DELMON POST LOGO

باربي.. هل يوجد فيلم بريء؟

بقلم :باسمة القصاب

وسط الجدل الدائر حول فيلم (باربي)، لفتتني عبارتان ترددتا على لسان المنحازين إلى الفيلم بصياغات مختلفة؛ فيلم كوميدي خيالي (بريء)، وعمل مبدع و(مُبهر).

أثارت كلمة (برئ) عندي تساؤلاً غير بريء، هل هناك سينما بريئة حقاً؟ وهل هناك برامج ترفيه أو تسلية بريئة؟ بل هل هناك صناعة فنيّة أو عمل بريء أصلاً؟ إذا كنا نعيش الآن عصر أصبحت فيه لعب الأطفال غير بريئة، الرسوم المتحرّكة غير بريئة، هل يمكن أن نتحدث عن فيلم سينمائي تضخّ في إنتاجه ملايين الدولارات، ويسبق طرحه في دور السينما حملة دعائية ضخمة، عقدت فيها الشركة المنتجة شراكات مع ما يقارب 100 علامة تجارية، للمشاركة في هذه الحملة الدعائية، وطرح منتجات خاصة بشخصيات فيلم "باربي"، بينها علامات تجارية لمستحضرات تجميل من أدوات مكياج وطلاء أظافر وردية اللون، إلى مستحضرات طبية، إلى علامات تجارية خاصة بإنتاج الملابس والأحذية والسجاد والحقائب وغيرها، كل هذا من أجل فيلم تسلية وترفيه (بريء)؟

لست هنا بصدد الحديث عن فيلم (باربي) تحديداً، بل الوقوف عند وهم أن يتصوّر أحدهم، أن هناك عمل فني ابداعي ترفيهي، وبريئ. برامج التسلية والترفيه واحدة من أكبر صناعات (اللا براءة) في العالم، مهما تصنّعت (البراءة)، كل ما في الأمر أنها تُبدع في تمرير ما تريد تمريره، بطريقة مسلية وممتعة و(مبهرة).  

سينما هوليوود الأكثر إبهاراً ونجاحاً، والتي تحقق أفلامها أكثر مبيعات شبّاك التذاكر حول العالم، هي الأكثر تأثيراً في تشكيل وعي الناس، في تثبيت وعي وتغييب آخر، في حرف وعي وتكريس آخر، لا يخلو فيلم من إيديولوجيا يراد تمريرها وثقافة يراد عولمتها، من فكرة يراد تثبيتها مقابل أخرى يراد تغييبها، من صورة يراد رسمها مقابل أخرى يراد مسحها، مهما وجد البعض أن فيلم ما تافهاً وساذجاً أو ركيكاً، مقابل فيلم آخر عظيم ورائع ومبهر. الزعم أن السينما وبرامج الترفيه والتسلية بريئة ولا تنطوي على أيدلوجيا مضمرة، هي واحدة من أكبر الخدع التي يجري ترويجها للتلاعب بالعقول. البرئ فعلاً هو من تنطوي عليه هذه الخدعة، وهنا تكون البراءة ضرب من سذاجة.

نأخذ مثلاً موضوع المثلية والشذوذ الجنسي الذي تفرضه علينا أمريكا والعالم الغربي اليوم مثل وجبة (فاست فود) دسمة، علينا أن نتجرّعها في وجباتنا الثلاث بشكل يومي، دون أن نشتكي أو نتبرّم. هذا الموضوع الذي جرّد من بعده الإنساني البيولوجي الذي كنّا نتعاطف معه، وأحيل إلى ميوعة جنسية صاخبة مقرفة ومقززة. قامت صناعة التسلية والترفيه العالمية اليوم باقحام المثلية في كل أعمالها، وترسيخ صورة مهلهلة جنسياً للإنسان، وتحويل الميوعة الجنسية إلى فخر، حتى لتشعر وكأن الطبيعة صارت هي الشذوذ. لم يُستثن من ذلك حتى الأطفال، أُقحم في ألعاب براءتهم ومسلسلات الكرتون الخاصة بها والرسوم المتحركة. رأينا كيف أعلنت امبراطورية والت ديزني بكل (فخر) عزمها على زيادة حصة (المثلية) في أفلامها. وكيف أن شبكة عملاقة مثل نيتفلكس، لا يخلو فيلماً من إنتاجها من أبطال مثليين، يتم حشرهم في كثير من الأحيان بطريقة ركيكة ومتكلفة، يأتي هذا الزجّ المتكرر والمتعمّد ليحفر عميقاً في لا وعي المشاهدين بشكل تدريجي، من أجل تحويل الميوعة الجنسية إلى ظاهرة طبيعية، وتبديل مشاعر الاشمئزاز إلى التعود والتعاطف ثم الاستلطاف والتأييد، سيما المثليين الذين يجري تقديمهم دائماً كأذكياء لطفاء بريئين طيبين. هذا مثال واحد فقط. فهل يمكن الحديث عن تسلية بريئة وترفيه بريء؟

لا صناعة ترفيه بريئة، ولا شبكات انتاج دون إيديولوجيا تحركها وتوجهها، كلها في الواقع أشكال من تثبيت واقع ما أو تغييره، وكلّها أدوات تعليم وتلقين وتكريس، تمّرر أهدافها دون أن تعترف بذلك أو تصرّح به.

لكن هل يمكن لهذه الصناعة أن تحدث تأثيرها في الجماهير لولا امتلاكها عنصر الإبهار؟ بالطبع لا. لهذا عندما يقول المنحازون لفيلم باربي إنه عمل رائع ومبهر فإن الحق معهم. الإبهار هو أول ما يسيطر علينا ويدهشنا عند مشاهدتنا لمسلسلات نتفلكس مثلاً، تزداد قدرة الأفلام والمسلسلات على التأثير علينا بزيادة قدرتها على ابهارنا وإبقاءنا متسمّرين أمامها. تمرّر مضامين هذه المسلسلات والأفلام عبر سيناريو مبهر، وإخراج مبهر، وتصوير مبهر، ومشاهد مبهرة، وأداء مبهر، وحوارات مبهرة، إنه إبهار مركّب، مستوى عال من الإثارة والمتعة والخيال والجمال، تبقينا مأخوذين مسحورين، فنتجاوز عن كل ما يُلفتنا من تمريرات، أو لا نلتفت لها أصلاً، بل قد تكون واحدة من وظائف الإبهار، إيقاف عقلك عن التفكير، وإشعال حواسك وغرائزك فقط.

وظيفة أخرى للإبهار هي الهيمنة، تقوم صناعة التسلية والترفيه بالهيمنة عليك وعلى أفكارك وتوجهاتك، فهي قادرة على خلط كل الأشياء في داخلها، ثم عجنها معاً، وعجنكَ معها بمهارة دون أن تشعر. لهذا يعدّ الإبهار شرط أساس في الترويج. السلعة الكمالية التي لا يبُهرك عرضها وترويجها، ولا تشعرك أن حياتك بدونها صعبة ومستحيلة، لن تفكّر في شرائها ولن تقبل عليها.

لا يوجد إبهار برئ، ولا فن بريء، ولا تسلية بريئة، ولا كتابة بريئة، لا أحد يبهرك من أجل إسعادك وتسليتك فقط، بل من أجل الهيمنة على عقلك وأفكارك وحواسك، من أجل جعلك شخص مهيمن عليه، وسعيد في الوقت ذاته.