DELMON POST LOGO

ما حقيقة "زيارة الأربعين" تاريخياً؟ 1-2

استمرار زيارة الأربعين بشكل منتظم سنويا خلال القرون الغابرة رغم كل الطغيان الأموي والعباسي وتحت عسف وعنف السلطات الجائرة التي أعقبتهم  

بقلم : الدكتور محمد حميد السلمان

يُشاهد العالم هذا العام، مثل كل الأعوام الهجرية السابقة؛ عبر شاشات البث الفضائي جموع الزيارة المليونية التي تحث الخطى من كل مكان قاصدة كربلاء، على الرغم من صغر حجم المدينة، لتصل إليها في العشرين من شهر صفر الذي يُصادف ذكرى مرور أربعين يوماً على استشهاد الإمام الحسين (ع)، في العاشر من محرَّم الحرام عام 61هـ (680م)، فيما اُصطلح على تسميته بـ (زيارة الأربعين). ويُطلق على المشاركين في هذه الشعيرة، "المشاية".
إذ ترى فيهم أُناس من مختلف الطبقات والفئات بل والطوائف كذلك؛ وهم بأطفالهم، وشيوخهم، كباراً وصغاراً، ونساءً ورجالاً، يأتون من كل فج، ومن مدن بعيدة لهذه الزيارة هذا العام بعد انحسار موجة جائحة (الكورونا) تقريبًا. بعضهم يقطع ما يزيد على 500 كيلومتر مشياً على الأقدام، تضمهم مواكب يتراوح عدد الزوار بها بين الخمسمائة والألف نسمة، وأحياناً أكثر من ذلك. ويسير موكب المعزين مرتدين الملابس السوداء علامةً على الحداد، وبعضهم يبكي ويلطم على الصدور تعزية للنبي صل الله عليه وآلة بمقتل سبطه الإمام الحسين بن علي (ع). كما يقوم أهالي المدن والقرى المحاذية لطريق الزائرين بنصب الخيام بأحجامها المختلفة، أو يفتحون بيوتهم لاستراحة الزوّار وإطعامهم معتبرين ذلك تقرباً إلى الله وتبركاً وثواباً.
وقد اعتنى الشيعة بهذه المناسبة، اعتمادا على روايات وأحاديث شريفة وردت حول هذه الزيارة لإقامة الشعائر الحسينية في يوم الأربعين مع ذكرى رجوع الرأس الشريف للإمام الحسين بن علي (ع) من الشام إلى العراق، ودفنه مع الجسد الطاهر في يوم العشرين من صفر كما جاء في كثير من المصادر والمراجع عند كلا الفريقين. ويسمى هذا اليوم في العراق والخليج تحديداً، ردود الراس (أي رجوع أو عودة رؤوس شهداء كربلاء)، إذ تُقام الشعائر استذكارًا لهذه الحادثة الأليمة في تجدد الأحزان على مصاب أهل البيت الكرام.
ولسنا بصدد بحث لعرض كافة المناقشات والرؤى التاريخية في تحديد أقدمية أول زيارة تمت في العشرين من صفر بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) ومعظم أهل بيته وأصحابه، وهل كانت في صفر عام 61هـ(680م)، أم في صفر التالي لسنة موقعة كربلاء 62هـ(681م). فذلك المبحث نُشرت فيه العديد من الدراسات العلمية، والرؤى والمناقشات والحوارات المتباينة والمرتبطة بمناسبة زيارة الأربعين على مدى السنوات الماضية، سواء اتفقنا معها أم اختلفنا.
