DELMON POST LOGO

يمّه... قثّيني

بقلم : غسان الشهابي

"لولا الأمهات لأصبح الناس بُكمٌ" أو هكذا قال الراحل د. صلاح فضل في إحدى محاضراته في البحرين عندما كان بين ظهرانينا.

من أمي تعلمت الحكي، كما تفعل كل الأمهات المجبولات على الحكي والمناغاة ليصببن في آذان أبنائهن الكلام بدقائقه، فيض من الحنان المجدول مع الحكي والألفاظ... وكأمهات كثر على امتداد البشرية تروى لي أمي كما تروي الأمهات القصص لأبنائهن من أجل أن يناموا... ولكنهن لا يدركن أهمية هذه القصص لا لكي ينعس الأطفال بقدر ما هي قادرة على تحفيز أخيلتهم.

إذ كنت صغيراً، وقبل أن تكتمل الأسنان في فمي اصطفافها، كنت مغرماً بقصص أمي، وحتى وقت قريب كانت تضحك وهي تتذكرني في فراشي قائلاً لها: "يمّه... قثّيني" أي قصّي علي قصة، وتبدي تبرّما لأن قصصها قد انتهت... ولكن من يشبع من قصص أمه، من يشبع أساساً من صوت أمه؟!

ظلت أمي تشحن مخزوني بالعبارات والمفردات والتراكيب، فطفقت أحكي من دون توقف تقريبا... حتى يضيق بي ذرعاً عمال النظافة البحرينيون (ذلك الوقت)، ونسوة الحي اللاتي يزرن والدتي إذ أنني لا أكفّ عن مقاطعتهن باستمرار فلا أتركهن يكملن جلسة شاي الضحى. لكثرة ما كنت أتحدث آنذاك قال عمّي هشام مازحاً: "هذا الولد إما سيصبح كاتباً أو دجالاً". ولكنني خالفت توقعاته ولم أطل أيّاً من هذين الحدّين.

رتبت أمّي الريش على قواميسي وأطلقتني لأحلّق إلى ما أمكنني من حدود السماء... وعدت إليها أخيراً أنهل مما ترسّب في ذاكرتها من حكايا قديمة... ومقطّعات ورثتها عن أمهاتها... لأعيد اكتشاف كمّ الثراء اللغوي الذي تحمله النسوة... ومعنى أن تكون المرأة أمّاً يعني أن ترضع أطفالها القصص والحكايا والتعبيرات وما نسميه "الرّد والبدل".

أنذرنا مرضها بأنها تلوّح لنا ... فانقطع حبل الحكي... وتوقف نزقي الطفولي، إذ غادرتنا اليوم بعدما توالى سقوط أسناني... ولكن من دون وجود من "يقثّني" هذه المرة!!