DELMON POST LOGO

المظلومية والظلم .. ايرلندا وبريطانيا .. ونحن

بقلم : محمد الانصاري

قد لا تكون تفاصيل القصة التي نتبناها متطابقة مع الواقع بنسبة ١٠٠٪؜ كما يمكن أن يعترض على بعض تفاصيلها طرف من الأطراف ، لكن حقيقةً هي مبنية على ما وصلنا من سجلات المؤرخين ، و ما نعرضه عصارة لقراءات كثيرة ، ومصادر متنوعة ، و بشكل مختصر متناسب مع أسس المقال الصحفي ، وهي محاولة لاستخلاص ماذا جرى بين البريطانيين و الايرلنديين ، وكيف توصلوا الى تفاهم أنهت قروناً من الدماء والقتل المتبادل ، ورغم إختلاف تفاصيل القصص و مباني التفكير بين الأحداث البريطانية الايرلندية و الواقع العربي ، إلا أننا وجدنا فيها ما يكفي من تشابه مع واقعنا و صراعاتنا الداخلية.
في ظني ان مسلسل الصراع البريطانيا الإيرلندي بدء مع غزو الفايكنج ( وهم ملاحي السفن وتجار ومحاربي المناطق الاسكندنافية الذين هاجموا السواحل البريطانية والفرنسية ) لبريطانيا في عام ( ٧٩٣ ميلادية ) حسب السجلات الانجلوسكسونية ، اي قبل حوالي ١٢٠٠ سنة تقريباً وهي مشابهة في بعض الجوانب للصراعات السياسية التي بدأت بعد الخلافة الراشدة الاسلامية قبل حوالي ١٤٠٠ سنة من جانب تضارب الروايات، وإدعاء كل طرف باحقيته و ظلامته.
طبعاً لا تمس الإسقاطات في هذا المقال الشخصيات الدينية الموقرة عند جميع طوائف المسلمين او المسيحين ، فالأديان السماوية و العلماء محل تقدير الجميع ، لكن القصد هم الساسة و المفكرين و المتمصلحين من الغطاء الديني ، و أيضا من لبس الزي الديني واختار أن يتلوث بالسياسة ، والذين يعانون من نسيانهم لذواتهم وانهماكهم في الشعور بأنهم أنقى وأفضل من غيرهم ، أو أنهم الصح و غيرهم خطأ ، ليشرعوا تحقير و تهميش وطعن الآخر ، متناسين إننا كلنا لآدم وآدم من تراب.
وعوداً للأحداث الانجليزية الايرلندية فقد تواصلت محاولات الفايكينج غزو انجلترا ، حيث قاموا في عام ٨٤٠ ميلادية مرةً اخرى بغزو إنجلترا وبقوا فيها فترة الشتاء ، ثم جاء في العام الذي يليه الجيش الدنماركي والذي كان يتكون من جنود الدول الاسكندنافية ( السويد و النرويج و الدنمارك ) إلى انجلترا وقاموا بتأسيس مجتمع الفايكنج الخاص فيهم ، حيث كان معظمهم يعمل في الزراعة والأعمال الحرفية وقد قاموا بالاستقرار فيها، ولم تتمكن الممالك الإنجليزية من التصدي لهم كونها كانت في حالة من الفوضى ، في صورة مشابهه لما وقع في ادوار الحشد الشعبي والجيش في العراق عندما سيطروا على الأنبار بعد تحريرها من ارهابيي داعش ، فهم مختلفون عن ما جرى بين بريطانيا وايرلندا حيث إن الفايكينج غزاة لبريطانيا والحشد والجيش من أبناء العراق ، لكنهم متطابقون في نتيجة عملهم الذي ادى لتدمير المكان والمجتمع الذي وطأته أرجلهم بقصد أو بدون قصد .
وباعتقادي ان الجرح الذي تسبب في الصراع الانجليزي الايرلندي كان بسبب قيام الايرلنديين بمداهمة الساحل الغربي لبريطانيا ، في الوقت الذي كان البرطيانيون مشغولين بالدفاع عن أراضيهم وأنفسهم ، وذلك بهدف الحصول على العبيد والخدم ، وهنا شبه آخر لما جرى في العراق وسوريا و ليبيا ، عندما نظرت القوى الوطنية الى أهداف صغيرة وجانبية و خلقت صراعات لا يستطيع الا الله عز وجل برحمته من إخمادها ، فبعدما حباهم الله بالسلطة و المكنة انشغلوا بسرقة النفط و بيع الاراضي ، وفي سبيل ذلك قتلوا الأنفس و أكلوا اموال الناس بالباطل ، وبأيديهم صنعوا عداءً تاريخياً مع شعوبهم والمنطقة ، كما فعل الإيرلنديون في نزوتهم  تلك التي كلفتهم الكثير .
