DELMON POST LOGO

نهار آخر .. لماذا بكّرتَ في الرحيل يا أحمد؟

بقلم: رضي الموسوي

أصرّ شهر فبراير الذي انقضى إلا أن يرحل آخذا معه رفاقًا وأحبة وأصدقاء، وكأن القدر يتربّص بكل ما هو جميل في حياتنا. اللهم لا اعتراض. هذه سنة كبيسة بسبب شهر فبراير الذي يضاف له يوم واحد من أيامه المعتادة الـ28، لتكون عدد أيام السنة 366 يوما بدلا من 365 يوما. تتكرر الحالة هذه كل أربع سنوات. في شهر فبراير فقدنا أحبة وأصدقاء منذ اليوم الثالث منه، حيث غادرنا الفنان المسرحي التجريبي المتمرد عبدالله السعداوي، وبعده بعشرة أيام فوجئنا برحيل الصديق محمد يوسف الجودر في القاهرة دون مقدمات، لنتفاجأ في العشرين من ذات الشهر برحيل الصديق العزيز د.عادل البري. وفي اليوم الإضافي لشهر فبراير رحل الصديق أحمد علي محمد بوشليبي (أبو خليفة) وقد خلّف وراءه إرثا طيبا وذكرى عطرة وعائلة رائعة.

مر عليّ أحمد بوشليبي كنسمة ربيعية أواخر سبعينات القرن الماضي. كان أحد الثلاثة الذين أشرت إليهم في مقال رثاء رفيقنا المرحوم محمد الجودر، إذ كان يقطن في نفس شقة عين المريسة في بيروت التي تكدسنا فيها، أنا وزملائي المبعدين من الكويت، وأمضينا فيها بعضا من الوقت قبل ترتيب أمورنا.

**

في أحد مساءات بيروت القلقة إبان الحرب الأهلية، وبينما كنا بمعية المرحوم أحمد، نحاول قطع شارع الحمراء باتجاه حي اللبّان، انحشرنا وسط اشتباك مسلح بين فصيلين أحدهما فلسطيني والآخر سوري. بسرعة مذهلة خلا الشارع من كل المارة إلا نحن لم نعرف كيف ندبر أمورنا إزاء موقف جديد علينا في بيروت النازفة من الحرب. اختبأنا وراء أعمدة البناية التي كانت تقع فيها سينما ستراند بانتظار انقشاع الأزمة وتوقف زخات الرصاص، لكن أحد المتقاتلين لاحظ حركة ما وراء الأعمدة فقفز ووضع بندقية "الكلاشنكوف" في رأس أحدنا الذي سارع برفع يديه إلى الأعلى قائلا للمقاتل: نحن من البحرين ولا علاقة لنا بهذا الاشتباك. ضرب المقاتل صاحبنا على ظهره ضربة قوية بكعب البندقية ووجه له بعضًا من السباب والشتائم المعتادة في تلك الأيام وطلب منه التحرك وعبور الشارع، فسارعنا بالهروب معه وانطلقنا بسرعة الفزع حتى بلغنا الشقة الجديدة. كنا نحمل أعدادا من مجلة المسيرة، لسان حال الاتحاد الوطني لطلبة البحرين، وقد كان الفقيد الغالي أحمد بوشليبي، ومنذ انتخابه في المؤتمر العام الثالث للاتحاد الذي انعقد في بغداد في فبراير عام 1979  رئيس تحريرها باعتباره عضوا في الهيئة التنفيذية للاتحاد ومسؤول الثقافة والإعلام فيها.

**

في صيف 79 الساخن، وبعد أن تم وضع برنامج التحرك الطلابي لإسقاط قرار المنع من السفر، كان لابد من عضو في الهيئة التنفيدية للاتحاد أن يكون في الميدان لقيادة هذا التحرك والإشراف عليه، وكان هذا العضو هو الفقيد أحمد بوشليبي، الذي قرر العودة إلى البحرين بعد انتهاء امتحانات نهاية السنة الأكاديمية في الجامعة. كان على متن الطائرة المغادرة من بيروت للبحرين كل من فقيدنا أحمد وعائشة حافظ وإثنان من الطلبة البحرينيين اللذين انهيا دراستهما في أمريكا وكاتب هذه السطور. عندما هبطت الطائرة في مطار البحرين الدولي كان منسوب التوجس والقلق يزداد مع اقترابنا من مكاتب الجوازات. كانت عيوننا متسمرة على أحمد حيث كان أولنا في الصف، وقد مر بسلام تلاه الثلاثة الذين مروا أيضا بسلام، وعندما وصل الدور لي تم حجز جواز سفري وطُلِب مني مراجعة الأجهزة الأمنية في قادم الأيام.

أول فعاليات التحرك الطلابي كان الاعتصام الذي انتظم أمام وزارة التربية والتعليم بالمنامة، تلته فعاليات أخرى منها عريضة المؤسسات الأهلية من أندية وجمعيات نفع عام، طالبت بإعادة جوازات سفر الطلبة الممنوعين من السفر والمحجوزة لدى الجهات الرسمية. وبالتزامن مع ذلك انتشرت الكتابات في مختلف مناطق البحرين وصدرت بيانات وملصقات ذات صلة بقضية منع الطلبة من السفر، وكانت آخر فعالية في هذا الحراك تنظيم مسيرة من أمام مسجد أبو منارتين في المحرق مطلع سبتمبر1979، ليسقط قرار المنع من السفر ويسمح للطلبة الممنوعين بمواصلة دراساتهم الجامعية في الخارج.

**

كطيفٍ مر علينا أحمد سريعا. نسمة ربيع تفوح منها طِيِبَة معجونة بأصالة معدنه. دماثة خلقه المليئة بالتواضع وحب الناس حببت الناس فيه. هندس مع الآخرين صداقات جميلة وراقية فحاز على احترامهم.

كان عاشقا لفلسطين وشعبها كما البحرين وأهلها. فلسطين تسكنه، وكان مفتاحنا للتعرف على أبنائها اللاجئين في الجامعات اللبنانية وعلى القوى الطلابية في العاصمة بيروت. بعد طوفان الأقصى زاد همه الفلسطيني، فكان ينقل لنا أخبار حرب الإبادة الجماعية في غزة بغزارة وهمّة. أخبار محفزة على حب فلسطين ومشجعة على القراءة والتحليل لاتخاذ الموقف الصائب ضد النازيين الجدد الصهاينة أعداء الشمس والحياة.

نم قرير العين يا أبا خليفة، ولروحك الطمأنينة والسكينة والسلام، ولرفيقة دربك السيدة الفاضلة أم خليفة وأبنائكم وذويكم ومحبيكم جميل الصبر والسلوان.