أدّت الأزمة المالية عام 2008 إلى إختلال الريوع التفاضلية النفطية، إذ هبط سعر من 147 دولار بيوليو الى 40 دولار بيناير لكن كان على الحكومة أن تستمر في نفقاتها القديمة وبدأ العجز
قدم الباحث البحريني هشام عقيل ورقة عمل بعنوان " المدينة الخليجية ونمط الإنتاج الكولونيالي" في المنتدى الفكري السنوي الثامن الذي يقيمه المنبر التقدمي، والذي بعنوان "المدينة الخليجية: تحوّلات وآفاق " قال فيها ، بان تتشاركُ كُلّ البلدان الخليجية الميزة التالية: بكوْن الوظيفة الكومبرادورية هي الطاغية فيها، وبأن الوظيفة هذه تطغى في الإنتاج النفطي أساساً .. وفيما يالي نص الوروقة
قديمةٌ هي الفكرة، في التقليد البورجوازي، بأن المدينة لا تزدهر إلا بازدهار العقلية الحضرية الملائمة لها. وظني هو بأنه لما كان موضوع المنتدى هو ”المدينة الخليجية“، فإن الكلام محصورٌ ببنائها، وتطوّرها، وتركيبها. فالمادة هنا، أيّ العقلية، إن شئنا أن نتحدث بلغة القدماء، تتصوّر بالمدينة. ولما كان هذا المنطلق يخالف العلم، فإنني سأبدأ بالعمران البنيوي بدلاً من العمران البنائي أو الهيكلي، الذي لا يدخل ضمن التحليل. كما إنني سأتفادى الحديث عن الخليج نزولاً إلى البحرين، كما لو كانت ثمة مميزات تجريدية يجب أن يتحلى بها كُلّ بلد في مجلس التعاون، ليس لأنني غير مؤهل لتشخيص ستة أبنية اجتماعية متميزة وحسب، وإنما للمقارنة بين المميزات العامة انطلاقاً من الخاص إلى العام، ولذا سأركز على البحرين بالتحديد.
قال أرسطو بأن النجار يهتم بالزاوية القائمة في حدود أنها نافعة لمهنته، بينما يهتم عالم الهندسة بها لأنه يبحث عن الحقيقة. وهكذا، ينظرُ علم عمران التاريخ، أيّ المادية التاريخية، إلى الظواهر الخاصة بأبنية معينة لا بغرض وصفها، وإنما بغرض كشف مميزاتها وحقيقتها. يقولُ هذا العلم بأن البداية الصحيحة لفهم أيّ مجتمع هو الانطلاق من نمط الإنتاج. ويسيطر على البحرين، حالها حال كُلّ البلدان الخليجية الأخرى، نمط الإنتاج الرأسمالي- الكولونيالي. ولما كانت مميزات هذا النمط غير معروفة بالنسبة إلى الجميع، سيُسمح لي، بلا شك، أن أذكرها على هيئة فرضيات نسقيّة بشكلٍ سريع قبل أن أدخل في الموضوع نفسه.
1. توضيحات أولية:
أ) لتحديد طبيعة بنية نمط الإنتاج، يحلل علم عمران التاريخ، كما أعرفهُ، هذه البنية من ناحية: البنية الأساسية، وبنية الممارسات الاجتماعية، والبنية الاقترانية. وبالبنية الاقترانية أعني التالي: بأن كُلّ الأنماط الإنتاجية في التاريخ إما تقترن سينكرونياً وإما دايكرونياً. في حالة نمط الإنتاج الرأسمالي، ثمة فصيلتان لمثل هذا النمط: أحدهما يقترن سينكرونياً (البلدان المتروبولية) وثانيهما يقترن دايكرونياً (البلدان الكولونيالية). الاقتران السينكروني يعني، ببساطة شديدة، بأن عناصر نمط الإنتاج تقترن ضمن منطق البنية الاجتماعية القائمة؛ بأن هذه العناصر تحدث تحوّلاً بشكلٍ متزامن مع منطق البنية الاجتماعية القائمة. أما الاقتران الدايكروني فأنه يعني بأن عناصر نمط الإنتاج تقترن بشكلٍ لا- متزامن مع منطق البنية الاجتماعية القائمة.
ب) في تحليلي لنمط الإنتاج الكولونيالي، بمعناه التجريدي النظري، استبعدتُ كُلّ العوامل الخارجية: التاريخ، والجغرافيا، ودور الدولة، وتمرحل البنية الاجتماعية، والأهم من ذلك استبعدت أيّ مكان للنظام الامبريالي العالمي في التحليل. يُمكن القول بإنني افترضتُ وجود نمط الإنتاج الكولونيالي في جزيرة معزولة عن العالم غير خاضعة لأي تأثيرات خارجية، وتقوم فقط على طبقتين، ولا توجد أيّ عوارض "مَرَضية" فيها. ولا استعمل كلمة "كولونيالي"، في العبارة التي ورثتها واحتفظت بها من مهدي عامل، بشكلٍ مرادف (على الأقل، ليس بشكلٍ مباشر) لكلمة "تبعي"؛ بل بمثل المعنى الذي اعطاه لينين لعبارة "المستعمرة الاقتصادية“.
