DELMON POST LOGO

كلام في نقد النص الديني-2

بقلم : الشيخ حميد المبارك  

النقد هو البحث الدقيق في الشيء لأجل تقييمه، قالوا: نقَد الشّيءَ: بيَّن حسنَه ورديئه. وفي بعض المرويات: كونوا نقاد الكلام. وعليه، فإن نقد النص (المتن) الديني هو: البحث في تقييمه من حيث: (١) مدى واقعية مضمونه، (٢) مدى توافقه مع العقل، (٣) مدى انسجام نصوصه فيما بينها. فهو إذن يتفرع إلى مجالات عديدة لا ينبغي الخلط بينها. فمنه ما يبحث في الحفريات والآثار المتصلة بمضامين النص الديني، ومنه ما يبحث في الجذور التاريخية لمروياته، من حيث وجود مستند تاريخي أو تأثرٍ من ثقافة أخرى.

ومنه ما يبحث في داخل النصوص ذاتها من حيث  مدى توافق مضامينها وانتظامها مع بعضها. ولكل واحد من هذه التخصصات أدواتها ومناهجها. ولو أخذنا النقد المتخصص في البحث داخل النصوص كمثال، فهو يتوقف على دراسة أصول فهم النص، ومن ذلك:

١- دراسة نظامه اللغوي والخطابي وفق زمان نزوله أو صدوره. ومن ذلك الاصطلاحات اللغوية والأساليب البلاغية.

٢- استحضار جميع سياقات النص التي يفسر بعضها بعضاً. ومن ذلك القرائن اللفظية والمعنوية الكاشفة عن مقصود وغاية المتكلم.

٤- بذل الجهد في فهم عرفي للنص، بعيد عن التعقيد العقلي ومُتحرّر قدر الامكان من الأحكام المسبقة.

ومن الواضح أن بعض نقاد النصوص الدينية يتعاملون باستعلاء شديد، فقد يكتبون مقالات وأبحاث مُطولة مبنية على تفاسير هي خارج مقصود ومراد قائل النص نفسه، وذلك لأنهم لا يجدون أنفسهم مُقيَّدين بدراسة النصوص ضمن نظامها اللغوي والسياقي، بل ينطلقون عن نزعة التفرد والبحث عن معانٍ وملحوظات كانت خافية عن الجميع! ولو كانت تلك الملحوظات على حساب المصطلح والسياق! ويمكن ذكر بعض النماذج المشتهرة لدى بعض نقاد النص الديني، وذلك كمقدمة للتوسع إلى نماذج أخرى في مقالات لاحقة:

١- دعوى أن الاستعمالات المجازية في اللغة العربية هو أسلوب أدبي متأخر عن الفترة النبوية. وبالتالي، لا يمكن دفع الاشكاليات عن النص القرآني فيما يتصل بالصفات الإلهية، نظير الآيات الظاهرة في التجسيم، "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"  (طه ٥)، ونظير الآيات التي ظاهرها نسبة النقص إلى الله تعالى، ".. وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال ٣٠). فإنه لا يمكن توجيه هذه الآيات ونظائرها إلى وجه صحيح إلا بحملها على المجاز، وهو غير ممكن وذلك لعدم ظهور أسلوب المجاز في اللغة العربية إلا في فترة الترف اللغوي زمن العباسيين.

لكن هذه الدعوى تُغفل تكرّر السياقات التي كانت دون شك واضحة في المجاز لدى المعاصرين للنص القرآني، نظير ".. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى .. " (الأنفال ١٧)، فإنه لم يُنقل عن الذين سمعوا الآية أنهم تصوروا الله شخصاً يرمي بسهم أو يضرب بسيف، ونظير "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ .." (الفتح ١٠) فإننا لا نتعقل أن الذين سمعوا الآية تحسسوا أيديهم قائلين أين هي يد الله!

وفي الواقع، إن المجاز ليس ترفاً لغوياً بل هو جزء من اللغة الناشئة عن رغبة الانسان في التواصل، ومنه التواصل عن عن طريق التقريب التصويري للمعاني، ولذا، فإن الأساليب اللغوية التصويرية تُولد في سياق نشأة اللغة لدى كل الثقافات والشعوب. نعم يمكن القول بأن العرب لم يعرفوا تدوين فنون البلاغة وتبويبها إلا في فترات متأخرة عن فترة نزول القرآن، وهذا لا ينفي سبق ممارسة أهل اللغة للمجاز تلقائياً. والطريف هو إن القول بالتجسيم وحمل الآيات القرآنية على حرفيتها قد ظهر متأخراً عن ظهور فترة تدوين فنون البلاغة. ونجد أن الميل إلى التطرف في الأمور، ومن ذلك التعامل مع النصوص، هو طبع غالب في البشر، فمهما سيّج المتكلم نصوصَه بالسياقات والقرائن اللفظية والمعنوية فإن ذلك لا يعصم جميع المتلقين عن الخروج بعيداً عن حدوده يميناً أو شمالاً، ".. يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا .." (البقرة ٢٦).

