DELMON POST LOGO

سيرة الامام الحسين الى كربلاء .. تاريخ وبطولات ومواقف 1-6

 الحسين لمعاوية : إني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ولا أعلم نظرا لنفسي ولديني ولأمة محمد (ص) أفضل من أن أجاهدك ..ولكن ما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً

بقلم : الشيخ حميد المبارك

ليس هذا المقال تحقيقاً تاريخياً ولا بحثاً عقائدياً، وإنما هو إشارات تهدف إلى فهم نهضة كربلاء ضمن الأطُر العامة في السيرة العقلائية، وفي سيرة النبي والأئمة قبل وبعد الحسين.

ولأن الشواهد الذي ذكرها أهل السِّيَر، قد تكون في الأصل مُحتفّة بالقرائن والسياقات التاريخية، والتي لو وصلت إلينا، لكان لها تأثير على الاستنتاج، فإن هذا المقال لا يسوق تلك المرويات كأدلة، وإنما تنبيهاً على تلك الأطُر العامة المشار إليها، وترسيخاً لمبدء فهم السيرة وفق الغاية المناسبة لظاهر الحدث، دون اللجوء إلى التأويل إلا بحجة قطعية.

ولابد من التنبيه على إن محاولة هذه المقالة تفسير كربلاء وفق المُعطيات الظاهرية، لا يتنافى مع العقيدة الشيعية في الامام وعصمته وعلمه، ولا تعكس اتجاهاً عقائدياً خاصّاً. وإنما هي عرض لإمكان هذا النوع من القراءة، والذي يمكن أن ينسجم مع كل الاتجاهات المذهبية المختلفة أيديولوجياً.  والتاريخ شاهد بأن المواقف السياسية للنبي والأئمة لا تخرج عن الأمر العقلائي في موازنة القوى، والمعطيات الواقعية للأحداث.

ولأن المقصود بالقول والسّلوك في أي حركة تصحيحية هو إيصال معنى مُحدّد وواضح للناس ليقتدوا به في سلوكياتهم، فإن الرسالة المُتضمنة فيها يجب أن تكون مفهومة للناس على ضوء المعلوم من العقل والشرع.

ولا يصح في سياق فهم نهضة الحسين، الخروج عن تلك القواعد المعلومة بمنقولات يُشك في صدورها، أو يُحتمل التلاعب بها لغايات مذهبية أو سياسية.

ومن المعلوم تاريخياً في سيرة العقلاء والمُصلحين في جميع الشرائع، عدم المبادرة إلى المواجهة المُسلّحة مع القوى الأخرى على الأرض، إلا في سياق المِنعة ومظنة القدرة على تغيير الواقع إلى الأفضل، "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" (سورة الحج ٣٩). قال الطبرسي في مجمع البيان: ثم بيَّن سبحانه إذنه لهم في قتال الكفار بعد تقدم بشارتهم بالنصرة، فقال "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا"، أي بسبب أنهم ظُلِموا، وقد سبق معناه في الحجة. وكان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال يجيء مشجوج ومضروب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويشكون ذلك إلى رسول الله،  فيقول لهم صلوات الله عليه وآله: اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال. حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية بالمدينة. وهي أول آية نزلت في القتال. انتهى. فإن فرض أن الآية نزلت بعد الهجرة، يعني أنها جاءت بعد توافر أسباب المِنعة والمواجهة.

كما في صلح الحديبية، وفتح مكة، وموقف الامام علي من الثوار على عثمان، وغلبتهم على الموقف خلال حكم الامام، وصلح الحسن، وسيرة الأئمة بعد الحسين. إذن مواقف الامام الحسين ليست، بحكم الظاهر، استثناء من ذلك السياق المتصل جيلاً بعد جيل.

وأما الاخبارات السابقة عن مقتل الحسين، ورؤياه النبي وإخباره له بمقتله، فهي إخبارات عن المآل ومنتهى الأمور، وليست أُطراً سياسية خارجية لحركة الحسين.

الحسين في عهد معاوية.

