهروب من هذا الجحيم،  وترك متلازمة  تايتانك تمارس دورها في التلاعب بعقول الناس الذين لا حيلة لهم سوى البقاء في الوطن!.