كما افترضتُ بأن التحديدات - الداخلية لنمط الإنتاج الكولونيالي تعتمد على العلاقة الديالكتيكية ما بين ثلاث أشكال من الوظائف هي في الحقيقة واحدة: الوظيفة الكولونيالية، والوظيفة الكولونيالية - التبعية، والوظيفة التبعية. بالوظيفة الكولونيالية أعني العلاقة الداخلية لنمط الإنتاج الكولونيالي، أيّ للعملية -الإنتاجية الكولونيالية، كما لو كان مكتف - ذاتياً. ففي هذه العلاقة نجد بأن عملية - الإنتاج الكولونيالية، بما إنها نتاج الاقتران الدايكروني، تتميز بالترابط - الثنائي: الترابط المباشر وغير- المباشر. أما بالوظيفة الكولونيالية - التبعية فإنني أشير إلى تحدد الوظيفة الكولونيالية بتمرحل الأبنية الاجتماعية الكولونيالية (والتمرحل هو دائماً تبعي)، وبتطوّر الترابط المباشر ليمثل التوجه الكومبرادوري، وهو التوجه الذي تذيّل قيمته الزائدة لرأس المال الامبريالي، وبتطور الترابط غير المباشر ليمثل التوجه المحلي، وهو التوجه الذي تبقى قيمته الزائدة منفصلة عن رأس المال الامبريالي؛ وبكون كليهما توجهين ضمن رأس المال الكولونيالي. وبالوظيفة التبعية فإنني أشير إلى ظهور الوظيفة الكولونيالية - التبعية بشكل ملموس في مجتمع معين (شكل ملموس تاريخي، وسياسي، واقتصادي، وتمرحلي، إلخ)؛ إذن التبعية هي نتيجة لطبيعة نمط الإنتاج الكولونيالي، ولا يُمكن أن نقول بإن الأخير هو نتيجة للأولى.
ج) يختزن رأس المال الكولونيالي توجهين متناقضين، وهذه الحقيقة موجودة بدءاً من المستوى التجريدي الذي نفترض فيه بأن نمط الإنتاج الكولونيالي موجود في جزيرة معزولة عن العالم بغض النظر عن التأثيرات الخارجية، أيّ وفق نمط الاقتران نفسه. في تحليلي للتناقض- الداخلي في الرأسمال الكولونيالي وانعكاسه على نماذج إعادة الإنتاج المتوسعة، وجدتُ بأن التراكم الكولونيالي لا بد أن يتميز بعلاقة نسبية. حين نحلل التراكم الكولونيالي ككل سنجد بأن ثمة تناسباً عكسياً ما بين التوجهين، وحالما نعيّن للتوجهين معدلاً غير متكافئ للتراكم (وذلك لأننا نفترض بأن التراكم يدور حول توجه واحد بالتحديد؛ وهذا ما أسميه بالحركة المحوّرية) فإننا سنكون أمام علاقة نسبية ما بين معدلي التراكم الكولونيالي، وينعكس ذلك مباشرة على النسبة ما بين إنتاج الوسائل الإنتاجية وإستهلاكها. نطلقُ على هذه النسبة تسمية التراكم - النسبي، لا بمعنى بأن التراكم الكولونيالي هو نسبي، بل بأن التراكم الكولونيالي يختزن هذه النسبة.
د) وفقاً لهذا كُلّه يُمكننا أن نقول بأن رأس المال الكولونيالي يمتاز بالمميزات التالية:
1) لا يتقدم رأس المال الكولونيالي إلا إذا قامت حركته المحوّرية على توجه واحد بالتحديد، في تحقيقه لوظيفته، إذ إن هذه الوظيفة هي التي يتمحوّر عليها معدل الربح.
2) كلما يتقدم رأس المال الكولونيالي كلما يخلف - بالضرورة - مقادراً أعظم للتراكم النسبي.
3) هذا المقدار من التراكم النسبي لا يُمكن أن يستثمر في تنمية الوسائل الإنتاجية فلا بد أن يُستثمر في قطاعات اخرى (وفي نموذج التراكم، يستثمر التراكم النسبي في رأس المال الثابت للقطاع الثاني).
4) ينص القانون العام لتطور نمط الإنتاج الكولونيالي بأنه كلما هبط معدل الربح كلما تضخم معدل التراكم النسبي (أيّ التراكم النسبي قسمة القيمة الزائدة).
5) يتضخم التركيب العضوي الكولونيالي بفعل تضخم التراكم النسبي، والعكس بالعكس.
6) وفقاً لهذه الحقائق، لا بد أن نقول بأن القوى الإنتاجية الكولونيالية تتطور بشكل محدود بنيوياً كأثر لطبيعة العلاقات الإنتاجية نفسها.
7) إذن نكتشف بأن نمط الإنتاج الكولونيالي محدود بنيوياً (أو لنقل: لأسباب داخلية) قبل أن نحلله في علاقته التبعية في النظام الرأسمالي العالمي، إذ إنه محدود بنيوياً بطبيعته لا بفعل خارجي (سواء أكان الشكل الملموس الذي يظهر عليه أو "التأثير الإمبريالي" المباشر عليه كما تقول نظريات النظم العالمية، والتبادل اللامتكافئ، وغيرها)؛ هذا بغض النظر عن كل التأثيرات الخارجية الأخرى.
