DELMON POST LOGO

الفرق بين الذباب الإلكتروني وزخات المطر

بقلم : عبدالله جناحي

لم تعد سياسات الإعلام والدعاية المخادعة والكاذبة نافعة ومفيدة للتلاعب بالعقول وغسل أدمغة الناس والشعوب. ولم تعد وسائل الإعلام والنشر والتعميم والانتشار الجماهيري حكراً، وتحت هيمنة الحكومات. فوسائل التواصل الحديثة أصبحت لدى الجميع دون استثناء. وبفضلها سرعان ما تنكشف الحقيقة وتنفضح، كما ينكشف الخداع الذي تمارسه الحكومات، سواء بحق شعوبها أم بحق الشعوب المتصارعة معها. هذه الحكومات تستغل شبكات التواصل الحديثة، وتُشكل ما سمي بـ"الذباب الإلكتروني" المستخدم بكثرة في المساس بالمعارضين وتشويه مواقفهم ومواقف أحزابهم على الصعيد الداخلي، وتحسين سمعتها ومواقفها "وعدالة" حروبها، وتشويه سمعة ومواقف عدوها على الصعيد الخارجي.

هذه الفِرَقْ من العملاء الذين يقدمون خدماتهم بسرية أو علنية، وفي غرف "مظلمة" مقابل عمولة مالية، والأمل الواهم بالجاه والمناصب. لكن سرعان ما ترتد هذه السياسة المخادعة على هذه الحكومات، لتكتشف بأن كل جهودها وكذبها وخداعها الإعلامي قد تبخر، وتناثرت كحبات الرمال، وساحت أصباغ المكياج  من زخات المطر، الحرة، والمنتشرة في كل بيت، الجماهيرية، العفوية، الصادقة، من أناس يتضامنون وينشرون بعدما كشفوا الوجه القبيح لهذه الحكومات، دون مقابل مادي، بل بإقدام صادق وعفوي معبر عن عودة الوعي لديهم من زيف كان يعمي أبصارهم وبصيرتهم. وأن كل هذا الاستنزاف الحكومي في المال، والوقت، وإهمال الأولويات الوطنية والقومية على حساب استمرار خلق "جمال" مخادع لسياساتها، كل ذلك لم يحقق النتيجة المنشودة. وليتذكر كل واحد منا حملات الذباب الإلكتروني في محطات سياسية مفصلية، ومآلات هذه الحشرات ومصيرها بعد استنفاذ دورها المخطط له.

المصداقية وإخفاء الحقائق:

لقد انتهى دور الرقيب في فضاء الإعلام الإلكتروني، فالجميع قادر أن ينشر ما يشاء من الأخبار والصور والفيديوهات، الصحيحة منها والمضللة، والمضخمة لصالح طرف، والتصغير من أفعال الطرف المضاد. وهنا أيضا يأتي دور الذباب الإلكتروني، وتعمده نشر ما سيؤدي إلى تضليل المشاهدين والقراء من جهة، ودور الصادقين في تبيان الحقيقة دون رتوش، وكشف خطط التضليل للذباب الإلكتروني.

