صغر سني جعلني التحق بالدفعة الثانية من فوج الطلاب الذين سترسلهم الثورة إلى حوف بمدرسة الثورة في مايو 1971
يتابع الكاتب العماني مسيرته علي الكثيري في كتابه / روايته / سيرته " رصاصـة الماكاروف.. " الحديث بالقول : وقد صادف وصول أبي قبل عام 1970 بعام تقريباً، فقد سمعنا بعد وصوله بعام عن إطلاق سراح السجناء، وكان عمي الشيخ سالم سيلمون من ضمن المفرج عنهم ومجموعة من رجال القبيلة المعتقلين إبان حكم سعيد بن تيمور.
وقد قيل إن سلطاناً جديداً يدعى قابوس بن سعيد بن تيمور تولى زمام الحكم خلفاً لوالده السلطان السابق، وقد أطلق سراح جميع السجناء الذين كانوا معتقلين في حكم والده. وكان حينها والدي الواصل من السفر حديثاً ضمن الملتحقين بصفوف الثورة التي كانت قد اتسعت رقعتها لتشمل معظم جبال ظفار.
وبينما لم تتضح توجهات السلطان الجديد الوارث لتركة والده الثقيلة والمعقدة، والذي قامت الثورة لتغيير حكمه، فقد كان الجميع مع الثورة ريثما تتضح معالم الحكم الوليد ونهجه القادم. وبما أن الناس كانت تعاني من حكم والده السابق، لم تكن هناك ثقة كبيرة بأن الخَلَف سيكون أفضل مما كان عليه والده، ولكن تصاعد وتيرة العمل الثوري والتفاف الناس حول الثورة عمل على الإسراع بعملية تغيير النهج بما يتلاءم ومعطيات العصر ومتطلباته، حتى يضمن حكمه وحكم أجداده البوسعيديين.
كان أبي في تلك الفترة وبعد وصوله من السفر، قد عمل على الاقتران بزوجة جديدة، فقد كان قد أرسل مرسالاً من الثوار لإحضار بقرتين كوجبة غداء احتفاءً وإعلاناً لزواجه. وكنت وأخي الأصغر لم نزل في كنف أجدادي لأمي ووالدتي الذين يرعوننا ويهتمون بنا في غياب أبي وسفره.
ولم أكن أعرف من هي زوجته وبمن تزوج أصلاً، وربما كانت الناس تقول لماذا لا يعود لزوجته أم ولديه؛ فهي لم تزل في ربيع شبابها وسوف تنجب له الكثير من الأبناء بإذن الله، وهي من ترعى أمه المعاقة ووالديها، قائمةً بدور المعيل نيابة عنه.
وكان الجميع يرعون أولاده وأبقاره وأمه، ويحافظون عليهم كأمانة ويرعونهم بعناية تامة رغم ظروف الفقر وبساطة العيش والأعباء والمشقة التي يتكبدونها، لكن كل ذلك لم يتم، فتلك كانت مشيئة الله وقدرته وكتابه.
وبعد زواج أبي قررتُ أن أذهبَ لأقيم مع والدي وزوجته الجديدة التي كانت نِعمَ الأم والخالة، بالرغم من أن البعض يعتبر ذلك شيئاً من الانحياز ونكراناً للجميل. لكنني قررت رغم صغر سني ودون الاكتراث لأيّ لوم أو معاتبة من هنا أو هناك أن أترك والدتي وأجدادي الذين كانوا يعتنون بي أيّما اعتناء ولم يقصروا معي يوماً ما، فهم من كانوا يعتنون بي وأخي وجدتي لوالدي ومواشينا أثناء غياب الوالد.
لكنني لم أكن أحسب حساباً لكل ذلك، فكانت غايتي كلها أنني قد كبرت وأصبحت في سن أرى فيها أن أكون أكثر قرباً من والدي الذي كنت سابقاً أحلم برؤيته والعيش معه وأن أكون بالقرب منه. وهنا وجدت ضالتي وحلمي يتحققان مع عودة والدي واستقراره. عليه قررت أن أكون إلى جانبه، ولو لم أكن في سن تؤهلني لمساعدته في شيء.
وبعد أن استقر الوالد قرر أن يستقل بداره وأسرته، وأن يحضر والدته وما تبقى له من أبقار إلى داره الجديدة وزوجته الجديدة، تاركاً الخيار للابن الأصغر في أن يختار المكان الذي يرغب في العيش فيه لصغر سنه، فكان قراره البقاء مع والدته.