2. طبيعة نمط الإنتاج الكولونيالي في البحرين والخليج:
تتشاركُ كُلّ البلدان الخليجية الميزة التالية: بكوْن الوظيفة الكومبرادورية هي الطاغية فيها، وبأن الوظيفة هذه تطغى في الإنتاج النفطي أساساً. لكن دعنا لا نُسيء فهم هذه الحقيقة. أنا لا أعني بذلك بأن طغيان الوظيفة يرجع إلى ما يُسمى بتخصص البلدان في التقسيم العالمي للعمل، وبالأخص تلك التحليلات التي تقوم بتشخيص بلدان الخليج (وغيرها من البلدان) كمصابة بالداء الهولندي. وإنما أشير إلى الحقيقة البنيوية للوظيفة الكولونيالية ككُلّ. تقولُ النظرية الكولونيالية بأنه ليست للقيمة الاستعمالية للسلعة أيّ تحديد، ما قبلي، يدلّ على طبيعة الوظيفة الداخلة في إنتاجها. فمن المُمكن أن يُستخرج النفط بعملية إنتاجية محلية أم كومبرادورية، فما سبب ضرورة أن يكون الإنتاج النفطي الخليجي كومبرادورياً؟
بمقدوري أن استرسل نظرياً لأُفسر هذه الفرضية، ولكنني سأكتفي بما قاله نيكسون في عام 1973: (النفط دون أيّ سوق هو غير نافع لأيّ بلد؛ هذا درسٌ تعلّمه السيد مصدّق قديماً. الولايات المتحدة وأوروبا هما السوق هذه) . إبان تعميم العلاقات الإنتاجية الكولونيالية في الخليج، في سبعينيات القرن الماضي، كانت البورجوازية الخليجية أمام أزمة سياسية حقيقية، بفعل اشتداد حدة الصراع الطبقي، تمنع رأسمالها من التطوّر دون عوائق؛ ولم يكن بيدها أيّ حلٍ حقيقي، من وجهة نظرها، غير التحالف الرأسمالي مع الولايات المتحدة لضمان حلّ الأزمة هذه. الحلّ يتضمن ضمان ديمومة كتلة السلطة بضمان النمو المضطرد لرأس المال. نمسّ هنا عادة ما يُطلق عليه بتدوير البترودولار، إذ تحوّل الإنتاج النفطي الخليجي - بعد أزمة 1973 - من كونه قائماً على إستخراجه وتصديره إلى كونه العامل المحوّري لرأسمالة المجتمع.
يُشير هذا التحوّل إلى تجديد الوظيفة الكومبرادورية القديمة، وذلك بتجدد الوظيفة الامبريالية نفسها في تمرحلها العالمي، التي تربط الإنتاج الخليجي للنفط بشكلٍ مباشر برأس المال الأمريكي، أيّ تقديم التنظيم الرأسمالي في الإنتاج في الأبنية الخليجية بارتباطه بالمصالح المباشرة لرأس المال المذكور (التصنيع، والتطوير العسكري، والتبادل التقني، والاستثمار المصرفي المتبادل إلخ). هذا يعني بأن صعود رأس المال الخليجي في السبعينيات، وهذا واضحٌ في الحالة البحرينية كما نعلم جيداً، ترافقَ مع هجوم البورجوازية على الطبقات الشعبية، أيّ دحر صراعها الطبقي الصاعد.
يُمكنكم أن تتخيلوا، إن شئتم اختبار صحة فرضية النظرية الكولونيالية، ما إذا غلبت الوظيفة المحلية على الإنتاج النفطي. وقتها لم تكن للبورجوازية المسيطرة القوة الكافية لضمان ريوع تفاضلية بشكل منفصل عن المصالح المباشرة لرأس المال الأمريكي، والطريقة الوحيدة لتكون للوظيفة المحلية القوة الكافية هي عبر "الطرق الثالثة" التي أختارتها بعض البلدان المتحررة من الاستعمار، بارتباطها غير المباشر (على العكس من أعضاء الكوميكون) برأس المال الإمبريالي السوفيتي. لكن ذلك سيعني تغييراً شاملاً في الأجهزة المسيطرة.