في مقال بعنوان (لماذا نشر الأخبار المضللة لا يفيد القضايا العادلة؟. القضية الفلسطينية مثالاً). يشير إلى أن الخبر الصحفي "يعتمد عادة على عدة عناصر أهمها عنصر الزمان وعنصر المكان، إضافة إلى أهمية تفاصيله، وإن أي تغيير أو إخفاء لأحد هذه العناصر الرئيسية بقصد أو دون قصد قد يدخل ضمن التضليل وخداع الرأي العام. علماً بأن نشر الأخبار المضللة دون التثبت منها قد ينقلب بشكل عكسي وتكون له آثار سلبية، تستغل أحياناً كثيرة من قبل العدو بغرض التكذيب ونشر الدعاية المضادة للخطاب المرجو إيصاله ووصم أصحاب القضية باللامصداقية، ومع الوقت يضعف موقف أصحاب القضية العادلة. والحقيقة أن كمية المعلومات الكبيرة والمضللة إضافة إلى سرعة انتشارها عند بداية وقوع أحداث مفصلية تفتح لنا باب التساؤل: هل نحن أمام موجة من (Infodemic) أو "وباء المعلومات" التي يستخدمها العدو لإلهاء الناس وتشتيت الجهود الواجب اتجاهها نحو المكان الصحيح؟". فمثلاً يتعمد الذباب الإلكتروني - أو حتى النشطاء- إرسال مقطع فيديو، دون التدقيق بمدى دقة وصحة الفيديو، لجندي صهيوني يركل أحد المصلّين، ليأتي الرد سريعاً من قبل حكومة الكيان الصهيوني بأن هذا الفيديو قديم من سنة 2017 لأحداث ما يعرف بانتفاضة البوابات الإلكترونية، وبالبحث حول ادعائها تبين أنه صحيح. وفي تغريدة أخرى تعيد الحكومة الصهيونية نشر صورة تداولها النشطاء والمغردون (https://bit.ly/3Mrdh3v) مع تصحيح لها مع ذكر مصدرها الأصلي مع جملة باللغة الإنجليزية "لا تصدق كل ما تراه - ساهم بنشر الحقيقة حول إسرائيل" مما يعزز الفكرة أن الجانب الفلسطيني يستمر في نشر الأكاذيب والأخبار المضللة. إذن هناك صراع وتنافس بين الحقيقة والتضليل في هذه الشبكات، "حيث  يتم استغلال صور مزيفة في التغطية على هجمات حقيقية، فيتم ربط الخبر الكاذب المتداول بخبر حقيقي يحصل في نفس الوقت، فعلى سبيل المثال تداول العديد من المغردين صوراً لما قالوا إنها لضحايا أطفال من غزة (https://bit.ly/3nY5zna) والملفت أن إحدى هذه الصور تم تداولها بشكل كبير لطفلة مصابة باحتراق نتيجة تعرضها لمادة الفسفور الأبيض، وهنا تنشر مغردة أخرى نفس صورة الفتاة التي تزعم أنها فلسطينية تعرضت لهجوم باستخدام الفسفور الأبيض (https://bit.ly/40RdH7w) المحرم دولياً - لتقوم بإزالتها لاحقاً -، بعد تفنيد ادعائها ونشر المصدر الأصلي للصورة، ووقتها عند سؤالنا لصحفيين ونشطاء في قطاع غزة عن حدوث هجوم بالفسفور أجابوا بالنفي، لتأتي التقارير بعد أربعة أيام نقلاً عن المتحدث باسم الدفاع المدني وخبراء عسكريين باستخدام الكيان لقذائف الفسفور شرق غزة. وهنا علينا الحذر من خبث وغدر الذباب الإلكتروني من جهة، وعدم الدقة وسرعة توزيع الصور والفيديوهات من قبل المتعاطفين مع المقاومة الفلسطينية من جهة ثانية، حيث يتم إما سحب المتعاطفين للشباك، أو استغلال أخطائهم لإضعاف التعاطف العالمي مع الحق الفلسطيني. فالاحتمالية واردة في وجود "لجان من قوات الاحتلال تنشر هذا النوع من التضليل بين النشطاء ليقعوا ضحية الدعاية الصهيونـية، والقصد منها "إغراق مواقع التواصل الاجتماعي بصور لضحايا هجوم بسلاح محدد، وعند حصول الهجوم الحقيقي تكون منصات التدقيق قد نفت حصول هذا النوع من الهجوم قبلها، فينتج عنه تضارب في الأخبار وتقليل الزخم المطلوب للتفاعل مع الهجوم الحقيقي، وتشويه صورة الإعلام البديل الداعم للقضية العادلة، فيتسبب دون قصد بالترويج للرواية الصهيونية وأجنداتها الإعلامية". إن الصور والمقاطع المصورة والأخبار المتاحة تكفي لإظهار مدى المعاناة التي يعيشها الضحايا لإيصال صوتهم، ويكفي أن تكون الصور المنقولة هي الصورة الحقيقية بعيداً عن التضليل. وفي نهاية المطاف يستحق المتابع بأن يعرف الحقيقة كما هي حتى وإن خالفت توقعاته أو لم تتوافق مع رغباته وميوله.