وفي هذه الأثناء وبينما كنت موجوداً معه، كان والدي يرسلني في بعض المهام البسيطة التي تعتمد على المشي وليس فيها حمل يكلّفني العناء؛ فالمشي على الأقدام عملية معتادة وليس فيها مشقة؛ لأننا في الريف تعوَّدنا على ذلك منذ أن بدأنا نقف على أقدامنا فليست هناك وسيلة أخرى للتنقل، فتارة أذهب لمراقبة ورود الأبقار للماء مع أحد من الجيران الأكبر سناً من سكان الحي الذي نقطنه، فكانت جميع أبقار سكان الحي تساق معا لورود الماء والرعي حتى تعود مساء، وكان يتناوب على رعيها اثنان من أفراد الحي كل يوم. والحي باللغة العربية هو مجموعة السكان التي تقطن مكانا واحدا متجاورة في سكناها. وفي لغتنا الشحرية تسمى (حوكب) أو سكن.
وكان الوالد يرسلني أيضاً إذا اشترى عدداً قليلاً من الأغنام ووضَعَها عند أصحاب الغنم، يوفدني للذهاب لرؤيتها وربما المكوث ليلة أو ليلتين عند أصحاب الأغنام وأعود للدار بعدها، إذ لم تكن لديَّ مشكلة في الذهاب والمشي لأي مسافة، فقد اعتدت الحركة منذ بدأت أقف على قدميّ. وفي إحدى هذه المهام كنت عند أحد الأهالي الذين استودعهم والدي بعض الأغنام في عقبة عرية في غار يسمى تنخوري، وكانت تسكنه في تلك الفترة أسرة أحمد بن جمعان جحجاح القظر، وأسرة سعيد أديتوب صافرنة بيت عمر بن محمد. وقد بتُّ عندهم منذ الليلة الماضية. وفي الصباح الباكر سمعنا قصف وأزيز طائرات حربية تقصف بعض ديار المواطنين الذين تشك الحكومة أنهم يؤوون الثوار أو يقدمون لهم الدعم. وكان قصف الطائرات مختاراً بعناية للديار والمساكن والمياه حيث تَجَمُّع الأهالي وحيواناتهم ومكان تجمُّع الماشية وخاصة الإبل.
وفي ذلك اليوم الذي أصبحت فيه خارج دار أبي، عرف الناس أين هو مصدر القصف وحَدد أصحاب الدار الذين كنت بضيافتهم مواقع قصف الطائرات، وقالوا قُصفت (هيوت) و(قشيرت). وهذين الاسمان لديار معروفة بسكانها ومواقعها في بيت زربيج، وكانت هيوت حيث تقع دار أبي وبعض الأهالي الأقربين، أما قيشيرت فهي إحدى ديار قبيلة بيت شعنوت من بيت علي بن بدر، وهي إلى الشمال منا أي شمال غدو، وهيوت جنوب غدو، وما إن أخبروني أن دارنا هي التي قصفت في ساعات الفجر الأولى، حتى أسرعت فوراً وأطلقتُ قدميّ الصغيرتين للريح ركضاً والدموع تنهمر من عيني. وفي طريقي كان لا بد أن أمر بعين ماء شرضات المعروفة الآن بعين ماء أيوب لقربها من مسجد أيوب وضريحه، ووجدت بعض الذين يوردون حيواناتهم ويجلبون الماء لديارهم، وتراءى لي أنهم لا يكترثون لشيء، أو ليس لديهم علم بأمر القصف الجوي الذي سُمع دويه في الصباح الباكر.
وقد واصلت مسيري ركضاً مجتازاً ودياناً ومنحدرات لأصل إلى الدار، ووجدت أكبر دار في حوكب اهيوت تحترق، وهي عبارة عن بيت مبني؛ قاعدته بالحجر وسقفه من الحطب، يسمى الشحرية ستريت، وهي أكبر من الكوخ طبعاً. ووجدت إحدى خالاتي وأمها جالستين تحت ظل الشجرة تنظران بحيرة للحريق المنبعث من الدار التي لا يُعرَف إن كان أهلها ما زالوا هناك أم استطاعوا النجاة مع أبقارهم وأصبحوا في مأمن؛ لأن الأبقار وأبناءها الصغار لم تعد موجودة ولا يعرف أحد إلى أين ذهبت، وهي لا تخرج من حظائرها المحكمة الإغلاق إلا إذا فَتَح لها مالكها. وهذا ما جعل الناس تتأمل أنهم أحياء ولجؤوا إلى إحدى المغارات في أيٍّ من الأودية القريبة مع أبقارهم. وسألتهما عن أبي وزوجته وجدتي وبقية أهل الحي، فقالتا إن والدك حمل والدته بعد القصف وتبعه البقية إلى غار يسمى (جيي) شمال الموقع بما يقارب اثنين كيلومتر تقريبا.