كُلّ بلدٍ كولونيالي ينتجُ ريعاً إمبريالياً بالضرورة. والريع الإمبريالي هو الشكل المطوّر للقيمة الزائدة الكومبرادورية، ولكنه ليس نتاج مفهومه المباشر، وإنما مفهوم القيمة الزائدة الكولونيالية ككُلّ (التي تجمع المحلية والكومبرادورية معاً)، أيّ لا نحصل على الريع الامبريالي إلا حين نكون أمام ما سميتها بالقيمة الزائدة المقارنة؛ وهي الشكل المطوّر للقيمة الزائدة الكولونيالية ككُلّ بارتباطها بالقيمة الزائدة المتروبولية. لطالما كانت الوظيفة الكومبرادورية هي الوظيفة الطاغية في الإنتاج البحريني، بدايةً من سيطرة العلاقات الإنتاجية الكولونيالية في منتصف القرن التاسع عشر، حيث كان الإنتاج يتمحوّر حول إستخراج وتصدير اللؤلؤ، وبعدها تمحوّر حول إستخراج وتصدير النفط في القرن العشرين. ومع تعميم التنظيم الرأسمالي -الكولونيالي في الإنتاج، أيّ في الربع الأخير من القرن العشرين، ارتبط إستخراج وتصدير النفط بالتصنيع، أيّ كانت له طبيعة مختلفة في الوظيفة الكومبرادورية الطاغية الواحدة. فإن موجة تحقيق الوظيفة الكولونيالية في البحرين هي نتاجُ الصراع الطبقي، وتمرحلها (نسقياً) هو كالتالي:
1- 1880- 1930: في البداية نجد بأن التجارة ازدهرت عموماً بفعل ازدهار الإنتاج نفسه، كنتيجة لتشكّل العلاقات الكولونيالية، وحسب لوريمر فإن التجارة زادت بأكثر من 40% في أقل من عشر سنوات. بعدها كان الصراع الطبقي الشعبي متصاعداً، سواء أكان صراع الفلاحين أم صراع الغواصين، ضد البورجوازية الكولونيالية التقليدية. في مثل الوقت، كانت الوظيفة الكومبرادورية الطاغية تفقد ربحيتها. والحظ كان في جانب البورجوازية الكولونيالية مع إكتشاف النفط، الذي نقل القوة الاقتصادية من التجار إلى بورجوازية الدولة. أدّت الإصلاحات السياسية والإدارية (التي تأتي على هيئة المساومة) إلى تراجع الصراع الطبقي الشعبي في مقابل تصاعد ربحية الوظيفة الكولونيالية نفسها.
2- 1930-1980: الانتقال التدريجي نحو انتشار التنظيم الرأسمالي الفعلي، ومعه نجد الانتقال التدريجي، في عملية التحوّل-الطبقي، من البورجوازية الكولونيالية التقليدية إلى البورجوازية الكولونيالية المتجددة، وتشكّل رأس المال الكولونيالي البحريني. ولّد كُلّ هذا تناقضات جديدة كُلياً. فالطبقة العاملة أخذت تتبلوّر أكثر فأكثر، وصراعها - في المقابل - أخذ يتبلوّر كذلك. فمنذ الخمسينيات وصراع الطبقات الشعبية متصاعد حتى منتصف السبعينيات، إذ هجوم البورجوازية على الطبقات الشعبية مكّنها من تجديد الوظيفة الكولونيالية ككُلّ، أيّ بربط استخراج وتصدير النفط بالتصنيع نفسه. وحتى الثمانينيات كان صراع الطبقات الشعبية في تراجع مستمر.
كيف أثرتْ هاتان الموجتان للوظيفة الكولونيالية على طبيعة رأس المال الكولونيالي في البحرين، وكيف سيشكّل ذلك طبيعة الموجة الثالثة للوظيفة الكولونيالية، أيّ من ثمانينيات القرن الماضي حتى 2030؟
أولاً، دعنا نوضح بأن مستوى تطوّر القوى الإنتاجية في البحرين ليس بمستوى عالٍ خليجياً، فحسب الأرقام الرسمية للحسابات القومية الخليجية لعام 2018 ، كان إجمالي التركيب الرأسمالي البحريني هو الأقل خليجياً، أيّ 3% فقط من الإجمالي الخليجي. بينما مساهمة الناتج القومي الإجمالي البحريني للناتج القومي الإجمالي الخليجي ككُلّ فقد بلغت 2.3% فقط.
تفسيرُ ذلك يرجع إلى الطبيعة البنيوية الخاصة بالوظيفة الكومبرادورية الطاغية بحرينياً، فالبنية الاجتماعية البحرينية هي في طليعة الأبنية الاجتماعية الخليجية من ناحية تطوّر الصراع الطبقي والوعي الطبقي. فالصراعات الطبقية المتصاعدة في البحرين في القرن العشرين، وبعدها البحرين القرن الحادي والعشرين، تشهدُ على صحة ما أقوله. لم تسمح هذه الصراعات لحرية حركة البورجوازية، وذلك على العكس من سائر الأبنية الاجتماعية الخليجية (التي لا ننفي عنها تطوّر الصراع الطبقي طبعاً، مثل الكويت وعمان والسعودية)، التي شهدتْ قدرة أعظم لحرية حركة البورجوازية. مثالٌ على ذلك: إن حلّ المجلس الوطني البحريني في عام 1975، وضرب دعائم الأحزاب السياسية اليسارية والحركات العمالية، كان بلا شك يُمثل هجوماً بورجوازياً على الطبقات الشعبية ككُلّ. ولكن ذلك بحد ذاته أدّى إلى مُعضلة ما، إذ الهجوم هذا كان موجهاً ضد الطبقة العاملة الحضرية بالأساس، وفي الوقت ذاته كان الصراع الطبقي الريفي يأخذ أشكالاً مختلفة وجديدة (وذلك يعود إلى سوء تمثيل اليسار للريف حينذاك). هكذا، كان هجوم البورجوازية في السبعينيات والثمانينيات هجوماً موجهاً ضد اليسار بالتحديد، والطبقة العاملة الحضرية. اكتسب الصراع الطبقي الريفي طابعاً جديداً، وصار في طليعة الصراعات الطبقية الاجتماعية. وبهذا المعنى، تتشنج العلاقة بين البورجوازية والطبقات الشعبية حتى نهاية التسعينيات، أيّ لم تكن البورجوازية البحرينية (بكُلّ أقسامها) في مقدرة متساوية بالبورجوازيات الخليجية.
