DELMON POST LOGO

الصنمّية التكنولوجيّة .. حين يكون الصنم بديلاً عن الجسد

بقلم : عبدالله جناحي

ما الفرق بين الاحتجاج والمطالبة بالحقوق عن طريق الجسد والصوت البشريين المباشرين من خلال المظاهرات والمسيرات والاعتصامات، وبين الاحتجاج والمطالبة بالحقوق عبر رسائل مكتوبة وإرسالها إلى شبكات التواصل الاجتماعي كالتويتر والفيسبوك وغيرهما؟، في الحالة الأولى تتلاصق الأجساد والأرواح، وتختلط الأنفاس البشرية المشاركة، حيث يذوب الفرد الواحد مع الجموع الغفيرة، وحيث يصبح التأثير المباشر على من يوجَّه له اللوم والنقد والمحاسبة والتقصير والفشل وإفساد الأمور. عكس الحالة الثانية التي يكون الفرد متضخمة ذاته، وحيداً في غرفته وأمام شاشة الكمبيوتر أو هاتفه الذكي، والشخص أو الجهة الملامة والمخطئة والمفسدة والظالمة يتأمل تلك التغريدات وهو يبتسم ويستهزئ ويقول في قرار ذاته "دعهم يقولون ما يشاؤون ويصرخون ويحتجون، وهم في بيوتهم يغردون"-هذا إذا افترضنا بأن هذا الشخص أو الجهة لديها بعض من الإيمان بحرية الرأي والاختلاف والمعارضة!-.
تأملوا الواقع العربي من البحر إلى البحر؛ سياسات اقتصادية نيوليبرالية متوحشة تُفرض على الشعوب، قمع للمعارضين وأحزابهم، سياسات وخطوات التطبيع المذلّة مع الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين، شهيدات وشهداء يموتون برصاص الصهاينة، بطالة، تمييز، تهميش، تدمير مبرمج عبر الخصخصة لقطاعات الخدمات العامة من صحة وتعليم وسوق العمل وصناعات ومرافق مهمة. كل ذلك وغيرها المزيد، نتألم ولكن غير مسموح لنا أن نخرج ونتوحّد كالبنيان المرصوص لنخلق حالة ضغط لتخفيف هذا التوحّش بحق المواطن والوطن والأمة. ماذا نفعل؟ الضغط على الحروف وإرسال تغريدات نعبر فيها عن غضبنا.
يشير المفكر زيجمونت باومان في كتابه (الخوف السائل)، الموصوف تحت تيار مدرسة فرانكفورت النقدية الموجهة لفضح الرأسمالية الراهنة بعولمتها وإعلامها وتقنياتها. يلفت نظرنا إلى (دور التكنولوجيا المتحررة من أزمنتنا السائلة في "تحييد" الآثار الأخلاقية للأفعال البشرية عبر توفير (المهدئات والمسكنات الأخلاقية). إنها توفر مخارج مختصرة ظاهرية للبواعث الأخلاقية، وحلولاً سريعة عابرة للمعضلات الأخلاقية، بينما تريح الفاعلين من الطغاة والمستبدين والمحتلين والمجرمين والإرهابيين من المسؤولية عن كل أفعالهم غير الأخلاقية. وبذلك تتحوِّل تلك المسؤولية إلى الأدوات التقنية؛ فبعد معرفتنا بالجريمة ورؤيتنا لحدوثها بالصوت والصورة أمامنا من قصفٍ للمدنيين أو غرق للاجئين- وكما حدث بالضبط لحظة اغتيال الشهيدة شيرين أبوعاقلة في فلسطين- يبدو لنا وكأن توقيع احتجاج إلكتروني أو تغيير واجهة الصفحة الشخصية على الفيسبوك، أو وضع صورة للشهيدة في أيقونة المجموعات الوتسابية، أو الترويج (لهاشتاق) هو الفعل الكافي لتحريرنا من العبث الأخلاقي والمسؤولية، وهو ما يندرج تحت ما يسميه الكتاب (بالصنمية التكنولوجية) التي تترجم الخيارات الأخلاقية إلى أفعال احتجاجية افتراضية