رجال الكشي: روي أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية وهو عامله على المدينة: أما بعد فإن عمرو بن عثمان ذكر أن رجالا من أهل العراق، ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وذكر أنه لا يأمن وُثوبه، وقد بحثت عن ذلك، فبلغني أنه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده، فاكتب إليّ برأيك في هذا، والسلام. .. وكتب معاوية إلى الحسين بن علي عليهما السلام: أما بعد فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقاً فقد أظنك تركتها رغبة فدعها، ولعمر الله إن من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، فإن كان الذي بلغني باطلاً فإنك أنت أعزل الناس لذلك، وعظ نفسك، فاذكر، وبعهد الله أوف، فإنك متى ما تنكرني أنكرك، ومتى ما تكدني أكدك، فاتق شق عصا هذه الأمة، وأن يردهم الله على يديك في فتنة، فقد عرفتَ الناس وبلوتَهم، فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد، ولا يستخفنك السفهاء والذين لا يعلمون.

فلما وصل الكتاب إلى الحسين صلوات الله عليه كتب إليه: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر أنه قد بلغك عني أمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير فان الحسنات لا يهدي لها، ولا يسدد إليها إلا الله.

وأما ما ذكرت أنه انتهى إليك عني، فإنه إنما رقاه إليك الملاقون المشاؤن بالنميم، وما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً، وأيم الله إني لخائف لله في ترك ذلك، وما أظن الله راضيا بترك ذلك، ولا عاذرا بدون الاعذار فيه إليك، وفي أولئك القاسطين الملحدين حزب الظلمة، وأولياء الشياطين. .. وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعلم نظرا لنفسي ولديني ولأمة محمد صلى الله عليه وآله علينا أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنه قربة إلى الله، وإن تركته فإني أستغفر الله لذنبي، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري. انتهى.

وظاهر سياق الحوار ملاحظة الحسين لوضع معاوية، والذي كان أكثر استقراراً واستحكاماً من وضع يزيد، خصوصاً بعد انتهاء معاركه مع العلويين وسقوط الكوفة بيده. وأنه لم يكن موقف الامام بمنأى عن حساب موازين القوى. وأما قوله "وما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً، وأيم الله إني لخائف لله في ترك ذلك، وما أظن الله راضياً بترك ذلك"، فهو شاهد أنه يرى رجحان مقاومة الباطل، لكن مع شرط توافر الظروف والمُعطيات المناسبة.

تأبين يزيد لأبيه.

وتجدر الاشارة في مُستهل المُعطيات لفترة حكم يزيد، إلى ما نُقل عن يزيد في تأبينه لأبيه، وما اشتمل عليه من لغة ومضامين: فلمّا وافاهم يزيد جاء به الضحّاك أولاً إلى قبر أبيه، فصلّى عند القبر. ثمّ دخل البلد ورقى المنبر، وقال: أيّها النّاس، كان معاوية عبداً من عبيد الله، أنعم الله عليه ثمّ قبضه إليه. وهو خير من بعده ودون من قبله. ولا أزكّيه على الله عزّ وجلّ؛ فإنّه أعلم به، إن عفا عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه. وقد ولِّيتُ الأمر من بعده، ولستُ آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئاً كان. ولقد كان معاوية يغزو بكم في البحر، وإنّي لستُ حاملاً أحداً من المسلمين في البحر. وكان يشتيكم بأرض الروم، ولستُ مشتياً أحداً بأرض الروم. وكان يخرج عطاءكم أثلاثاً، وأنا أجمعه كلّه لكم. انتهى.

وهذه الصياغة مُلفتة جداً، نظراً لامعانها في المصطلحات الدينية التي تحاول النأي عن الفخر الشخصي والقبلي. ويمكن القول إنها لا تناسب ملامح شخصية يزيد المعروفة تاريخياً. قال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء: وكان ناصبياً، فظاً غليظاً، جلفاً، يتناول المُسكر، ويفعل المنكر، افتتح دولته بمقتل الشهيد الحسين (عليه السلام)، واختتمها بواقعة الحرّة، فمقته الناس، ولمْ يبارك في عمره ، وخرج عليه غير واحد بعد الحسين، كأهل المدينة قاموا لله، وكمرداس بن أدية الحنظلي البصري، ونافع بن الأزرق. انتهى.

ولذا، يُحتمل أن مضامين التأبين من صنع الرواة، أو إنها صدرت عنه، لكن على سبيل السياسة العامّة، فتصلح أن تكون من شواهد أن يزيد لم يكن بمنأى عن بعض دهاء أبيه.

.... يتبع