إضافة إلى ذلك، علينا ألا ننسى العوامل الأخرى التي ساهمت في ذلك كُلّه؛ مثل تأثير الصراع الطبقي المذكور على علاقة بورجوازية الدولة في البحرين بالأقسام الأخرى من البورجوازية، أيّ تلك العلاقة التي حتمت على الأولى حصر الإنتاج في مناطق معينة. فإنه ليس من صالح بورجوازية الدولة أن يكتسب رأس المال الخاص مُعدلاً أعلى للربح بفعل التطوير التقني، إذ ذلك يُنافس الوظيفة الطاغية نفسها؛ وهذا هو موقف البورجوازية هذه آنذاك، واليوم كذلك. أضف إلى ذلك، دور الحربين الخليجيتين في التأثير على مُعدلات النمو. مثلاً، أعطتْ الحرب الخليج الثانية المجال لرأس المال السعودي أن يُستثمر في إعادة بناء الكويت، وحسب أحد الدراسات ، كان من المتوقع أن يستحوذ رأس المال السعودي على 30% من أعمال إعادة البناء في الكويت. كما كان للحرب دور إيجابي في نمو رأس المال الإماراتي والعماني. في حقيقة الأمر، وقعَ الضرر على رأس المال البحريني أكثر من غيره خليجياً، إذ كان نصيب رأس المال الخاص يقع بالتحديد في مجالات السياحة والتجارة، وتأثرت القطاعات هذه في الحرب.
الآن تمرُ البحرين على إمكانيةٍ جديدةٍ في تجديد وظيفتها الكومبرادورية ككُلّ، أيّ دخول إنتاجها في تمرحلٍ جديدٍ لوظيفتها الطاغية. دعنا لا ننسى بأن التحديات التي تواجه الإنتاج النفطي البحريني تكمن في شيئين: 1) رغم أن الإنتاج النفطي، والريع التفاضلي الناتج عنه، هو الأكثر ربحية اجتماعياً، إلا أنه، في نفس الوقت، أمام التحدي الحقيقي الذي سيفرضه انخفاض ربحية الإنتاج النفطي العالمي، أيّ أمام الإقبال الحقيقي للثورة الصناعية الرابعة، التي تحاول استبدال الإنتاج النفطي. فحسب أحد التحليلات ، قلّ اعتماد العالم على النفط منذ منتصف القرن الماضي بنصف المقدار، إذ استهلاك برميل النفط لكل 1000 دولار من الناتج القومي الإجمالي العالمي، أو ما يُسمى باختصار بـ "الكثافة النفطية"، قد انخفض من كونه 0.8 في 1970 إلى 0.4 في 2019. 2) الحالة البحرينية الخاصة، التي تواجه فيها ضعفاً هيكلياً لاستخراج النفط، إذ تقعُ البحرين في الظروف الأسوأ خليجياً لإنتاج النفط.
لكن مع هذه الإمكانية نكون أمام مُعضلة بدأت تتضح ملامحها منذ 2014، إذ أصبحت البورجوازية بحاجة أعظم لاستخراج القيمة الزائدة من الطبقة العاملة. هذا واضح في مُعدلات القيمة الزائدة في البحرين وحدها. من الأرقام الرسمية المنشورة للحسابات القومية في البحرين، من 2008 حتى 2020، يُمكننا أن نرصد حركة عامة، رغم أنها مبهمة لأسباب عدة، للقيمة الزائدة. إذا أخذنا، بشكلٍ عام، الناتج القومي الإجمالي ونقصّنا منه الاستهلاك الرأسمالي، والأجور، والمنافع التقاعدية (بالأسعار الجارية)، سنُترك بما يُمكننا حسابه كالقيمة الزائدة.
