DELMON POST LOGO

أنواع الاحتجاجات المشروعة

إعداد: عبدالله جناحي

في كتابهما "الحركات الاجتماعية" الصادر عام ٢٠١٧ ، يشير المؤلفان، دوناتيلا ديلا وماريو. عن الاحتجاج كوسيلة لانتزاع الحقوق وتحقيق المطالب. واستناداً إلى مبادئ الديمقراطية التمثيلية في الغرب، يمكن معارضة قرارات الحكومة فوراً من خلال المعارضة البرلمانية، أو معاقبتها لاحقاً من جانب المواطنين من خلال اختياراتهم التصويتية في الانتخابات اللاحقة. أما معارضة سياسات الدول الأخرى، وبخلاف التدخل العسكري،  يشير الكتاب بأنه يمكن اللجوء إلى عدة قنوات للضغط على الحكومات الأجنبية، من بينها الدبلوماسية الثنائية أو المفاوضات في المحافل الدولية العديدة. غير أن أعداداً متزايدة من المواطنين-لاسيما منذ عقد سبعينيات القرن الماضي- قد أقروا بشرعية أنماطٍ أخرى من الضغوط على الحكومات. فحين يواجه هؤلاء المواطنون قوانين أو قرارات يعدّونها غير عادلة، فإنهم يتبنّون أنماطاً من الفعل تعارض المعايير المتعارف عليها. فمنذ عقد الستينيات فصاعدًا أُضيفت إلى ذخيرة المواطنين السياسية متابعة الشؤون السياسية وقرارات الحكومة غير العادلة في الصحف، ومع الآخرين، أو العمل لحساب الأحزاب السياسية أو مرشحيها، أو حضور اللقاءات السياسية، أو التواصل مع المسؤولين الحكوميين، أو إقناع الأصدقاء والمعارف بالتصويت بأساليب معينة- قائمة طويلة من الأنماط الجديدة غير التقليدية، من بينها توقيع العرائض، والتظاهر القانوني، وحملات المقاطعة والامتناع عن سداد الإيجارات أو الضرائب، واحتلال المواقع الحيوية، والاعتصامات، وعرقلة حركة المرور، وإضرابات العمال دون موافقة نقاباتهم العمالية. وقد اكتسبت تلك الأنماط الجديدة صفة شرعية بصورة متزايدة.

في الواقع لا توصم أساليب الفعل السياسي المباشر في المجتمعات الصناعية المتقدمة بالانحراف عن المألوف، ولا يُنظر إليها باعتبارها توجهاً معادياً للمنظومة السياسية الغربية، وهذا بالطبع عكس الدول غير الديمقراطية أو ذات "الديمقراطية الشكلية والصورية". بدا أن هذا التوسع في ذخيرة المشاركة السياسية "سمة دائمة للجماهير الديمقراطية الحاشدة". واستناداً إلى الدراسات الاستقصائية التي يعتمدها المؤلفان، بأن "ثمة أسباباً كثيرة تدعونا للاعتقاد بأن التحول من مجموعات المصالح التقليدية إلى الحركات الاجتماعية الجديدة قد خلف تأثيراً على هيئات المشاركة السياسية وذخائرها وأهدافها". يظهر تحليل سياسة الاحتجاج أن كثيراً من أنماط الأنشطة تلك، مثلاً العرائض والتظاهرات ومقاطعة السلع الاستهلاكية، صار واسع الانتشار إلى حد ما، وأكتسب شعبية متزايدة في العقود الأخيرة. إننا نشهد صعود سياسة الاحتجاج كقناة للتعبير السياسي والتعبئة. كشفت دراسة رصينة من بيانات عام ٢٠٠٢ أنه في الدول الغربية الديمقراطية العريقة ما بعد الصناعية (بريطانيا وألمانيا وهولندا والنمسا والولايات المتحدة وإيطاليا وسويسرا وفنلندا) وَقْعَ ٦٠.٧٪ من السكان على عرائض، وحضر ١٩.١٪ تظاهرة، وشارك ١٧.١٪ في حملات مقاطعة السلع العدوّة للبيئة. وتبين في هذه الدراسة لهذه المجتمعات الثمانية أن نسبة الموقعين على العرائض قد قفزت من ٣٢٪ في منتصف السبعينيات إلى ٦٠٪ في منتصف التسعينات، وأن نسبة من شاركوا في تظاهرات قد ارتفعت من ٩ إلى ١٧٪, بينما ارتفعت نسبة من شاركوا في حملات مقاطعة من ٦ إلى ١٥٪, ومن أقْدَمَ على احتلال لمبانٍ  حكومية ارتفعت النسبة من ١ إلى ٢٪, بينما تضاعفت نسبة المشاركين في إضرابات غير رسمية من ٢ إلى ٤٪.

