DELMON POST LOGO

الاعجاز القرآني .. في دعوى الاعجاز البلاغي .. 6-6

"لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه .." (سورة الحشر ٢١).

إعجاز القرآن يعني بأن القرآن له صفة إعجازية من حيث المحتوى والشكل، أو من حيث أحدهما. ولا يمكن أن يضاهيه كلام بشري. والقرآن هو الدليل المعطى للنبي محمد ﷺ للدلالة على صدقه ومكانته النبوية. يؤدي الإعجاز غرضين رئيسين: الأول هو إثبات أصالة القرآن وصحته كمصدر من إله واحد. والثاني هو إثبات صدق نبوة محمد ﷺ الذي نزل عليه لأنه كان ينقل الرسالة .. فيما يلي عدد من الحلقات التي تدور في محتواها بهذا الاعجاز يكتبها الشيخ حميد المبارك بقلمه.

(٦)

التحدي بالمضامين القرآنية.

تقدم في المقالات السابقة بأن المحور العام في التحدي القرآني ناظر إلى المعاني أي المضامين، وليس إلى الألفاظ والقوالب الأدبية. وقد أشرتُ في مقال الأسبوع الفائت إلى اثنين من الجوانب المضمونية. وهما: النبوءات التي تحققت، ورفعة المضامين القِيمية.

وأشير في هذا المقال إلى جانبين آخرين. أحدهما: ما يمكن أن نسميه: وحدة المضامين. وقد ورد في سياقات التحدي القرآني، التأكيد على انسجام المضامين في مجمل القرآن "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" (سورة النساء ٨٢). والمقصود بذلك تضافر وتجانس المضامين الأساسية، والتي هي المحكمات (سورة آل عمران ٧). فإنه ليس من الاختلاف المُضرّ بوحدة النص، وقوع النسخ والتبديل في بعض التشريعات الفرعية التدبيرية، والتي من طبيعتها التبدّل والتغيّر حسب الظروف. أما الغاية القِيَمية، والتي تتلخص في التوحيد والعدل في المعاملة، والتي هي مستمدة من روح الله التي أودعها في الانسان (سورة الحِجر ٢٩)، وهي صبغة الله وفطرته (سورة البقرة ١٣٨)، فهي ثابتة وقائمة في كل الأحوال، "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (سورة الروم ٣٠). فإنه لا تبديل في قوله ".. أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ .." (سورة يوسف ٤٠)، ولا تبديل في قوله "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ، وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا .." (سورة النّحل ٩٠-٩١).

وقد تكرّر في سورة الأنعام، بيان ما هو الدين والصراط المستقيم، كما جاء في الآيات ١٥١-١٥٣ "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ، ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، ثم قال في الآيات ١٦١-١٦٤ "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون".

ويتضح أيضاً من سياق هذه الآيات، أن "الاسلام" الذي هو ملة ابراهيم وعليه جميع الأنبياء، هو التوحيد والقِيم المستمدة منه، وليس التشريعات الخاصة. وفي سورة البقرة ١٣٠-١٣٢ "وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ. وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ، يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ".

والجانب الآخر من وجوه التحدي المضموني، هو التأثير المعنوي للنص. فإن من آكد وجوه التحدي والدلالة، التأثير المعنوي والروحي للمضمون على المتلقّي المتدبّر. ولذا، فقد ورد هذا المعنى في سياق طلب الآيات، كما في سورة الرعد ٢٧ "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ، قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله، أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب".

وقد جمع في سورة الزُّمَر ٢١-٢٣، بين بديع الآيات الكونية وبين تأثير آيات الكتاب على الفكر والشعور والسلوك، "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ. أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ، فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ الله أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله، ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد".

وخلاصة القول، إن الكثير من المتحدثين في التحدي القرآني، إنما يكررون كلام بعض المشتغلين في فنون البلاغة أو الجدل الكلامي، والذين ذهبوا بعيداً في التفنن في وجوه الاعجاز القرآني. لكن سياقات آيات التحدي شاهدة على إنها مرتبطة بالمضامين، وأن القيمة العُليا في القرآن ليست في وجوه الاعجاز العلمي، ولا العددي، ولا حتى البلاغي الأدبي، مع التسليم بالسمو البلاغي فيه، وإنما هي في المضامين القِيَمية المنتظمة في جميع مراحل النزول القرآني، من المكي الأول إلى المدني الأخير، "قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا" (سورة الجن ١-٢). وكذلك في قدرته على التأثير والتغيير، "وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ، تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" (سورة المائدة ٨٣).

وقد جاءهم بكلام من سنخ بلاغتهم، لكنه تفوّق بالفاعلية التي لا توجد في كلامهم مهما كان بليغاً. وإن شئت شبهته بما أتى به موسى. فهو قد جاء بما يشبه سحرهم، والذي هو ".. فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى"، (سورة طه ٦٦)، لكنه امتاز عنه بأنه أعطى حياة حقيقية، "فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى" (سورة طه ٢٠). وهكذا كلام الله، فهو يشبه كلام العرب لغوياً، لكنه يمتاز بأنه كلام حي ويُعطي حياة، "أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس .." (سورة الأنعام ١٢٢). وما أبعد شِعر العرب وبلاغتهم، وتفنّنهم في أشكال الكلام، عن الحديث الذي تخشع له القلوب، ويُستثار به الوجدان، "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ .." (سورة الحديد ١٦). وفي سورة الحشر ٢١ "لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه ..".