DELMON POST LOGO

ما حقيقة "زيارة الأربعين" تاريخياً؟ 2-2

تأثرت كربلاء وزياراتها بين مد وجزر في القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد، خلال فترة الصراع الصفوي العثماني

بقلم : الدكتور/ محمد حميد السلمان

لتتبع أطوار زيارة الأربعين للمراقد الشريفة عبر عدة محطات وفترات بين المنع والسماح، والتوقف تماماً والعودة بزخم كبير، بحسب بعض المراحل منها:
1- في عهد الخليفة المأمون العباسي عام 193 هـ(809م)، أُعيد بناء موضع القبر الشريف وأقيم الحائر الحسيني.  
2- في عهد الدولة البويهية قام عضد الدولة (فنا خسرو بن ركن الدولة بن بويه الديلمي)، بعمارة وتجديد مشهدي النجف وكربلاء عام 369هـ(979م) وأكرم سكان كربلاء، ومجاوري الحرم، والزوار.  
3- في عهد البويهيين، ازدهرت كربلاء ازدهارا ملحوظاً، وزاد عدد الزوار إليها.
4- في عام 529هـ(1134م)، زاد عدد الزوار في كربلاء، كما تذكر كتب التاريخ ويبدو أن زيارة الأربعين كانت من ضمنها. حيث يذكر ابن الجوزي بأنه "مضي في هذه الأيام إلى زيارة علي ومشهد الحسين عليهما السلام، خلق لا يحصون"، وأضاف جملة لطيفة جداً بقوله "وظهر التشيع"، كدليل على كثرة الزوار.
5- مناسبة الوفود الزائرة عام 442هـ(1050م)، لكربلاء والتي رافقها وفد من طائفتي الشيعة والسنة من أهالي بغداد في المسير من خارج كربلاء إلى حدود الحرم المقدس، بعد أن انقطعت الزيارة بعد عام 422هـ،. إذ قام هؤلاء الزوار بتوزيع الأموال والدراهم على الفقراء والمساكين بجوار قبر الحسين(ع).
6- شهدت مدينة كربلاء في العهد الصفوي ما بين أعوام 907-1135هـ.(1501-1722م.)، توسعاً عمرانياً ربما زاد في عدد الزوار، ومنهم زوار الأربعين. فقد أسرع الشاه إسماعيل الصفوي لزيارة العتبات المقدسة وأصلح أحد الأنهر التي تجلب إليها المياه فسُميّ "نهر الشاه"، وتمتعت العراق، ومنها العتبات المقدسة؛ بحقبة من السلم والهدوء، وكذلك استمرت إبّان عهد الشاه عباس الأول 996- 1038هـ. (1588-1629م.).
7- في عهد السلطان سليمان القانوني العثماني 926-974هـ. (1520-1566م.) زار كربلاء عام 941هـ، (1534م)، وأبدى اهتماماً كبيراً بالمدينة وعمرانها وتشجيع زيارتها والسكن بها. وخصوصاً بعد إصلاح جدول الماء الذي كان يمر بها وذلك لإرواء كربلاء وإعادة زراعة بساتينها، فسُمي بـ"نهر السليمانية" نسبة إلى السلطان، ويسمى اليوم بنهر الحسينية.
8- ومنذ عشرينيات القرن العشرين وحتى القرن الحالي، زادت ونُظمت الزيارة وتطورت بشكل ملحوظ ومسجل أحيانا نتيجة لتحسن المواصلات والخدمات، وبروز الدور الديني الطليعي، والاجتماعي، والاقتصادي، لمدينة كربلاء بسبب وجود المرقدين الشريفين بها.