اتخذ الانجليزي على إثر الحركة التي قام بها الايرلنديون موقفاً شديداً إستمر لقرون ، وقد برزت المواقف العلنية الإنجليزية في صراعها مع  الايرلنديين في عهد هنري الثاني ، ففي عام ١١٥٥ اصدر البابا أدريان الرابع مرسوما باباويا سمي (لاودابيليتر) ، وقد أعطي المرسوم البابوي للملك هنري الموافقة على غزو إيرلندا وذلك لتقوية السيطرة البابوية على الكنيسة الايرلندية ، وهناك مشاهد كثيرة في التاريخ العربي والاسلامي مشابهة لهذا المشهد الذي يبرر فيه زعيم ديني لسلطة سياسية غزو بلدٍ آخر ، والإشارة تكفي اللبيب ليفهم.
لم يكتفي البابا أدريان باصدار المرسوم الذي بإسم الدين شرَّع القتل و الظلم الذي سينال أمةً باسرها ، بل شارك في الشحن و التعبئة حيث وصف البابا أدريان الأمة الايرلندية بـ (الفظة والهمجية) ، وهذا الموقف الغريب من البابا مشابه لمواقف عديدة عبر التاريخ العربي أو الإسلامي ، حيث شرع رجال الدين وباسم الشريعة لغزو امم او بلدان اخرى ، فقتل الحجاج بأمر عبدالملك بن مروان لعبدالله ابن الزبير برره من برره في ذلك الزمان بإسم الدين ، وقتل الخوارج لخليفة المسلمين علي بن ابي طالب كرم الله وجهة وعليه السلام كإن بإسم الدين.
اما البريطانيون فبعد ١٤ عام من الإعداد بداوا غزو أيرلندا عام ١١٦٩ بمساندة من البابوية. حيث وافق البابا إلكسندر الثالث، الذي كان في السلطة البابوية وقت الغزو على (لاودابيليتر) و أعطى هنري السيادة على ايرلندا، كما وصف الايرلنديين بأنهم دولة بربرية من خلال ممارساتهم القذرة.
وقد تنوعت أشكال الظلم الأوروبي الأوروبي في عصور الظلام ، وهي مشابهة لبعض أشكال الممارسات الحديثة و المستمرة الان في أوروبا و بين الدول العربية و الإسلامية التي تعمل بغطاء شرعي ، و تلصق كل مواقفها بالدين.
في مشهد آخر مشابهة لموقف الأبوين ، فقد وصل الأمر بان يتبجح احد الأساقفة وأسمه(أنسليم) بوصف الإيرلنديين بأنهم يتبادلون زوجاتهم مثلما يتبادلون خيولهم ، كما وثق أحد المؤرخين الإيرلنديين حجم الاستهانة بدماء الايرلنديين ، لدرجة ان قتل الإيرلندي اصبح أهون من قتل كلب ، فكانت المرأة الانجليزية تقتل المرأة الايرلندية وكذلك الرجل الانجليزي يقتل الرجل الإيرلندي دون اكتراث .
لم ينحصر الاضطهاد الإنجليزي للإيرلنديين في طبقة الساسة والعسكر ، فحتى سبنسر وهو آحد أهم الشعراء الإنجليز في تلك الفترة دعا إلى تجويع الشعب الإيرلندي لإخضاعه وذلك في كتابه الذي انتشر في ١٥٦٩ وطبع سنة ١٦٣٣ ميلادية .
أمافي العصر الحديث وبعد تغيير موازين القوى بشكل واضح للصالح الانجليزي ، فقد عانى الشعب الإيرلندي من الاضطهاد الاجتماعي والسياسي ، وكان عنوان العداء الإيرلندي البريطاني في العصر الحديث هو الصراع الديني بعد دخول بريطانية في البروتستانتية، ومن شدة هذا العداء نرى شاعرا مشهورا مثل فولتير يصف الإيرلنديين الكاثوليك بأنهم متوحشون ومتخلفون.
ولم يتوقف العداء للايرلندين في أوروبا ، حيث وصل في القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة حيث استمر وصفهم هناك بالوحشية والهمجية ، فرسم أحد الرسامين الإنكليز وجوه الإيرلنديين على شكل قرود، وذلك إشارة منه إلى أن تطور العنصر الإيرلندي أقل من مستوى العنصر البريطاني.