تدرأ عنا الشعور المفرط بالخوف والغضب واليأس. فالمفارقة الكامنة في الصنم التكنولوجي هي أن التكنولوجيا الخادمة لنا تساعدنا بالفعل على البقاء في سلبية سياسية، فلسنا بحاجة إلى تحمل المسؤولية السياسية، لأن التكنولوجيا تقوم بهذا الدور نيابة عنا. إن (المخدر) يجعلنا نعتقد بأن كل ما نحتاجه هو (نشر تكنولوجيا معينة في كل مكان، وعندئذٍ سيكون لدينا نظام اجتماعي ديمقراطي أو متناغم، ولعل هذا أحد أسباب توحّش الآلة العسكرية والأمنية والمخابراتية التي تبدو منفكة عن الرقابة والمحاسبة لأنها تستمد قوتها من رصيد الخوف المتجدد، ومن اطمئنانها بأن الاحتجاج والرفض و"الثورة" ستكون محصورة في نطاق الشاشة الفضية والصنم التكنولوجي فقط).
في هذا الكتاب ينتقل بنا باومان إلى الوجه الأكثر قبحاً للحياة التي نحياها في ظل العولمة، ليبين السمات النفسية للمرحلة التاريخية الراهنة برأسماليتها في ثوبها الجديد، حيث يسكن الخوف النفوس، وتُدار الحياة بشكل لا يمنح الأمن ولا يحقق السعادة. يحدثنا هذا الكتاب عن (نظام الأنانية)، فكافة ظروف التنافس على الثروة والقوة التي خلقتها منظومة البقاء للأقوى هي ظروف معادية للفعل التضامني، وتحارب ضد الرؤية الكلية المتجاوزة للأفراد، فالاختيار المتاح هو ضمان ألا تصيبك الكارثة، أما أن تصيب غيرك فهذا مما لا يمكن تجنّبه، فالإقصاء جزء من الحداثة السائلة.
ورغم اختلافي النسبي مع بعض أفكار هذا الكتاب مثل عدم تعويله المطلق على دور وسائل التواصل في التأثير والتغيير، إلا أن أطروحاته جديرة بالتأمل والنقاش. فهو يرى بأن وسائل التواصل التي تكفل المعرفة بالشر ستحفّز الأفراد على مواجهته، ولكن الواقع يشهد أنها زادت ألفة الشر واعتياده لدى الشعوب، وتم استغلالها في تكريس زحف الأنظمة الحاكمة على الحريات بدعوى تأمين السيادة والحفاظ على النظام. وهكذا بات العنف قريناً للديمقراطية، وأداة لتكريس الشرعية.
وهنا بافتراض أن البعض يشرح مزايا النضال المشترك، فإن السؤال الذي سيطرح نفسه هو كيف يمكن جمع المناضلين المتفرقين معاً؟ وكيف يمكن التأليف بين قلوبهم دوماً؟ إن الظروف المحيطة بمجتمع خاضع للنزعة الفردية هي ظروف معادية للعمل التضامني، إنها تحارب ضد الرؤية الكلية الجماعية المتجاوزة للأفراد، فالمجتمع الخاضع للنزعة الفردية يتّسم بتفكك الروابط الاجتماعية التي تمثل أساس الفعل التضامني النضالي، إنه مجتمع معروف بمقاومته للتضامن الذي يمكن أن يديم الروابط الاجتماعية ويوطد الثقة بها.
إن ملاحظته الأخيرة مهمة لجميع المجتمعات والأحزاب وحتى الحكومات، حيث سيأتي وقت ما، أو لحظة حرجة تحتاج الحكومات لشعوبها بأن تخرج معبرة عن تأييدها ووقوفها معها، فلا ترى ما كانت تحلم به من جماهير غفيرة مهيبة للعدو، لقد تم ترويضهم وتسريب الخوف في قلوبهم، وشل حناجرهم وإضعاف عضلات أقدامهم، فقد بات يفضّل الاحتجاج الفردي الآمن وهو في منزله، بدل الخروج والتوحّد مع الأرواح الغاضبة، حينها سينقلب السحر على الساحر! حيث لا ينفع عضّ الأصبع تحسّفاً وأسفاً.