هذا الكم بالتحديد ليس دقيقاً، وأنا لا اعتقد بأن النظرية المادية التاريخية تستطيع أن تثبت صحتها بالأرقام وحدها، إذ الحقائق التي تطرحها هي حقائق بنيوية لا إحصائية. فالكمُ هذا يختزن على القيمة الزائدة التي تمّ نقلها إلى القطاع الحكومي غير المُنتج، ورغم أن ذلك لا يتوجب حسابه في النموذج التجريدي النظري، إلا أننا ندرجه في الحساب، وذلك لأنه يختزن على جزء من القيمة الزائدة. إضافة إلى ذلك، نحن نواجه مشكلة الشفافية، وبالتالي قد يُشكّل ذلك عائقاً لجرد احصائي دقيق بمعناه الماركسي. فماذا إذا وضعنا في البال بأن الأرقام المستخرجة هي غير ثابتة، سنتمكن من استخراج التالي:
إذن، التوجه العام لمُعدل القيمة الزائدة في البحرين، منذ 2008 حتى 2020، هو توجهٌ هابط. يدعونا ذلك لنسأل عن العلاقة التي تجمع بين مُعدل الربح ومُعدل القيمة الزائدة. بشكلٍ عام، يهبطُ مُعدل الربح كُلّما كانت القيمة الزائدة تنخفض نسبياً أمام تضخم التركيب العضوي لرأس المال، ومن الممكن لمُعدل القيمة الزائدة أن يرتفع مع هذا الهبوط، ما إذا كان هذا الارتفاع لا يُلغي الانخفاض النسبي هذا، وإلا سيعدّ كالميل المناهض. أما مُعدل القيمة الزائدة فإنه يُشير إلى قدرة الرأسماليين على استغلال الطبقة العاملة، ولكنه - على العكس من مُعدل الربح - لا يُشير، بحد ذاته، إلى مدى تطوّر القوى الإنتاجية ولا مدى تضخم التركيب العضوي. على العكس، أنه من المُمكن لُمعدل القيمة الزائدة أن يكون مرتفعاً بفعل تطويل يوم العمل، أيّ في حالة لا تشهد أيّ تثوير تقني حقيقي للإنتاج يُفضل ما يسميه ماركس بالقيمة الزائدة النسبية، بدلاً من القيمة الزائدة المطلقة.
ما الذي يدلّ عليه التوجه الهابط هذا؟ باختصار، على ضعف قدرة الرأسماليين على استحصال القيمة الزائدة. طبعاً، للبحث عن الأسباب سيكون من الصعب للواحد منا أن يتأبط (المجلد الثالث) لـ (رأس المال)، ويُشير مباشرة إلى تطوّر القوى الإنتاجية، الذي يؤدي إلى الأزمة الرأسمالية، ليفهم توجهات مُعدل القيمة الزائدة وهبوط مُعدل الربح في البحرين أو الخليج. إنه، أيّاً كان، لن يستطيع ذلك. وذلك لأن قوانين نمط الإنتاج الكولونيالي تتميزُ بمميزاتٍ خاصة، لا تتشاركها مع نمط الإنتاج المتروبولي. فضعف قدرة الرأسماليين يرجع إلى طبيعة التراكم النسبي، لا في البحرين وحسب بل الخليج ككُلّ. في بداية القرن الحالي، دخلتْ البحرين في حقبةٍ جديدةٍ، وهي حقبة تعميم العلاقات الاحتكارية. ولكن ذلك لم يكن ممكناً دون تسوية طبقية ككُلّ، أيّ على المستويات السياسية، والاقتصادية، والآيديولوجية. وذلك لأنه لا يُمكن لرأس المال عموماً أن يضمن مُعدلاً مربحاً للربح، إن لم يتمكن من ضمان كُلّ الظروف البنيوية لذلك. فتقديم البرلمان، والسماح للمعارضة العلنية، والسماح للنقابات العمالية، وغيرها من الإصلاحات المعروفة، كانت تمثلُ تنازلاً من طرف البورجوازية، أيّ كنا في حالة توازن طبقي؛ لهذا السبب تحديداً قلتُ، في مكانٍ آخر، بإن كان على اليسار أن يتبنى تكتيك التقوية بدلاً من تكتيك دفاعي (بينما كانت تدعو بعض أقسام المعارضة إلى تكتيكات الهجوم).
ترافق مع الإصلاحات هذه زيادة في النفقات الحكومية في القطاع العام، من الإسكان، والصحة، والتعليم، ودعم السلع الاستهلاكية إلخ، وتضخم أعداد الموظفين الحكوميين غير المنتجين للقيمة في مثل الوقت. تفسرُ النظرية الكولونيالية ذلك كالتالي: لما كان تصاعد سعر النفط قبل 2008 قد شكّل فرصة لرأس المال في البحرين لاستحصال حجم أعظم للريع التفاضلي النفطي، وذلك بحد ذاته تطلب إتمام تسيّد التنظيم الرأسمالي في كافة مجالات الحياة الاقتصادية، فإن ضعف الصناعة في البحرين لعب دوراً سلبياً.
كان على بورجوازية الدولة أن تنقل التراكم النسبي إلى مجالات غير منتجة كُلّياً، وفي نفس الوقت تشجع نمو رأس المال الخاص لاستيعاب التراكم النسبي في مجالات مُنتجة للقيمة. ولنلاحظ بأن في الفترة هذه تعالت الدعوات لتمكين القطاع الخاص وطرح رؤى جديدة (مثل رؤية 2030). تطابق نقل التراكم-النسبي إلى تلك المجالات غير المُنتجة بطبيعة التوازن الطبقي نفسه، ولكن التنازلات التي كانت البورجوازية مستعدةً لأن تقدّمها لم تتطابق مع واقع الأمر، مما أدّى إلى احتدام الصراع الطبقي، الذي بلغ أوجّه في 2011. لكنها لم تكن أزمة سيطرة طبقية، وإنما كانت أزمة هيمنة طبقية. مهما تضخمت القطاعات الحكومية غير المُنتجة، ومهما كانت تعبّر عن إصلاحات اكتسبها العامل في البحرين، فإنها لم تترافق مع إصلاحاتٍ ديموقراطية تامة؛ والبحرينيون (وأخصهم لئلا أعمم ذلك على الخليج كُلّه) هم كائنات سياسية بالطبع. وبفعل طبيعة التراكم النسبي والتوازن الطبقي، وهذه ظاهرة عامة موجودة في الخليج عموماً، كان من المحتم أن يتوظف العمال البحرينيون في تلك المجالات، بدلاً من القطاع الخاص الذي سيخل - بطبيعة الحال - بطبيعة التوازن الطبقي، مما يؤدى إلى استقدام عمالة وافدة رخيصة، وهي تُشكّل غالبية القيمة الزائدة المُنتجة وطنياً.