وسائل لعديمي النفوذ:

من السمات المهمة للاحتجاج استعمال قنوات غير مباشرة للتأثير على صناع القرارات. فالاحتجاج هو أداة سياسية لعديمي النفوذ. فالوقائع التي هزت الولايات الأمريكية خلال الستينات لمحاربة ومقاومة التمييز و(من عندياتي:العزل والتهميش السياسي والمجتمعي)، بدءًا من حملة تسجيل الناخبين السود في الولايات الجنوبية-حملة Fredom Summer- وهي الحملة التي أطلقها ناشطو الحقوق المدنية في عام ١٩٦٤، وصولاً إلى (مسيرة إلى واشنطن) دعماً للحقوق المدنية للأقليات العرقية، جمعها كلها شيء مشترك، فقد شاركت فيها مجموعات معدومة النفوذ نسبياً، ولم تعتمد تلك المجموعات في نجاحها على الاستغلال المباشر للنفوذ، بل على تنشيط مجموعات أخرى، سواء مؤسسات المجتمع المدني لتنظيم قواهم بخلق شبكات موحدة معهم، أو لاحقاً عبر الحملات في شبكات التواصل، بما فيها العرائض الإلكترونية.

إن نجاح الاحتجاجات يتوقف على مدى تنشيط الأطراف الأخرى وتشجيعها على الانخراط السياسي، ولذلك فإن الاحتجاج يُعدُّ واحدةً من إستراتيجيات معدودة تُمكّن حتى المجموعات عديمة النفوذ السياسي من التطلع إلى المشاركة. ومما يؤكد ذلك أن من شاركوا في تظاهرات سياتل كانوا يُعِدّون أنفسهم "ضحايا" السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة. حتى إن لم تكن "عديمة النفوذ" حرفياً، فإن الاتحادات والمنظمات غير الحكومية والرموز الشعبية التي أطلقت الاحتجاجات، كانت خارج دائرة السلطة أو أطرافاً معارضة في ساحة سياسية عالمية، حيث يكون ممثلو المنظمات الحكومية الدولية والأمم ذات النفوذ والمؤسسات الكبرى داخل دائرة السلطة. فالاحتجاج، إذن، يطلق عملية إقناع غير مباشر تلعب فيها وسائل الإعلام والأطراف الفاعلة ذات النفوذ دور الوساطة. يتعين على الفاعلين عديمي النفوذ تعبئة الدعم من مجموعات أكثر نفوذاً. إضافة إلى ذلك، فإن ما تمارسه الاحتجاجات من تأثير قد يكون إما إيجابياً، فيخلق تعاطفاً مع قضيتهم، أو سلبياً، فيهدد-على سبيل المثال- بخلق فوضى واضطرابات، ولهذا السبب تعتبر خصائص وسائل الإعلام، وخصائص قنوات التواصل في العموم ذات أهمية خاصة بالنسبة للحركات الاجتماعية الاحتجاجية، فقدرتها على مخاطبة الرأي العام هي بالفعل أحد مكونات حراكها الحيوية. لا شك أن الحركات الاجتماعية لا تقتصر على استخدام الاحتجاج فقط ولا تحتكره، إذ يستفيد منها أيضاً فاعلون آخرون، كالأحزاب السياسية أو مجموعات الضغط، ويتحالفون بين الحين والآخر مع الحركات الاجتماعية من أجل إطلاق حملات معينة. بيد أن الاحتجاج-لاسيما في أشكالها الأكثر ابتكاراً والأشد راديكالية- كان يعتبر أحد أنماط الفعل المميزة للحركات الاجتماعية، نظراً لأنها -خلافاً للأحزاب السياسية ومجموعات الضغط- تمتلك قنوات أقل لتمكّنها من الوصول إلى دوائر صناع القرارات.