هنا سنتوقف فقط قرب بعض محطات تاريخية مرت بها زيارة الأربعين في العديد من الحقب والعصور فيما بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) وحتى العصر الحديث، ضمن محاولة بسيطة لتتبع ما توافر من معلومات متفرقة هنا وهناك في بطون أهم المصادر والمراجع، للإجابة على السؤال المطروح في العنوان: "ما حقيقة زيارة الأربعين تاريخياً؟". أو وجود وتأصل وتواصل هذه الزيارة بشكل موسمي، بعد الزيارة الأولي التي قام بها الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري ورفيقه عطية العوفي؛ لموقع قبر أبي عبد الله الحسين (ع) في العشرين من صفر بعد موقعة كربلاء مباشرة.
إذ لم ترد أية إحصائيات أو متابعات رقمية محددة، أو حتى شبه مقربة؛ في المصادر والمراجع لمثل هذه الزيارة والناس المشاركين بها، والطريقة التي تمت من خلالها مراسيم الزيارة بعد سنة الحادثة أو السنوات والقرون التالية لها. أي أن الزيارة الخاصة في يوم الأربعين لمرقد الإمام الحسين (ع)، لم تأخذ زخمها وديمومتها وظهور إحصائيات متكررة حولها بشكل رقمي واضح وبشكلها الحالي؛ إلا مع مطلع القرن العشرين الميلادي تقريباً.
ويمكن ملاحظة، أن ثبات زيارة الأربعين بشكل عام في خلال تلك القرون الغابرة، رغم كل الطغيان الأموي والعباسي وتحت عسف وعنف السلطات الجائرة التي أعقبتهم طوال قرون؛ لهو إعلامٌ إلهي مستمرٌ لقضية الإمام الحسين (ع) أمام كل أشكال الإعلام المضاد المتطور تقنياً على مر العصور والدهور. مع أن الثابت تاريخياً؛ هو المسار الايجابي لزيارة الأربعين الذي حول العاطفة البكائية في تلك الزيارة عموماً إلى غضب يتفجر ضد أولئك الذين صنعوا تلك المأساة في التاريخ، ومآسي الشعوب معها. إذ تُشكل مسيرة الأربعين واستذكار الواقعة الأليمة في مضمونها الواعي؛ صرخة غاضبة في كل زمان ومكان ضد الظلم وأشكال الطغيان.
ما سر الرقم أربعين؟
يبدو أن قضية الرقم أربعين، الذي تكرر في القرآن الكريم في مواضع عدة، كما في قوله تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ )، وفي قوله: (قال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِين( )، وكذلك في قوله: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ( )؛ له خصوصية وسراً لا يمكن اكتشاف مكنونه بتفكيرنا البسيط، كما هي تلك الخصوصية التي تتميز بها زيارة الأربعين وبتركيز شديد في الوجدان الشعبي الذي حافظ عليها طوال عصور التاريخ منذ ظهورها وحتى اليوم.
ولربما جاءت خصوصية الأربعين، كما يذكر السيد المقرّم، لأن النواميس المطردة تتوجه للاعتناء بالفقيد بعد أربعين يوماً من وفاته وذلك بإسداء البِر إليه، وتأبينه، وتعداد مزاياه في مناسبات تُعقد، وذكريات تدون تخليداً لذكراه. ويؤيد هذا الرأي ما ورد عن أبي ذر الغفاري وابن عباس عن النبي محمد (ص)، أنه قال: “إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحاً". وما ورد عن زرارة عن أبي عبد الله الصادق (ع)، في بعض ما قاله:" إن السماء بكت على الحسين (ع) أربعين صباحاً بالدم، والأرض بكت عليه أربعين صباحاً بالسواد، والشمس بكت عليه أربعين صباحاً بالكسوف والحُمرة، والملائكة بكت عليه أربعين صباحاً".