يستحصل رأس المال الخاص أرباحه من خلال وفرة العمالة الرخيصة التي يستحصل عبرها قيماً زائدة أعظم، أيّ عبر القيمة الزائدة المطلقة. فإنه من الواضح بأن العمال المواطنين المُنتجين للقيمة (ولا أعني الموظفين الحكوميين طبعاً) هم الأكثر استغلالاً اجتماعياً، وأنهم من ينتج غالبية الريع الامبريالي. أنا لا أشيرُ إلى الاستغلال بمعناه الأخلاقي، وإنما بمعناه الماركسي. فلا تناقض بين ما قلتهُ للتو وحقيقة أن استغلال العمالة الوافدة يأتي بأسوأ الأشكال الممكنة، ولكن القضية الأخيرة تُشير إلى الاستغلال بمعناه الأخلاقي والانساني، وكتبَ الكثيرون في هذا المجال، بينما أشيرُ إلى الاستغلال بمعنى العلاقة الجامعة بين يوم العمل الضروري والفائض، وعلاقة رأس المال الحي بالميت.
أدّت الأزمة المالية في عام 2008 إلى إختلال الريوع التفاضلية النفطية، إذ هبط سعر البرميل الواحد من 147 دولار في يوليو لأدنى مستوياته في يناير، فأصبح ما يقارب 40 دولار. إن تراجع الريوع التفاضلية النفطية يعني تراجع الإيرادات الحكومية بالضرورة، ولكن كان على الحكومة أن تستمر في نفقاتها القديمة، وإلا فإنها كانت ستخاطر بإخلال التوازن الطبقي نفسه، وهو ما يهم البورجوازية أكثر من أزمات مالية دورية. ولكي تستمر الحكومة في نفقاتها القديمة، كان عليها أن تُغطي ما لا تستطيع إيراداتها تغطيته، وبالتالي كان عليها أن تقترض لتلبي هذه المهمة.
بعد ذلك، أدّت الأزمة السياسية في 2011 إلى تعاظم النفقات الحكومية على الأمن، وترافقَ مع ذلك تعاظم الدين العام بالضرورة. ففيما شكّل الدين العام 8% من الناتج القومي الاجمالي في 2008، ارتفع ليشكّل 41% في 2013. في نفس الفترة، شهدنا هجوم البورجوازية على الطبقات الشعبية، أيّ إختلّ التوازن الطبقي لصالح البورجوازية، مما يدلّ مباشرة على قدرتها في نقل التراكم النسبي إلى مناطقٍ أخرى تماماً، كنتيجة لخسارة الطبقات الشعبية مكتسباتها القديمة. في هذه الفترة، شهدنا طفرة أخرى في أسعار النفط؛ فقط لتنهار ثانية في 2014. وفيما كان انهيار أسعار النفط في 2008 يعبّر عن أزمة مؤجلة، عبّر انهيار 2014 عن أزمة فعلية؛ وفيما أتى الاقتراض بعد 2008 لتسهيل عملية التراكم (أيّ لتصريف التراكم النسبي)، أتى الاقتراض من بعد 2014 لمقارعة فائض التراكم (الذي يحدثه عدم القابلية في تصريف التراكم النسبي)، وبالتالي، بحلول 2019 ارتفع الدين العام حتى 100%، واليوم يتجاوز 130%.
كان من الضروري تقليل نفقات الحكومة، فلم يعد من المُمكن الاستمرار بالطريقة القديمة. شكّل إختلال التوازن في القوى الطبقية الظرف المناسب لفرض العوامل المناهضة لهبوط مُعدل الربح، إذ انخفضت الأجور بالمعنى الفعلي والنسبي، وتضمن ذلك رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية، وفرض ضريبة القيمة المضافة، وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، وغيرها. إتجهت بورجوازية الدولة أكثر فأكثر نحو السماح للأقسام البورجوازية الأخرى للمساهمة في استيعاب التراكم النسبي هذا، بدلاً من ضخه في مناطق تدعم الأوضاع المعيشية الشعبية كالسابق. لكننا نُترك هنا مع معضلة حقيقية: لما كان دور الإنتاج الخاص هو الصعود لاستيعاب هذا التراكم، فإن منطق الربح الرأسمالي يلجأ بالضرورة للعمالة الرخيصة بدلاً من العمالة المواطنة التي تتوقع أجوراً أعلى؛ وبالتالي، يزداد التنافس بين العمالتين يوماً عن يوم، إذ إما يبقى المواطنون الذين من المتوقع منهم أن يدخلوا ضمن أعداد القوى العاملة عاطلين عن العمل (والأرقام الرسمية لا تفصح عن الأعداد الحقيقية) وإما يوظفون في أماكن لا تُناسب تخصصاتهم. كما أن المواطنين المتوظفين في القطاع العام يُشكّلون عبئاً على الحكومة، التي تبحث عن طرق مختلفة لتخفيف أعدادهم (مثلاً عبر التقاعد الاختياري) لتقليل نفقاتها.
