DELMON POST LOGO

الديانة الابراهيمية المعاصرة بين الحقيقة والوهم

 

بقلم : حميد المبارك

قد يُقصد بالدعوة المعاصرة إلى الديانة الابراهيمية أبعاداً سياسية من قبيل استثمار المشتركات لمصالح محددة. وليس هذا الجانب هو محل النقاش في هذا المقال. وإنما أريد استعراض الموقف تجاه البُعد الديني لهذه الدعوة، إن وُجد.

فإن كان المقصود بالديانة الابراهيمية الرجوع إلى ملة إبراهيم، أي التوحيد الاعتقادي والعملي، فذلك مُقَرَّر في القرآن الكريم، "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه، فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. .. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا .. قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران ٦٤-٦٥، ٦٨، ٩٥).

أما إذا كان المقصود بالديانة الابراهيمية إمكانية الجمع بين الديانات المعاصرة المنتسبة إلى إبراهيم وإدراجها ضمن نظام ديني واحد، فذلك أمر غير قابل للتحقق. وذلك نظراً لوجود اختلافات جوهرية بين نصوصها التي بين أيدينا، وهي القرآن الكريم، والعهد القديم (التوراة)، والعهد الجديد (الانجيل). وتلك الاختلافات فارقة إلى حد أنه يستحيل الجمع بين مضامينها ضمن نسق واحد.

وقد كنتُ منذ زمن مشغولاً بإحالات القرآن المتكررة إلى التوراة والانجيل اللذَّين كانا بيد أهل الكتاب في زمن نزوله، نظير قوله تعالى "وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ .. وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ .." (البقرة ٤١، ٩١). وقد سنحت لي فرصة التفرغ لدراسة نصوص العهدين القديم والجديد (التوراة والانجيل) الموجودين بين أيدينا اليوم، وذلك أثناء تواجدي في الولايات المتحدة الامريكية ٢٠١٠-٢.٢١م. وكنتُ مدفوعاً بمحاولة معرفة طبيعة مضامين تلك النصوص أولاً، ومدى العلاقة بينها وبين المضامين القرآنية ثانياً.  

ومن الأمور التي بدت لي واضحة خلال تتبعي لسياقات تلك الكتب، أنه بالرغم من وجود مشتركات بين تلك الكتب وبين القرآن في بعض العمومات الاعتقادية والسلوكية، لكن توجد أيضاً فوارق جوهرية وفارقة بينها. ولا تنحصر الفوارق في التشريعات القابلة للنَّسْخ والتبديل، نظير أحكام القِبلة والسبت .. الخ، وإنما تتسع إلى مفاهيم اعتقادية تدور بين الصدق المطلق والخطأ المطلق. وهي كثيرة جداً، لكنني أكتفي بذكر بعضها لغرض إيضاح الفكرة:

(١) الاختلاف في انحصار النبوة بنسل اسحق: وقد جاء في التوراة التي بأيدينا أن النبوة في إسحاق دون إسماعيل، (سفر التكوين إصحاح ١٧: ١٨-٢١). وتتفق معه النصوص المسيحية، (يوحنا ٤: ٢٢؛ رسالة غلاطية ٤: ٢٢-٢٨). وهذا مخالف للنص القرآني قطعاً، "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ .." (الجمعة ٢). فإن الأميين المشار إليهم في الآية والذين منهم النبي محمد (ص) ليسوا من نسل اسحق قطعاً. وأيضاً، الذبيح في التوراة هو اسحق (التكوين ٢٢: ١-١٦)، بينما في القرآن هو اسماعيل (الصافات ١٠٠-١١٢).

(٢) الاختلاف في ذهاب ابراهيم إلى مكة: وقد جاء في سياقات التوراة التي بأيدينا أن ابراهيم ارتحل من أرض الكلدانيين في العراق إلى حاران بمحاذاة نهر الفرات شمالاً، ثم اتجه جنوباً إلى أرض كنعان (فلسطين). وقد انحدر إلى مصر لأغراض معيشية، ثم رجع إلى بيت إيل في فلسطين ومات هناك، (التكوين: الاصحاحات من ١٢ إلى ٢٥). وقد خلت التوراة من ذِكر ذهابه إلى مكة أو شبه الجزيرة العربية. وهذا مخالف لسياقات القرآن الدالة بوضوح على تواجد ابراهيم في مكة "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً، وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى .. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (البقرة ١٢٥، ١٢٧)، ومثله في آل عمران ٩٦-٩٧، والحج ٢٦-٣٤.