ولكن لا يعني هذا بأنه في كل حقب التاريخ كانت زيارة الأربعين مُيسرة وسهلة المنال، ومسموح بها كشعيرة عقائدية. إذ تعثرت عدة سنوات وعقود لأسباب مختلفة بعضها من الموالين، والآخر من قبل المبغضين لتلك الزيارة. ففي سنوات الدولة الأموية، بعد فاجعة كربلاء وحتى انهيار الدولة الأموية العام 132هـ(749م)؛ لم تكن هناك زيارة منتظمة لقبر الحسين(ع)، فكيف بزيارة الأربعين الجماعية!؟ وكذلك في بعض عهود الدولة العباسية، مثل عصر المتوكل العباسي، إذ انحسرت الزيارة عموما في عهده. وكما هو معروف؛ فقد أمر عام 236هـ(850م.) بهدم قبر الحسين(ع)، وتم حرث الأرض حوله وأُغرقت بالماء، ومُنع الناس من الزيارة تحت تهديد العقاب قسراً. ونودي أن كل من وجد عند قبر الحسين بعد ثلاثة أيام من الإعلان يتم سجنه، كما أدى ذلك أيضاً لتدهور الزراعة وإهمال عمران كربلاء زمناً ليس بالقصير.  
9- وفي عام 422 وحتى 442هـ، (1030-1050م)، توقفت وتعثرت الزيارة لكربلاء ومنها زيارة الأربعين، بسبب أعمال الفتنة والشغب التي سادت العراق حينها لحوالي عشرين عاماً. إذ يُذكر عنها، أنه مع مطلع عام 422 هـ، تجددت أعمال الشغب في العراق بدءاً من منطقة الكرخ، على سبيل المثال، والتي أطلق عليها ابن الجوزي، "فتنة السنة والروافض". ثم شملت أجزاء في البصرة وغيرها من مناطق العراق حتى عمت جمعاً من عوام الناس. كما حدثت مشاحنات بين الأتراك، ومنهم أكثر جند الدولة العباسية، وبين الأكراد، والأعراب، وكثرة مشاغبات العيارين وبعض المماليك وغيرهم، حتى انقطعت طرق الحج بين خراسان والعراق لانقطاع الطرق وزيادة الاضطراب. كما تجددت الفتن بين الوزير جلال الدولة البويهي وحاجب الحجاب للخليفة العباسي القائم بأمر الله عام 428هـ، وبينه وبين الأتراك عام 431هـ، وغيرهم.
كما تعطلت الزيارة عام 489هـ(1095م)، خلال هجوم عشيرة خفاجة، على مشهد الحسين(ع). إذ يدون ابن الجوزي هذه الحادثة بقوله أن بني خفاجة "أتوا إلى المسجد بالحائر فتظاهروا بالمنكر، فوجه إليهم سيف الدولة الأسدي، حاكم الإمارة المزيدية في العراق، عسكراً فكبسوهم بالمشهد، وأخذوا عليهم أبوابه، وقُتل منهم خلق عند الضريح"، كما يؤكد ابن الأثير ذلك.
وتعطلت الزيارات عموماً ومنها الأربعين، لبعض الوقت حين هاجم المغول الدولة العباسية والعراق عام 656هـ، بين شهري محر الحرام وصفر. وليس هناك معلومات موثقة عما حدث في زيارة الأربعين في فترة تواجد المغول في العراق وما أحدثوه من قتل وتدمير لمعظم المواقع الحيوية في العراق، وبغداد بالذات عاصمة الخلافة العباسية.
وفي عام 857هـ(1453م)، كما يذكر عبد الجواد الكليدار آل طعمة، ومحمد حسين الزبيدي؛ دخل السلطان علي بن محمد بن فلاح المشعشعي، وهو من أسرة موالية من السادة العرب؛ مدينة الحلة، فأحرقها وخربها، ونهب المشاهد المقدسة، وتجاسر على النجف والعتبات المقدسة بكربلاء، ودخلها عنوة وفعل ما فعل ثم نقل أموالها إلى البصرة والحويزة، عاصمة مُلكه.
كما تأثرت كربلاء وزياراتها بين مد وجزر في القرنين السابع عشر والثامن عشر للميلاد، خلال فترة الصراع الصفوي العثماني. وكذلك في خلال هجوم بعض قبائل شبه الجزيرة العربية عليها، في شهر ذي القعدة عام 1216هـ، إذ قُتل من أهلها نحو ألفي رجل. كما تعطلت الزيارة في سنوات لاحقة بسبب هجوم عشائر عربية متفرقة عليها، أو حصارها من قِبل العثمانيين، بين أعوام 1222- 1258، وقُتل عدة آلاف من سكانها أكثرهم من النساء والأطفال.
