DELMON POST LOGO

الواحد منا يحمل في الداخل ضده

بقلم : عبدالله جناحي

للشاعر العراقي مظفر النواب قصيدة مشهورة تبدأ بالنص التالي:

{قتلتنا الردة ...قتلتنا الردة، إن الواحد منا يحمل في الداخل ضده}. حيث يتألم من الواقع العربي وبعض الأنظمة الحاكمة التي تقول عكس ما تفعل، تخاطب شعوبها بالشعارات الوطنية، والعروبية والدفاع عن فلسطين، وإيمانها بالديمقراطية والحرية وصيانة الحقوق، والعدالة والمساواة، وتفعل نقيض هذه المبادئ؛ ففي الوطنية هي ترهن مصير الأوطان للأميركان. وفي العروبية تقف متفرجة أمام فاشية ونازية الكيان الصهيوني تجاه شعبنا الفلسطيني ومقاومته الباسلة -بل بعضها تدعم هذا الكيان في مجازره وإبادته للشعب الفلسطيني-. وفي الديمقراطية والحرية وصون الحقوق نراها تمارس الاستبداد وقمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان. وفي العدالة والمساواة نراها تنفذ سياسات اقتصادية واجتماعية نيوليبرالية متوحشة، تؤدي إلى المزيد من الطبقية الحادة في المجتمع، والتمييز، واستلاب الحقوق المكتسبة في التعليم والصحة والخدمات العامة والتقاعد، وفرض المزيد من الضرائب والرسوم،،،إلخ إلخ إلخ.

قال تعالى في سورة البقرة:  }وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكم. {

وبعيداً عن سياق وأسباب نزول هذه الآية، فإن مضمونها تنطبق تماماً على بعض حكام العرب. إنهم "يكرهون" الكيان الصهيوني جوانياً، ولكنهم يتحالفون معه لأنه "خيرٌ" لهم ولاستمرارية بقائهم في الحكم. وهم يحبون الديموقراطية ظاهرياً باعتبارها "خيراً" لهم، ولكن يعلمون، علم اليقين، جوانياً، بأن هذا الخير، "شراً" لمستقبل حكمهم وامتيازاته من سرقة الثروات  والموارد العامة.

هؤلاء الحكام يناقضون أنفسهم، يفعلون عكس ما يقولون: كلٍ يحمل في داخله نقيض ما يظهره في العلن.

في كتاب (زمن الغضب، تأريخ الحاضر)، للمفكر الهندي بانكاج ميشرا، يكشف هذه التناقضات بين الأفعال والأقوال لدى كثرة من الزعماء والثوار والمفكرين والفلاسفة.

إن البرنامج العقائدي والعملي لهؤلاء لا يخضع لتصنيف الأفكار والحركات (الفاشية، الإمبريالية، الليبرالية، البلشفية، الإسلاموية، الصهيونية، القومية الهندوسية)، أو من التقسيمات الكبرى مثل: «اليسار» و «اليمين»، و«الليبرالي» و«المحافظ»، التي يقوم عليها فهمنا للتاريخ وشؤون الحياة، فكل تصنيف ينهل من عقيدة التصنيف الآخر. إن التركيز على هذه التصنيفات تَبعِدنا عن استكشاف "التطلعات والآمال والأوجاع والفزع التي يشترك فيها اليسار واليمين، والغرب والشرق، وحركات تبدو متصادمة"، ولكنها في العمق تكتشف ذلك التناقض بين الأفعال والأقوال. يتساءل صاحب (زمن الغضب) "أَفَلمْ يولع بفكر نيتشه العنيف والمدمر كل من أديب الثورة البلشفية ماكسيم غوركي، ومحمد إقبال الشاعر المدافع عن أصل الإسلام، ولو شون داعية الحياة الجديدة في الصين ورائدها في الأدب الحديث". إذا كان ما يقوله هذا المفكر الهندي صحيحاً، أو دقيقاً، فكيف للروائي الروسي (غوركي) صاحب الروايات الإنسانية العظيمة، كرواية (الأم)، أن يؤمن بفلسفة نيتشه الداعية إلى القوة والقتل، والأمر كذلك مع محمد إقبال، الإسلامي المتسامح.

يواصل المفكر (ميشرا) في "فضح" وحدة العقيدة بين المؤمنين بالاشتراكية وعتاة الرأسماليين، قائلاً " إن أعداء الإمبريالية وبارونات الصناعة الأميركية الناهبين نهلوا على حد سواء، من هربرت سبنسر، مفكر القرن التاسع عشر متعدد الأبعاد الذي يُعتبر أول مفكر عالمي وضع مفهوم «البقاء للأصلح» بعد قراءته أعمال داروين. كما أن هتلر كان يُجل أتاتورك، باعتباره "أب الأتراك"  ويعتبره معلماً له؛ أما لينين وغرامشي الشيوعيان فكانا من المتحمسين للنظرية التايلورية ومفهوم الأمركة في إدارة الصناعة، بينما استلهم دعاة "العقد الجديد" New Deal  في أمريكا أساليبهم من مفهوم التشاركية (corporatism)  الذي نفذه موسوليني. أما هرتزل فقد ألف في عام 1895 كتابه «الدولة اليهودية» الذي يعتبر البيان التأسيسي للحركة الصهيونية متأثراً بفاغنر الموسيقار الألماني الذي كان من أبرز المعادين للسامية في القرن التاسع عشر.

وبعد ثلاث سنوات من ذلك حث رشيد رضا الذي يُعد أبا الأصولية الإسلامية الحديثة، على أخذ العبرة من انبعاث  "الأمة اليهودية"، وشهَّر بالمعادين للضابط اليهودي دريفوس في فرنسا". لقد شهدت نهاية القرن التاسع عشر عبر العالم صراعاً قلقاً من أجل البقاء وخوفاً عميقاً من «الانحطاط» و"وفقدان الرجولة، وحنيناً لاهوتياً للأخلاق الصارمة، وانتشاراً لفكرة -الإنسان الجديد- و -النظام الجديد-.

وغذّى كل ذلك أيديولوجيات تبدو متناقضة بل متصادمة، بيد أنها نمت في نوع من التعاضد، من قبيل الصهيونية، والأصولية الإسلامية، والقومية الهندوسية، والمركزية الإثنية البوذية، والإمبريالية الجديدة، والبلشفية، والفاشية، والنازية".

كلٌ يقول لعقيدة الآخر: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم. كلٍ يحمل في داخله تناقضات ما يقوله لشعبه وجماعته ومريديه.