هكذا، يكون الإتجاه العام لفائض التراكم، والذي - كما بيّنا - يختزن مقداراً معيناً من التراكم النسبي، إتجاهاً نحو تجديد الوظيفة الكومبرادورية الطاغية. ورغم أن ذلك لن يعني التخلي عن الإنتاج النفطي، إلا أنه سيعني تشكّل جديد للوظيفة الكومبرادورية الطاغية هذه، أيّ الإتجاه نحو القطاعات الخدماتية، والإتصالاتية، والسياحية، وغيرها. سيكون هذا الإتجاه مضاداً للطبقات الشعبية، مهما تضمن تنازلات قادمة لها، وسيمثل توحيداً أقوى للوظيفة الكولونيالية ككُلّ، إذ بذلك تتوحد البورجوازية بشكلٍ أقوى. ولكنه أيضاً يدلّ على ضرورة تعاظم الصراع الطبقي الشعبي، حيث ستضطر الطبقات الشعبية الدفاع عن مصالحها الطبقية، أيّ أن البورجوازية، وسيطرتها الطبقية، ستكون دائماً أمام أزمة مكشوفة.
فالمدينة في البحرين، إن صحّ التعبير، كما هي المدينة في الخليج، أصبحتْ تتضمن تركيباً ديموغرافياً مختلفاً، وتحتوي على صراعات وتناقضات جديدة لم تكن ملموسة في السابق، ولكن هذه التغيّرات، التي سيعتبرها البعض "غير سوية" أو "مختلّة"، هي ليست نتاج العقلية الرأسمالية الطاغية (أو العقلية الطاغية التي تصبح ملموسة في المؤسسات الإدارية)؛ كما نسمعُ كثيراً في الأدبيات المختصة بشأن ما يسمى بالتنمية في الخليج. وعادة ما تدلّ الأدبيات هذه على ضرورة تبني نموذج بديل للتنمية، بشتى أشكالها: سواء أكانت نماذج تتضمن "العدالة الاجتماعية"، أو نماذج تشدّد على ضرورة إشراك القطاع الخاص لـ "تنويع مصادر الدخل"، أو نماذج تركز على تغيير "العقلية اللاحداثية" التي تُدير التنمية الحداثية، وغيرها. ليس ثمة واحدة منها تستطيعُ أن تفسر الواقع، إذ ليس ثمة واحدة منها تنطلق بمنطلق تغييره.
فإن صحّ القول: صحيح، "اكتفى الفلاسفة بتفسير العالم بينما المطلوب هو تغييره"، ولكن ذلك لأن الفلاسفة لا يريدون تغييره ولا يعرفون كيفية تغييره. فالحقيقة ليست نتاج فعل محايد يقرأ الواقع، ليكشفها أو "يستنبطها"، وإنما هي وليدة العنف النقدي الهدام، إذ الواقع دائماً يفتقد الحقيقة، فيتوجب إنتاجها. أنا لا أقول ذلك ليفهم كلامي، خطئاً، بأنني أقابلُ المدينة الخليجية بمدينةٍ فاضلةٍ مؤملة، وكان ابن خلدون على حقٍ حين اعتبر البحث عن المدن الفاضلة يقع تحت باب التقدير، والافتراض، والتمني؛ لا التحليل الواقعي. وإنما لأقول بإن تعاظم التطوّر الرأسمالي الكولونيالي في البحرين، وفي الخليج، لا يعارضه تطوّر رأسمالي غير كولونيالي، إذ كُلّ النماذج المطروحة، والتي ستطرح، هي نماذج مختلفة لرأسماليةٍ واحدةٍ لا يُمكن تغييرها أبداً؛ وبالتالي، أيّ محاولة، سواء أكانت نظرية أم عملية، تخالف ذلك فإنها أيضاً تقع تحت خانة التقدير، والإفتراض، والتمني. في ذات الوقت، فإن الوضع الطبقي البروليتاري في إنتشار دائم، وتناقضاته الفعلية تظهر على السطح الآن. فيتضح لنا بديل آخر: إن المجتمع اللاطبقي، أيّ نمط الإنتاج الشيوعي، هو غير مُمكن إلا إذا كان يمتاز بكونه تآلفياً. والتآلفية تصبحُ ممكنةً (رغم أنها غير محصورة بذلك) كلّما كان الوضع الطبقي البروليتاري منتشراً أكثر، من جهة، وكلما كُنا على وعيٍ بالبديل الذي نقدمه، أيّ هدم الرأسمالية الكولونيالية بالكامل، من جهةٍ أخرى، إذ قوانينها الموضوعية هي في قاع المسببات لهذه الظواهر التي إنتقدها الكثيرون. أنا لا أدعوكم إلى واقعٍ بديل، وإنما لنقد الواقع الحالي.