وبعد وقت قصير وبينما أنا وخالتي وأمها ننظر بحيرة وخوف إلى الدار التي تشتعل منها النيران، وصل والدي وسأل مخاطباً النسوة: هل عاد أحد من أهل الدار المحترق؟ لأن الجميع يعتقد أن الأسرة قد ذهبت مع الأبقار، فمن فتح للبقر وأبنائها معاً إذا لم يكونوا هم من فتح لها؟ فليس من المعقول أن يفتحوا للأبقار ويعودوا للدار. ذلك كان حدس الناس وتفكيرهم. هنا جاوبته النسوة: لم نرَ أحداً لا الأبقار ولا أصحابها. وقال الوالد لهن هيا بنا فربما يعود القصف اليوم أو فجر غد، وذهبنا أنا وخالتي معه وكانتا قد جهزتا من قبل ما تريدانه من أمتعة، وهي بسيطة آنذاك ومتواضعة. وذهبنا معاً حتى وصلنا للمغارة حيث الأمان من قصف الطائرات الحربية، وقد تجمع هناك الكثير من الأهالي ومواشيهم، والكل في استغراب وتساؤل أين ذهب أهل البيت الذي قصفته الطائرات، إذ لا ظهور لهم ولا لأبقارهم.
وفي الصباح الباكر لليوم التالي، ولا أعتقد أن والدي نام ليلتها وربما شاركه في عدم النوم الكثيرون من الذين باتوا في الغار الآمن ليلتها، قام أبي صباحاً وامتشق بندقيته وغادر الغار وقد حمل معه جزرة (فأساً) ليقطع بها الحطب، وأخذ معه فرعا طويلا ومتينا لشجرة قوية، وربما راوده الشك أن أهل الدار المحترقة ما زالوا داخلها وقد احترقوا لا محالة. وعندما وصل إلى الدار وجدها لم تزل تحترق، فأدخل مقدمة فرع الشجرة الذي حمله معه من الغابة إلى داخل النيران وحركه للأعلى حتى يحرك ركام الحطب المحترق ليكشف إذا ما كانت هناك جثث تحت ركام الحريق. وما أن حلحل الركام المحترق، حتى تكشفت شيئاً فشيئاً بعض بقايا الجثث المحترقة. وهنا أوقف عملية حلحلة ركام النيران حتى يُبقي على ما تبقى من الجثث سليمة ليتمكنوا من جمعها معا ليسهل دفنها فيما بعد. وقد نادى متأثراً وهو يتصبب عرقاً من لهب النيران التي تلفح وجهه في الناس الذين تجمعوا في ذلك الصباح للاستطلاع والتأكد من أن أهل الدار أحياء أم احترقوا في دارهم. وأبلغهم بالخبر الحزين؛ وهو أن أهل الدار قد قضوا في القصف، وعظم الله أجركم فيهم ورحمهم الله، فإنهم تحت النيران جثث محترقة، والآن علينا أن نبقي على كل شيء كما هو يحترق حتى لا نتسبب في نبش الجثث وفصلها، وكل ما علينا الآن هو أن نجمع أكبر قدر من المياه والطين ونحاول إطفاء النيران ولو كلفنا ذلك أياماً، لأن أي حلحلة لتفريق النيران سوف تمزق ما تبقى من الجثث.
ونزل هذا الخبر الحزين كالصاعقة على الناس الذين تعاونوا فيما بينهم على إطفاء النيران بالماء والطين. وفي اليوم التالي كان كل شيء قد انطفأ ونُظِّف المكان من بقايا الحطب والفحم والرماد، وجُمعت الجثث معا وكُفِّنت بما تيسر من الأقمشة النظيفة. وقرر المجتمعون حفر القبر بين جدران دارهم التي أكلتها النيران، وقُبروا جميعا في مقبرة جماعية واحدة. وكانت الأسرة هي أسرة سالم بن علي بن عمر الشرخ بيت سعيد القظر. وكانت مكونة من الأب والأم وولدهم الوحيد أحمد وبناتهم الست وبنت من أقاربهم باتت عندهم لتستأنس بالبنات وتسهر معهن حتى تعود لدار أهلها القريبة جداً لدارهم، ولكن ربما داهمها النوم وكان ذلك قدرها المحتوم، فسبحان مقدر الآجال، والشابة المرحومة -بإذن الله- تكون أخت زوجة والدي، رحمهم الله جميعاً.