اصاب اوروبا بين عامي ١٣١٥ و ١٣١٧ مجاعة كبرى ، تلتها سلسلة من الأزمات الكبرى التي ألمت باوروبا في بدايات القرن الرابع عشر. وقد لحق الضرر بمعظم المنطقة ، فتسببت المجاعة في ملايين الوفيات خلال عدد طويل من السنوات لتحدد نهاية واضحة لا لبس فيها لعهد النمو والرخاء الذي امتد من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر ، وقد استقر المهاجرون الإيرلنديون بعد المجاعة في ليفربول البريطانية، وفيها تعرضوا إلى مختلف انواع التمييز العنصري وكانوا قد استقروا في أكثر المناطق فقرًا.
لم يكتفي الانجليز بمشاعرهم الداخلية السلبية ، بل اتخذوا مواقف علنية وصلت لدرجة كتابة المقالات و الأشعار يعلنون فيها عن بغضهم للإيرلنديين  ، حيث كتب "بنيامين دزرائيلي " مقولة يبين فيها مدى كرهه الإيرلنديين الهمجيين وأنهم لا ينتمون إلى الحضارة البريطانية ولا يحبونها، ومما جاء في كتابته: “يكره الايرلنديون نظامنا وحضارتنا وصناعتنا المقدامة ونقاء ديننا، هذه السلالة الوحشية والمتهورة و الكسولة والغامضة و المؤمنة بالخرافات ليس لديهم أي تعاطف تجاه الشعب الإنجليزي” ، وهذه العبارات سوف تجدها في العديد من المقالات العربية التي تكتب في هذا العصر والزمان في ليبيا و مصر و العراق واليمن وسوريا ، يتهم فيها جماعة لجماعة أخرى بنفس الكلام ، وللأسف يستعين الجميع في نشر بغضهم وتسميم مجتمعهم بالآيات و الاحاديث الشريفة.
يعتبر المؤرخون القرن العشرين قرن نشوء الدولة الأيرلندية الحديثة على إثر انتفاضة يوم الاثنين في عام ١٩١٦ ميلادية ، ثم اشتعلت حرب الاستقلال الأيرلندية أو الحرب الأنجلو-أيرلندية ، وهي حرب عصابات اندلعت في أيرلندا بين عامي ١٩١٩ و ١٩٢١ ، ونشبت بين الجيش الجمهوري الإيرلندي والقوات البريطانية ، وقد تصاعدت فترة الثورة الأيرلندية لتصل في نهاية المطاف إلى نزاع مسلح وحرب شاملة ، وقد أسفرت هذه الحرب بعد عدة سنوات الى استقلال ٢٦ مقاطعة جنوبية عن المملكة المتحدة في عام ١٩٢١ ؛ في حين بقيت ست مقاطعات شمالية جزءًا من المملكة المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ انقسمت إيرلندا إلى قسمين: إيرلندا الشمالية، وإيرلندا الجنوبية.
تفجرت الانقسامات الطائفية العميقة بين السكان الكاثوليك والبروتستانت والتمييز المنهجي في أيرلندا الشمالية إلى سنوات من العنف المعروف باسم “الاضطرابات” الذي بدأ في الستينيات ، في وضع مشابه لما الت اليه العراق بعد سقوط نظام البعث ، حيث أصبحت القوى العراقية في صراع ديني مذهبي طائفي و حزبي ، و تشكلت على اثر ذلك الاحزاب والمليشيات الطائفية ، فبعضها ساعد المتطرفين في حربهم الارهابية ، والاخرى ساعد دول الجوار في سرقة خيرات العراق باسم الدين.
بعد سنوات من العنف والعنف المتبادل بين الحكومة بريطانية و الجيش الايرلندي الشمالي ، وافق الأطراف على الانخراط في الحوار ، فأصبحت بذلك حكومة أيرلندا جزءًا من عملية الحوار الموسع مع حكومتي المملكة المتحدة والولايات المتحدة التي ساعدت في التوسط في اتفاقية الجمعة العظيمة في أيرلندا الشمالية في عام ١٩٩٨ ، حيث بدأت بها مرحلة جديدة من التعاون بين الحكومتين الأيرلندية والبريطانية.
ختاماً ان الصراعات بين الدول او الصراعات الداخلية تحتاج الى العمل والجهد و التعاون من اجل الوصول للحل ، اما التشرذم خلف الأحزاب و التخندق بإسم الدين او الطائفة ، عبر التاريخ لم يجدي نفعاً و لم يجلب سوى الخراب للدول والأمة.
*هناك العديد من الاقتباسات والنصوص المنقولة في هذا المقال من مصادر تاريخية متنوعة من كتب ومواقع ومقالات يمكن لمن يشاء مراسلتي للمزيد من المعلومات .