DELMON POST LOGO

حكومة الأرقام والمؤشرات الصماء وغير الإنسانية

بقلم :عبدالله جناحي

في كتاب (نموذج الصين، الجدارة السياسية وحدود الديمقراطية)، يشير المؤلف الكندي (دانييل بيل) إلى ظاهرة الحكومات التي تروج لنفسها من خلال الإحصاءات والمؤشرات الاقتصادية الرقمية/الجافة/ العموميات المضغوطة/ التفاؤلية على الورق فقط، في حين في الواقع العملي الحياتي تشاهد نقيض تلك الأرقام الصماء.، وهذا الأمر ينطبق على عموم الدول العربية.
فالتخصيص للقطاعات المجتمعية الخدماتية والضرورية لذوي الدخل المحدود والفقير، قد أدى إلى تراجع ملموس في جودتها وخدماتها (التعليم والصحة الحكومتين، نموذجاً)، والبطالة تضخمت، مع تضخم الأسعار، وفرص العمل للمواطن تراجعت، وكذا الأجور والرواتب. وتراجع أكبر وأقسى لحقوق المتقاعدين، وهكذا دواليك.
ففي العقود القليلة الماضية، تلاعبت بنا تقارير وسياسات صندوق النقد الدولي، كرأس جبل الجليد لفرض برامج نيو ليبرالية متوحشة. لذا (أضحت الحكومة أكثر فأكثر مثل إدارة الأعمال في تسيير أمورها؛ فاعتماد الحكومة على الخبراء والخدمات التي يقدمها قطاع الشركات عجَّل من التقدم في اتجاه اتباع مقتربات إدارة الأعمال على الصعيد الحكومي، مع زيادة جوهرية في الاعتماد على أدوات الإدارة الحديثة ومبادئها مثل استراتيجية إدارة الأعمال، والمؤشرات الرئيسة للأداء، والتوريدات المهنية، والكفاءة التشغيلية. ومن ثم لم يعد هناك ما يدعُ إلى العجب من أن بعض الطامحين إلى القيادة السياسية مثل دونالد ترامب يلجئون عادة إلى الإشارة إلى خبرتهم في مجال إدارة الأعمال باعتبارها دليلاً على قدراتهم في إدارة أمور بلادهم.
في حين نجح بعض رجال الأعمال في الاضطلاع بعملية انتقال ناجحة إلى عالم السياسة، فإن تجربة نقل نماذج إدارة الأعمال إلى الحكومة ليست إيجابية). إن السبب المهم في أن نماذج إدارة الأعمال لا يمكن ترجمتها بشكل جيد في السياسة المحلية، والعكس صحيح، حيث أن هناك أهدافاً مختلفة لكل من المؤسسات العامة والخاصة. إن الهدف الرئيس وراء التجارة هو تعظيم الفائدة. إن رجال الأعمال لا يمكنهم أن يغفلوا حقيقة أن أعمالهم تهدف في نهاية الأمر إلى تحقيق الربح. وفي المقابل فإن مهمة الحكومة ليست على هذه الدرجة من الوضوح.
(ولكن يتفق معظم المفكرين السياسيين بكل توجهاتهم على أنه يفترض من قادة الحكومة خدمة الشعب، وأن المفروض أن تقدمه الحكومة للشعب توفير الأمن، مكافحة الفقر، حماية الحرية الفردية، رفع مستوى السعادة، التقليل من عدم المساواة، تشجيع التناغم الاجتماعي، حماية التراث التاريخي للبلاد).
إن ما يشكل الأداء داخل الحكومة هو أكثر تعقيداً وتعدداً وقيمة، وأيضاً جدلاً مما يمثله الأداء في الشركات الخاصة، فعلى عكس الشركات الخاصة التي يمثل الربح وعائدات الاستثمار معايير مقبولة على نطاق واسع لنجاحها، فإن للمنظمات العامة معايير نجاح كثيرة ومثيرة للجدل. وكذلك هناك مكون رمزي في أعمال الحكومة يتكون من اللغة والصور التي تصف ما يحدث وردود فعل العامة على هذه الرسائل، فالمظاهر مهمة تقريباً بقدر أهمية الواقع. وخذ على سبيل المثال-لا الحصر- التذمرات والانتقادات بالصوت أو بالصورة، في شبكات التواصل الاجتماعي، والاعتصامات والمسيرات الاحتجاجية في الدول الديمقراطية التي تسمح بهذا الحق من حقوق البشر.
لغة احتجاج ورفض لكل تلك السياسات التي أعلنت عنها الحكومة كأرقام ميتة لا شعور لعذابات الناس فيها. وبالتالي وبالنظر إلى اختلاف أهداف كل من الأعمال التجارية والحكومة، فإن الأمر يتطلب غالباً توافر صفات مختلفة في القادة في كل من الحالتين.
إن القيادة السياسية عليها أن تكون مستعدة لمراجعة مواقفها وأن تستجيب للمدخلات الواردة من مختلف الأطراف المعنية، ومن ثم فإن مسؤول الحكومة يجب أن يكون مستعداً للإصغاء لوجهات نظر متنوعة وغالباً متضاربة، وأن يوازن بين الأهداف والقيم والمصالح المختلفة. أما العناد و"التطنيش" و"عمك أصمخ"، أو "قل ما تشاء ونفعل ونفرض ما نشاء"، هي السياسة الراهنة أمام -ليس فقط انتقادات المواطنين- بل حتى عدم الاهتمام بأوراق العمل والندوات والدراسات التي أعدها أبناء البلد من الاختصاصيين، سواء في مؤسسات المجتمع المدني والنقابي والسياسي، أو بجهود فردية. أما القائد في مجال الأعمال فإنه يحتاج إلى دمج آراء الأشخاص الآخرين، ولكن فقط بقدر ما تسهم في تحقيق الهدف النهائي الربحي لشركاتهم.
بدون مراجعة جادة، وإعادة النظر لمجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وسوق العمل، كبرامج أو ضرورة التعديلات في التشريعات بحيث يكون البُعد الاجتماعي هو البوصلة والمعيار لنجاح تلك السياسات.
إن الولايات المتحدة التي قادت السياسات النيو ليبرالية المفترسة، ها هي تتراجع عنها في الآونة الأخيرة، وها هي كثرة من الدول الأوروبية تعيد النظر في شكل نظامها الرأسمالي غير العادل، حيث اللامساواة كانت الثمرة البارزة التي طفحت على السطح. ولهذا الموضوع مقام آخر لمقال قادم.