• الرحالة وزيارة الأربعين:
يوجد عدد من الرحالة المسلمين والأجانب الذين زاروا كربلاء طوال التاريخ، إلا أنهم لم يذكروا لنا أي شئ عن مناسبة زيارة الأربعين، لا من حيث عدد الزوار، أو أية أحداث عنها، أو حتى مجرد ذكر لها. ولربما غالباً لم يكونوا متواجدين في رحلاتهم خلال شهر صفر، أو أن هذه الزيارة لم تكن بهذا المظهر المميز الذي نشاهده اليوم. ومنها زيارة الرحالة البرتغالي (بيدرو تيشيرا) في شهر جمادى الأولى عام 1013هـ (سبتمبر 1604م). إذ كتب عن كربلاء، أن بها خانات للزوار، ربما منهم زوار الأربعين، وأسواقها مبنية بناءاً محكماً بالطابوق وبها العديد من السلع التجارية، وشاهد فيها أكثر من 4 آلاف بيت معظمها من الطين المجفف. وكذلك الرحالة الدانماركي (كارستن نيبور) الذي زار كربلاء في شهر جمادى الأخرة عام 1179هـ(ديسمبر عام 1765).
كما أن أحد الصحفيين الفرنسيين ويُدعى (غوستاف. بابِن)، زار مطلع القرن العشرين كربلاء عام 1326هـ(1908م)، وذكر معلومات قيمة عن الزوار في شهر محرم فقط، دون الإشارة لشهر صفر ولزيارة الأربعين. ولعلها لم تكن ملحوظة آنذاك أو بذاك الزخم والتنظيم. جاء ذلك في المجلة الفرنسية المسماة (الالسترسيوان) الصادرة في باريس بمقالة تحت عنوان "الكعبة الثانية"، نقلاً عن هذا الصُحفي الفرنسي الزائر لها. حيث كتب: "أن زوار كربلاء يكثرون في شهر مُحرم، حيث تأتي إليها من كل صوب القوافل مئاتٍ ، فيكون شهر المُحرم هو شهر الصلوات والأدعية والتوبة".
كما زارها عام 1328هـ(1910م.)، الرحالة محمد هارون الهندي، المُلقب بالزنـﮔـي ﭘوري. وذكر بأن زوار قبر الإمام الحسين(ع)، لا يقتصرون على أهالي مدينة كربلاء، بل إنهم من الأعراب، والفرس، والأتراك، والأكراد، وأهل الهند والسند، وأهل الصين والتتار، وأهل روسيا ورومة، وأهل أفريقيا وأمريكا، وأهل أوروبا وآسيا. وقدم وصفاً دقيقاً ومطولاً للزيارة وكيفيتها وأدعية وصلوات الزائرين. والملفت للنظر في وصفه الدقيق لكافة أنواع زيارات المرقد الشريف؛ أنه لم يذكر زيارة الأربعين تحديداً رغم أهميتها. فما هو السر في ذلك؟ ألم تكن مستمرة ومشهورة عند الناس؟ أم خشي الرحالة الهندي المسلم ذكر زيارة الأربعين ربما مراعاة لقراء بلاده من الوثنيين، فقال عنها "ولها زيارات مخصوصة". إذ يقول الرحالة: “منذ أمد بعيد كانت أبواب الحضرة الحسينية وكذا العباسية مفتوحة طوال ليالي شهر رمضان وليالي شهر محرم الحرام وليالي الجمعة، والأعياد الثلاثة الأضحى والفطر والغدير، بالإضافة إلى ليالي المناسبات الدينية كأول رجب ونصفه، ونصف شهر رمضان، ويوم عرفه وغيرها من المناسبات التي لها زيارات مخصوصة، أما سائر الليالي فتُغلق الأبواب بعد مضي ثلث الليل". ونختم بما ذكره المسؤول السياسي الإنجليزي في الحلة، ضمن تقريره عنها في شهر أبريل عام 1920. إذ كتب أن عدد زوار الأربعين في ذلك العام من النجف فقط بلغوا بين ستة إلى سبعة آلاف شخص، يتقدمهم عشرين موكباً للعزاء ضم أكثر من مئة شخص شاركوا في العزاء مباشرة. أما البقية، كما يصفهم التقرير، فشكلوا "فرقة من الفرسان العرب، يليهم عدد كبير من الجمال حاملة لوزام منزليه وبعض الشخصيات التي تمثل عائلة الحسين (ع). وكان يلي هذا، موكب آخر كبير من الطبقات الآتية: أولاً السادة، ثانياً رجال اللاهوت والمنورون الدينيون، وثالثاً، كبار التجار والوجهاء، ثم اللاطمون على الصدور والمتسوطون بالسلاسل".