الاحتجاجات والانتخابات:

ويشير هذا الكتاب إلى المقاربة بين حجم عدد المحتجين، وحجم عدد المقترعين في الانتخابات. "فحجم تظاهرات المعارضين يؤثر على نظام الحكم بطريقة مباشرة وغير مباشرة. فلا شك أن اختلال الروتين اليومي يَشتد مع ازدياد أعداد المحتجّين، وأن قدرة نظام الحكم على السيطرة على الحشود من شأنها أن تَتراجع لا محالة مع تنامي أعدادهم. وعلاوةً على الاضطرابات الفورية الذي تتسبب بها التظاهرات، فإنها تُرسل بحجمها مؤشراً إلى النظام بحجم الدعم الذي يتمتع به المعارضون. ومثلما تحاول الأحزاب السياسية زيادة أعداد الناخبين الداعمين لها، وتسعى مجموعات الضغط إلى مضاعفة أعداد أتباعها إلى أقصى حد ممكن، يجدر بالحركات الاحتجاجية السعي إلى تعبئة أكبر عدد ممكن من المتظاهرين. وانطلاقاً من هذه الرؤية، تحل الاحتجاجات محل الانتخابات، والمنطق الكامن وراء هذا المفهوم هو نفسه الكامن وراء الديمقراطية التمثيلية تطبيق قرارات الأغلبية". تُفيد الاحتجاجات في جذب انتباه الممثلين المنتَخبين إلى حقيقة أن الأغلبية في الشارع ليست هي نفسها الأغلبية في البرلمان، فيما يخص قضايا معينة على الأقل، ومن ثم فإن الخوف من فقدان الدعم الانتخابي يفترض أن يَدفع ممثلي الشعب إلى تغيير مواقفهم، وإعادة الاصطفاف إلى جانب الشارع. تُعد المسيرات واحدة من أهم الأساليب المقصود منها إظهار القوة العددية.

ومن الأساليب الأخرى المستخدمة لإظهار القوة العددية لداعمي الحركات؛ العرائض، بالإضافة إلى الاستفتاءات. "ففي عقد الثمانينيات، قدمت عرائض ومطالبات بإجراء استفتاءات في جميع البلدان المتأثرة بنشر القذائف الموجهة وقذائف بيرشينج؛ حيث جمع المحتجون ملايين التوقيعات في إيطاليا وهولندا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وفي عامي ١٩٨٤ و١٩٨٥ اقترحت مجموعات داعية إلى السلام في عدد من البلدان الأوروبية أن يطالب الناخبون مرشحي الانتخابات المنتمين إلى جميع الأحزاب بتقديم ضمانات بشأن القضايا المتعلقة بالسلام، كما نجح ائتلاف يوبيل ٢٠٠٠ في قيادة حملة خلال حقبة التسعينات أسفرت عن جمع ٢٤ مليونًا على عريضة تطالب بإسقاط ديون البلدان الأشد فقراً".

إن حق الاحتجاج السلمي في العالم قد أثمر نتائج إيجابية كبيرة وملموسة، وخلق وعيًا ثقافيًا وسياسيًا وحقوقيًا لدى قطاعات واسعة من المجتمع، بل وتراجعات واضحة للسياسات والقرارات الخاطئة للحكومات أو المحافل الدولية للصفوة الغنية، كمجموعة "دافوس" الاقتصادية السنوية، أو منظمة التجارة العالمية، وضد سياسات صندوق النقد الدولي. إن السماح بكل هذه الأنواع من الاحتجاجات نتائجها على أصحاب القرار والنفوذ، والسلطتين التشريعية والتنفيذية ستكون إيجابية لصالح المجتمع ومؤسساته، ولصالح العدالة وتحقيق المطالب المشروعة، باعتبارها إحدى الأدوات الرقابية والمحاسبية والضغط، وكشف مكامن الفساد والظلم واللاعدالة واللامساواة والتمييز. والأهم تُعَوِّد الحكومات على ضرورة التأني في تنفيذ أي سياسة قبل دراستها من كل الجوانب، وبالأخص، ما لها علاقة بمصالح الناس وحقوقهم، فوجود معارضات واحتجاجات شعبية لسياساتها الخاطئة، يعتبر رافعة مجتمعية لتحسين الكفاءة والجودة لعمل الحكومات، وحتى لأداء النواب!.