زخات المطر تمحي أصباغ المكياج للذباب الإلكتروني:

لنأخذ مثالاً واقعياً على المقصد من وراء تلك الفقرات المذكورة أعلاه. فالكيان الصهيوني منذ تأسيسه، بل وقبل ذلك، عبر أذرع وفروع الحركة الصهيونية العالمية، كانت الدعاية عنصراً أساسياً في بقائه واستمرار الدعم له شعبياً في الداخل، وعالمياً. فمن المعروف بأن أحد أهم الأجهزة لديه، هو جهاز الدعاية المسمى بـ"الهاسبارا". ويستعمل اللفظ العبري "هاسبارا" الذي يعني "تفسير"، للدلالة على عمليات الدعاية التي تقوم بها الحكومة الصهيونية ومجموعات مساندة لها، ومنها مجموعات الذباب الإلكتروني. إن لفظة هاسبارا تعني أن موقف الكيان الصهيوني دائماً صحيح، فقط يتعين "تفسيره". وقد تم تطوير جهاز الدعاية فأضحى جهاز الهاسبارا أمراً ملحاً بعد قيام حركات التحرر الفلسطينية والعربية والعالمية بخطوات مؤثرة لتبيان خداع وكذب الدعاية الصهيونية، ذلك (بأن مسؤولي السياسات الحكومية الصهيونية واعون جيداً بأن مشروعية مطالبهم مبنية على تقديم عدة حجج تستجيب للإحساس بالذنب لدى العالم "المسيحي"، والحذر أو خشية الرأي العام وأصحاب القرار الغربي من الشعوب العربية والإسلامية. ولإغلاق باب النقاش يشهر الهاسبارا الإحساس بالذنب القائم لدى غير اليهود، من خلال الإشارة إلى: أولاً: معاداة السامية الشاملة وغير التاريخية، وثانياً: الإبادة التي ارتكبت خلال الحرب العالمية الثانية والتي يتم تمييزها عن كل الجرائم ضد الإنسانية، وبأن الهولوكوست يتعالى على التاريخ.

إن أنشطة الهاسبارا على هذه الصعد تتضمن سلسلة من رحلات مجانية للتأثير على الصحفيين؛ منتديات لفائدة طلبة جامعيين يهود قد يقضون أسبوعاً في مكان معزول فيصبحون مهيئين للدفاع عن كيانهم في الميدان؛ أعمدة صحفية في الجرائد مدفوعة الثمن والتوجيه للصحافي، وأهم من ذلك أموال لتمويل الحملات الانتخابية؛ مصورو الانتفاضات الجارية في فلسطين وكُتابها يتم توجيههم أو التحرش بهم حسب الظروف لكي ينشروا هذه الصور لا تلك، أو قتلهم. معلقون تم تكوينهم على إثارة موضوع الهولوكوست والأوضاع الصعبة التي تعيشها "اسرائيل" اليوم؛ إعلانات كثيرة في الجرائد الغربية تتهجم على العرب وتمدح "اسرائيل"؛  قيادات جمعوية ومربين ونشطاء داخل الكيان الصهيوني، وطلبة في الشتات مَثَّلَ الأولوية لدى جهاز هاسبارا حيث يرصد إمكانيات معقولة لمحاصرة "الإرهاب السيبرنطيقي". "هم شباب مولعون بالإعلاميات ويتقنون لغة أجنبية واحدة على الأقل، للرد على الانتقادات التي تعج بها المدونات والبريد الإلكتروني لكبار الصحف الأوروبية والأمريكية.

كل هذه الجهود والخطط الهادفة للتلاعب بعقول الشعوب في العالم، وخاصة في الغرب الأوروبي والأميركي، كانت تحقق نجاحات ملموسة في فترة ما قبل انتشار شبكات التواصل الجديدة، بمعنى تمكنت الدعاية الصهيونية وذبابها الإلكتروني من تجميل وجهها القبيح بمكياج جميل، ولكن في هذه المرحلة وبعد طوفان الأقصى، وانتشار الصور والفيديوهات عن بشاعة ما تمارسه الآلة العسكرية الصهيونية من إبادة جماعية وتدمير وقتل، تغيرت المعادلة الجماهيرية في العالم، وبالأخص في الغرب الأوروبي والأميركي بفضل هذه الشبكات التواصلية، وعودة الوعي الشعبي، وطوفان من البشر يدعم بعضه البعض، ويتعاطف مع الحق الفلسطيني، ويستنكر ويكره الباطل الصهيوني. زخات المطر لهذه الشعوب، ذوبت أصباغ المكياج الصهيوني، وانهارت الغرف المظلمة على رؤوس الذباب الإلكتروني.

لكن! هل هذه الحكومات ستتعظ؟، هل ستتوقف عن التلاعب بعقول شعوبها، وشعوب العالم؟، هل تكون صادقة مع البشر؟. هل!؟!؟.