أضف إلى ذلك، يبدو من تتبع الإحصائيات المتوافر بعضها للفترة من أربعينيات القرن العشرين وحتى اليوم؛ أن هناك تطوراً ملحوظاً في ازدياد وتنوع عدد زوار الأربعين، وزوار الدول القريبة والنائية الذين يفدون منها إلى كربلاء العراق. حيث تشير إحدى الإحصائيات في 23 صفر عام 1365هـ(27/1/1946م)؛ وبحسب ما أوردته جريدة الأخبار البغدادية في تغطية لها تحت عنوان "يوم الأربعين في كربلاء"؛ إلى أن عدد زوار الأربعين وصل إلى ثلاثة أرباع المليون نسمة.
بينما وصل عدد زوار الأربعين عام 1387هـ(1968م)، إلى حوالى نصف مليون زائر، ثم عاد ليرتفع من جديد ويصل في بداية السبعينيات إلى حوالى مليون زائر، وهذا ما أرعب سلطات العهد السابق.
وفي حقبة التواجد الأمريكي في العراق بعد عام 2003؛ بلغ عدد الزوار مليوني نسمة، رغم تحذير سلطات الاحتلال الأمريكي من هذه الزيارة حينها، مع أنه كان المفترض أن يصلوا إلى حوالي 10 ملايين نسمة، لولا تردى الظروف الأمنية آنذاك. ثم تحولت هذه الزيارة فيما بعد عام 2003م، إلى تظاهرة مليونية يتحرك فيها شيعة العراق من جميع النواحي والقرى والمدن الصغيرة والكبيرة ويشكلون شبكة بشرية- لا مثيل لها في العالم- وصلت إلى أكثر من عشرة ملايين نسمة. وكأنها ردة فعل شعبية بزخم منظور ضد كل الطغاة.
وعندما تحسنت النواحي الأمنية عام 1435هـ(2013م)، وصل عدد زوار الأربعين، بحسب تقديرات مجلس محافظة كربلاء، من جميع الدول، إلى 17 مليون زائر تقريباً. وعام 1436هـ(2014م)، ازداد العدد إلى أکثر من 20 مليون زائر. كما تم في نفس العام إقامة أکبر صلاة جماعة في العالم للزوار، في الطريق الرابط بين محافظتي كربلاء والنجف، بتوجيه من المرجع الديني سماحة آية الله السيد علي السيستاني، حيث امتدت لنحو 30 كم بمشاركة آلاف المصلين والزائرين.
كما بلغ عدد زوار الأربعين عام 1438هـ(2016م.)، 22 مليون زائر من أكثر من 70 دولة حول العالم، بينما قدرهم تقرير إذاعة الهدى الإسلامية بحوالي 27 مليوناً.
وأخيراً، عام 1439هـ. (2017م.)، بلغ عدد زوار الأربعين من 29 بلداً، 15,385000 بحسب إحصائيات رسمية أصدرها مركز كربلاء للدراسات والبحوث ضمن نشرته السنوية لزيارة الأربعين المباركة للعام 1439هـ.