• زيارة الأربعين عبر العصور:

لم تبدأ زيارة الأربعين، مع تشييد أول قبة صغيرة من الآجر والجص على قبر الإمام الحسين(ع)، في أحد العامين بين 65هـ(684م) أو 68هـ(687م)، كما تذكر أحداث التاريخ؛ على يد المختار بن أبي عبيد الثقفي عندما حكم الكوفة. إنما سجلت نفسها كزيارة معتبرة لها شعائر خاصة بها، منذ وطئت أقدام الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري ورفيقه العوفي أرض كربلاء في نفس عام استشهاد الإمام الحسين (ع) 61 هـ. وفي حالة الركون إلى الإيمان بالجانب الغيبي في هذا الأمر؛ يمكن الترجيح في هذا المقام لوقوع هذه الحادثة في العام ذاته وفي التوقيت أيضاً، الذي عاد فيه ركب آل البيت بعد أربعين يوما بالضبط إلى كربلاء، في لحظة وجود الصحابي جابر الأنصاري، إذ سريعاً ما انضم إليه الركب الحسيني في زيارة ملفتة ومؤثرة جداً للقبر الشريف سجلتها كتب التاريخ. وهذا ما ساهم في نمو منطقة أو قرية كربلاء لتغدو معلماً حضارياً مقدساً.
وليست هناك إحصائيات متواترة تاريخياً بشكل متسلسل للزوار في مناسبة أربعين الإمام الحسين (ع)، لعدم وجود من كان يقوم بذلك أساساً، أو سمحت به، من الأنظمة التي مرت على العراق.
وبناءً عليه، لا يمكن للباحث أن يتقصي تاريخياً كل زيارات الأربعين إلى كربلاء، أو الحائر الحسيني كما كان يُطلق عليه سابقاً؛ أو للمشهدين الحسيني والعباسي المقدسين بها، لأنها واقعاً لم تُذكر بهذا التحديد ضمن الزيارات المعتادة في كل وقت ومناسبة منذ القرون الغابرة، ولاسيما بدءاً من القرن الخامس الهجري. بعكس الحال في تتبع الفترات التاريخية لتعمير وبناء المرقد الحسيني الشريف، أو كربلاء بشكل عام والتي كانت أكثر وضوحاً وتحديداً. وحتى زيارات بعض ملوك وسلاطين ورؤساء وحكام الدول ومسؤوليها وسواهم، طوال العهود السابقة، لا نستطيع اعتبارها ضمن زيارات الأربعين، إذ أن معظمها قد تم إما قبل شهر محرم، ما عدا القلة النادرة، أو بعد شهر صفر، وغالبا كانت تتم في شهري ربيع الأول والثاني أو جمادى الأولى والثانية.على سبيل المثال زيارات كل من: سلاطين البويهيين (الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه للمشهدين العلوي والحسيني عام 422هـ، والسلاجقة (الملك أبو كاليجار، وملكشاه ونظام الملك) بين أعوام 436-479 هـ، الحاكم العباسي (المقتفي لأمر الله) عام 555هـ، أو الأيوبي (الناصر) عام 656هـ، أو المغوليين (أرغون بن أباقا خان بن هولاكو، ومحمود غازان بن أرغون) في العامين 690هـ،و 703هـ، أو المستبصر بمذهب أهل البيت السلطان المغولي (أوليجاتو محمد خدابنده بن أرغون) عام 716هـ، والسلطان (أويس الجلائري الايلخاني) عام 776هـ، والمغولي (تيمورلنك) عام 808هـ. ولا زيارة السلطان التركماني (قره يوسف القره قويونلي) من قبيلة الخروف الأسود عام 839هـ، أ و حتى زيارة (الشاه إسماعيل الأول الصفوي) في القرن العاشر الهجري، أو السلطان (سليمان القانوني) عام 974هـ، وذلك لاستمالة قلوب الشيعة نحو الدولة العثمانية بعد ما اضطهدهم والده (سليم الأول) كثيراً بسبب صراعه مع السلطات الفارسية على الحدود الشرقية لدولته.
ولكن في خلال تتبع حركة تعمير كربلاء والمرقد الشريف وازدياد مكانته وعظمته في نفوس المسلمين شيعة، وسنة، وغيرهم، يمكننا غالباً
تتبع أطوار زيارة الأربعين للمراقد الشريفة ضمنياً عبر عدة محطات وفترات بين المنع والسماح، والتوقف تماماً والعودة بزخم كبير، بحسب بعض المراحل التي سيتم سردها في الحلقة المقبلة.
الدكتور محمد حميد السلمان