(٣) الاختلاف في ختم النبوة: وقد جاء في سفر دانيال ٩: ٢١-٢٧، أن المسيح الآتي هو ختم النبوة. وفي العهد الجديد أنه به كمُل الزمان، (إنجيل مرقس ١: ١٤-١٥؛ رسالة غلاطية ٤: ٣-٤). وهذا مخالف قطعاً لنص القرآن الكريم، "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ .." (الصف ٦)، وأنه هو ختم النبوة، "مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ. وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ" (الأحزاب ٤٠).

(٤) الاختلاف في طبيعة المسيح: وقد جاء في إنجيل يوحنا ١: ١، ١٤ "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. .. وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا ..". وهذا المعنى لكون المسيح كلمة الله لا يتفق مع المقصود في القرآن، "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ، إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ .." (النساء ١٧١-١٧٢)، فإنه يتضح بملاحظة السياقات القرآنية الأخرى أن المقصود بكون المسيح كلمة الله ألقاها إلى مريم هو أنه تخلّق في رحم مريم بكلمة الله. وبتعبير آخر، تعلّقت قدرة الله وإرادته بتخلّق المسيح بدون زرع أب، "قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء، إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ. .. إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (آل عمران ٤٧، ٥٩)، وفي سورة مريم ٣٤-٣٥ "ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ. مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ، سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ". وفي سورة المائدة ٧٥ "مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ..".

(٥) الاختلاف في صلب المسيح: وقد جاء في الأناجيل الأربعة وسائر نصوص العهد الجديد التنصيص على صلب المسيح وقيامته من الموت قبل رفع الله له. وجاء فيها أيضاً ارتباط الصلب والقيامة من الموت بالتكفير عن ذنوب المؤمنين الخطاة، (متى ٢٦: ٢٨؛ رسالة كولوسي ٢: ١٣-١٤). ويقابله الظاهر القرآني القريب من الصريح في نفي صلب المسيح، "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ، مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْه، وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا" (النساء ١٥٧-١٥٨).

وقد احتمل بعضهم أن المقصود بتكذيبه لليهود في قتلهم المسيح هو إنهم وإن قتلوه جسدياً لكنه حي عند الله الذي رفعه إليه، نظير مضمون "وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ، بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ" (البقرة ١٥٤)، فيتقارب حينئذ مع بعض سياقات العهد الجديد، نظير "لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِبَ مِنْ ضَعْفٍ، لكِنَّهُ حَيٌّ بِقُوَّةِ اللهِ" (رسالة كورنثوس الثانية ١٣: ٤)، ومثله في رسالة العبرانيين ٥: ٧.

لكن هذا الاحتمال بعيد جداً عن سياق قوله تعالى ".. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا"، فإن الظاهر في معناه حسب ما يقتضيه مرجع الضمير: وإن الذين اختلفوا في صلبه وقتله (كما نُقل الخلاف فيه عن بعض الطوائف النصرانية القديمة) هم في شك من ذلك، وليس لهم دليل واضح على حصوله في الواقع. كما إن ظاهر قوله ".. وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا" نفي البرهان على حصول القتل خارجاً، ولا يُشبه سياق "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء .." (آل عمران ١٦٩).

وأيضاً، لم يرد في القرآن الكريم أن موت أحد يكون كفارة عن آخرين، "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا، وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا .." (آل عمران ٣٠).

وهكذا يمكن العثور على أمثلة كثيرة على وجود فوارق فارقة بين مضامين القرآن ومضامين نصوص العهدين التي بأيدينا. ولذا فإن من الممكن جداً أن تكون الاحالات القرآنية إلى الكتب السابقة التي كانت بأيدي أهل الكتاب وقت نزوله (النساء ٤٧؛ المائدة ٦٨) ناظرة إلى نُسخ كانت موجودة زمن البعثة النبوية ثم دُثرت أو اندثرت. وقد نُقل أن طائفة يقال لهم "الأبيونيون" كانوا يعتمدون إنجيلاً يقال له "إنجيل العبرانيين"، ويقال إنه إنجيل متى الأصلي، والذي كتبه باللغة الآرامية، قبل أن تعاد كتابته باللغة اليونانية، مما قد يفتح الباب أمام زيادات أو تحويرات على الأصل. لكن تاريخ هذا الانجيل غير معلوم على نحو الدقة، خصوصاً مع قلة المعلومات التاريخية عن الطوائف الكتابية التي كانت في الجزيرة العربية في تلك الحقبة الزمانية. لاحظ عن أهل الكتاب في الجزيرة العربية يومذاك: جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، الفصول من ٧٦ إلى ٨١.

والمُتحصل، إن الجمع في التصديق بين القرآن وبين التوراة والانجيل الموجودين بأيدينا غير ممكن. وعليه، فإن كان هذا المعنى هو المقصود بالدعوة المعاصرة إلى الديانة الإبراهيمية، فهو أمر محال وغير قابل للتحقق.