٢- دعوى تجدد معاني المفردات، أو الرجوع فيها إلى الجذر اللغوي بعيداً عن الاصطلاح (لاحظ: محمد شحرور مثلاً). والحال إنه لا بد في النصوص الدينية من البحث عن مقصود المتكلم من خلال اللغة الاصطلاحية في زمان النص. والفرق شاسع بين النصوص الأدبية المحضة وبين الارشادية وإن صيغت في قالب أدبي. إذ يمكن للمتلقي في سياق اللوحة الأدبية المحضة أن يطلق عنان مخيلته في الصور التي قد تتوالد عنها، وأما في سياق اللوحة الارشادية، ومن ذلك النص الديني، فلابد من بذل الجهد في فهم مقصود ومراد واضعها توصلاً إلى ما هو المطلوب من الارشاد. وطريقة العقلاء في تقييم مضمون الكلام، موافقةً أو مخالفةً، قائمة على البحث عن مراد المتكلم، ".. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً .." (البقرة ٢٦) ومثله في المدثر ٣١. وفي رواية عن الامام العسكري (ع) قوله لبعض تلامذة الفيلسوف إسحق الكندي: فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله. فإذا وقعت الأُنسة في ذلك فقل قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبتَ إليها؟ فإنه سيقول لك إنه من الجائز لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون وضعاً لغير معانيه. انتهى.

نعم قد يُتوسع في النص الارشادي بلحاظ تجدد مصاديق المعنى، نظير ".. فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ .." (النساء ٦)، فإن الرُّشد مفهوم واحد، ولكن مصاديقه وتحققاته الخارجية تختلف حسب الزمان والمكان. وقد يُتوسَع نتيجة وضوح سعة العلة والغاية، نظير قوله تعالى "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ .." (الأنفال ٦٠)، فإننا لسنا بحاجة لابتكار معنى متجدد للفظ الخيل، إذ إن سياق الآية واضح في عدم الوقوف عند مضمون الخيل بل التعدي إلى مطلق أدوات العِدّة والقوة.

٣- دعوى وقوع التعارض في النص الديني. وهذه الدعوى تنشأ غالباً عن قصر النظر على المداليل اللفظية وإغفال السياقات الدخيلة في تحديد مراد المتكلم. ومن ذلك توهم المعارضة بين قوله تعالى، "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ .. " (العنكبوت ٤٦) وبين قوله "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة ٢٩). ولكن ملاحظة سياقاتهما تلغي المعارضة كلياً، فإن الآية في سورة العنكبوت ناظرة إلى موضوع الجدل الديني في سياق السِّلم، وقد اشتمل على الاستثناء، "إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ .. "، بينما الآية في سورة التوبة واردة في سياق الحرب والمنازعة. وبالتالي، لا تعارض بين المضمونين كما إن أحدهما ليس ناسخاً للآخر.

٤- دعوى أن الكثير إن لم يكن أكثر القصص الدينية لا تحظى بسند تاريخي ولا تؤكدها نتائج الحفريات، ناهيك عن عدم تناسب بعضها مع العقل والمنطق. ويمكن الجواب بما يلي: إنه حتى لو افتُرض قبول بعض هذا الكلام جزئياً وبعيداً عن الجدل في رمزية القصص أو واقعيتها، فإن ذلك لا يعني إسقاط القيمة العليا للنص المشتمل على تلك القصص. فإنه وإن كان بعض سياقات القصص القرآني توحي باعتبارها أموراً حاصلة في الواقع (الكهف ١٣)، لكن تاريخية تلك الحوادث ليست هي الغاية العليا وراء حكايتها والاهتمام بنقلها، وإنما التذكير والاعتبار بالمضامين الاعتقادية والسلوكية فيها، "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ .." (يوسف ١١١). فهو يريد أن يقول في نقل ما جرى على يوسف: إنه مهما ظلمك الناس وكادوا لك فإن الله قادر أن يحول كيدهم إلى منفعة لك ".. إِنَّهُ مَنَّ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (يوسف ٩٠). ويريد أن يقول بخلاص يونس من بطن الحوت: إنه مهما ساءت بك الأحوال حتى لا يوجد منفذ ظاهر إلى الأمل فإن الله قادر أن يخرجك إلى السعة من جديد، "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ" (الأنبياء ٨٨).