DELMON POST LOGO

الاعجاز القرآني .. التحدي بالقرآن .. 2-6

"لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه .." (سورة الحشر ٢١).

إعجاز القرآن يعني بأن القرآن له صفة إعجازية من حيث المحتوى والشكل، أو من حيث أحدهما. ولا يمكن أن يضاهيه كلام بشري. والقرآن هو الدليل المعطى للنبي محمد ﷺ للدلالة على صدقه ومكانته النبوية. يؤدي الإعجاز غرضين رئيسين: الأول هو إثبات أصالة القرآن وصحته كمصدر من إله واحد. والثاني هو إثبات صدق نبوة محمد ﷺ الذي نزل عليه لأنه كان ينقل الرسالة .. فيما يلي عدد من الحلقات التي تدور في محتواها بهذا الاعجاز يكتبها الشيخ حميد المبارك بقلمه.

(٢) .. وجوه التحدي المُحتملة في القرآن.

وقد ذُكِرتْ احتمالات عديدة في وجوه التحدي القرآني. وتتلخص في: العددي، والعلمي، والبلاغي، والمضموني. ويورد على فرضي التحدي العددي والعلمي إشكال عام، وهو استبعاد أن يخاطب بهما أهل الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، والذين يُفترض أنهم المقصودون بالتحدي في الأصل.

كما يُورد على كل منهما إشكالات خاصة. أما التحدي العددي، فيمكن القول بأن بعض التطابقات الرقمية، هي من قبيل المصادفات الشائعة، وبعضها الآخر أقرب إلى المغالطات في حساب الأعداد، لغاية الوصول إلى نتيجة مُسبَقة. وأما التحدي العلمي، فإن أمثلته التي التي يسوقها أنصار هذا المسلك، إما من قبيل تحميل النص معنى غير واضح فيه، وإقحام القضايا العلمية الدقيقة في مفهومه العام. وإما من قبيل افتراض العلم بعدم معروفية المضمون قبل النص القرآني. والذي بعضه من قبيل المظاهر الكونية العامة، والتي لا يتعيّن خفاؤها على معاصري النص في ذلك الوقت، نظير ".. وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ" (سورة الرعد ١٢). وبعضه الآخر مذكور في أدبيات سابقة على القرآن، نظير كروية الأرض في سورة النازعات ٣٠ "والأرض بعد ذلك دحاها"، فقد ورد في سفر إشعياء ٤٠: ٢٢ "الْجَالِسُ عَلَى كُرَةِ الأَرْضِ وَسُكَّانُهَا كَالْجُنْدُبِ. الَّذِي يَنْشُرُ السَّمَاوَاتِ كَسَرَادِقَ، وَيَبْسُطُهَا كَخَيْمَةٍ لِلسَّكَنِ". وهذا النص الذي ينص على كروية الأرض، يعود إلى فترة ما قبل الميلاد. وقوله "يَنْشُرُ السَّمَاوَاتِ كَسَرَادِقَ"، هو من قبيل التعبيرات الشائعة المبتنية على الحس الظاهر، نظير سورة الأنبياء ٣٢ "وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ".

وفي الجملة، إن اكثر ما يُدعى في الاعجاز العلمي، مبني على تصور جهالة تامّة بالحقائق الكونية لدى ساكني الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، وأن القرآن بداية غير مسبوقة للحضارة البشرية في القيم والعلوم وسائر المعارف. مع إن الجزيرة العربية، وبالخصوص "مكة" التي كانت طريقاً تجارياً، كانت محاطة من جميع الجهات بحضارات متقدمة في مجالات الفلك والطب والتاريخ والفلسفة والأخلاق، وكان لأهلها تبادلات تجارية وثقافية معهم. فالمصريون في الغرب على الضفة الأخرى للبحر الأحمر. والروم في الشمال الغربي ممتداً إلى عمق الجزيرة العربية. والفرس في الشرق والشمال الشرقي، مضافا إلى التداخل الثقافي في الجنوب مع اليمن، والتي كانت تحت نفوذ الروم والفرس والحبش في فترات زمنية مختلفة.

يقول الدكتور جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام" ج ٣: الشائع بين كثير من الناس إن العرب قبل الإسلام كانوا في جهالة عمياء وضلالة، لا يقرأون، ولا يكتبون، وأن الكتابة كانت قليلة بينهم، واستدلوا على رأيهم هذا بإطلاقهم لفظة "الجاهلية" على أيامهم، وبما جاء من أنهم كانوا قوماً "أميين لا يكتبون". واستدلوا على ذلك بحديث ذكر أن الرسول قاله، هو "إنا أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب". وقد تحدثتُ في الجزء الأول من هذا الكتاب عن معنى "الجاهلية"، وعن الآراء التي قيلت فيها، حديثاً فيه إفاضة وإحاطة، وقد قلت فيما قلته إن تفسير الجاهلية بالجهل، الذي هو ضد العلم، تفسير مغلوط، وأن المراد من الجاهلية السفه والحمق والغلظة والغرور، وقد كانت تلك أبرز صفات المجتمع الجاهلي آنئذ، انتهى.

أقول: وقد يقارب معنى "الجاهلية" في كلامه مصطلح "الأمة الغبية"، والذي ورد في سفر التثنية ٣٢: ٢١. وفي رسالة رومية ١: ٢١-٢٣ "لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ، وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ". وقد وصفهم بالغباء والجهل، مع إن فيهم اليونانيين، وهم أمة متعلمة، وذلك لأن المقصود به عدم معرفة الخالق وقِيَمه وأخلاقه، وليس مطلق الجهل. وقد أشار إلى هذا المعنى في مزمور ١٤: ١ "قال الجاهل في قلبه ليس إله".