وقد كان هذا القصف من ضمن طلعات جوية دأب عليها النظام لقصف السكان وترهيبهم وثنيهم عن دعم الثوار، فقد كان يتم قصف المراعي والمياه وتجمعات المواشي في كل مناطق ريف ظفار. وقد عانى المواطنون من ذلك القصف الأمرّين، فقد أحرقت قنابل النابالم التي تلقيها الطائرات الحربية البريطانية على كل ثابت ومتحرك في جبال ظفار الأخضر واليابس، مما أجبر الأهالي على النزوح إلى المناطق المجاورة لليمن أو إلى المناطق اليمنية المجاورة لعمان طلباً للأمان، وإن كان ذلك الأمان نسبيا مقارنة بمناطق الداخل الظفاري.
وفي ظل هذه الظروف كانت زوجة والدي الجديدة نعم الشريكة لحياته في أحلك ظروف الحرب وشظف العيش، وكانت له نعمَ الزوجة والأم لأولاده، نعم الأم والبنت البارة بوالدته المعاقة، وكانت تقوم بالرعاية المثلى للجميع وهي وحيدة دون معين. فما زلت أتذكرها حاملاً بمولودها الأول وهي تورد الأبقار وترعاها وتجلب الماء والحطب من أماكن بعيدة للسقيا وتجهيز المأكل والمشرب. وكانت تلك حال جميع نساء ريف ظفار، وفي بداية العام 1971م أنجبت أول مولود لها وسمّوه حامداً.
وفي مايو من العام نفسه كان موعد الدفعة الثانية من فوج الطلاب الذين سترسلهم الثورة إلى حوف على الحدود اليمنية العمانية، فقد كانت الدفعة الأولى قد ذهبت قبل عام أو عام ونصف، وقد تأخرتُ عن الذهاب في تلك الدفعة لصغر سني، بالرغم من أني كنت تواقاً للذهاب وكان لا بد لي أن أذهب مع الدفعة الثانية التي كان يُجهَّز لتحركها في مايو 1971. وقد وصل إلى دارنا اثنان من إدارة المنطقة المعنية بتجهيز من يريد الذهاب إلى حوف للدراسة وإلحاقهم بالقافلة التي ستقلّهم إلى حيث المدرسة في اليمن الجنوبي، وهما سهيل بن أحمد بن سعيد النوبي الكثيري (سهيل حور)، وأحمد بن سالم بن عيسى عليوت الكثيري (حرقوز). وقد جلسا مع والدي لبحث إمكانية ذهابي مع القافلة التي ستتحرك في اليوم نفسه مساءً، وذلك لمعرفتهم بظروف الوالد القاهرة؛ لأنه يتحمل مسؤولية وجوده في الثورة ووالدته المعاقة وقطيع من الأبقار وزوجته التي أنجبت طفلاً في تلك الفترة، وربما كان وجودي إلى جانبه يخفف عنه الكثير من تلك الأعباء، وقال لهم الوالد سنأخذ رأيه أولا ونرى ما إذا كان سيقدر الأمر.
ناداني الوالد بوجود الإدارة التي أتت لتلحقني بالقافلة إذا ما قررت الذهاب، وأخبروني بالأمر مشفوعاً بحالة وظروف أسرتي التي تحتاجني للبقاء معها في تلك الفترة الحرجة والظروف الإنسانية القاهرة التي أعرفها ويعرفها الجميع. وبعد أن أنهوا كلامهم وشرحهم لكل تلك المسببات التي ربما تثنيني عن الذهاب وتجعلني أقدّم ظرف أهلي الملح على رغبتي الشخصية في الذهاب، لم أكترث كثيراً للأسباب القاهرة التي ذكرت، وهو أمر يعود ربما لحماس الأطفال وفضولهم وتشوقهم لكل جديد، وقررت الذهاب وأقسمت أن لا أبقى. وهو ما جعل الوالد يبارك ذهابي قائلا لي: على بركة الله يا ولدي. وجهَّزَ لي ما تيسر من ملبس، وودعني بعدها حاضناً ويداه تربتان على ظهري وكتفي، داعياً لي بالتوفيق. فغادرت بمعية من أتى لإلحاقي بالقافلة إلى حيث موعد اللقاء والانطلاق.