DELMON POST LOGO

سيرة الامام الحسين الى كربلاء .. تاريخ وبطولات ومواقف 5-6

الامام الحسين للحر : نحن أهل بيت محمّد (ص) أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان وإنْ أبَيتم إلاّ الكراهيّة لنا انصرفتُ عنكم

بقلم : الشيخ حميد المبارك

ليس هذا المقال تحقيقاً تاريخياً ولا بحثاً عقائدياً، وإنما هو إشارات تهدف إلى فهم نهضة كربلاء ضمن الأطُر العامة في السيرة العقلائية، وفي سيرة النبي والأئمة قبل وبعد الحسين.

ولأن الشواهد الذي ذكرها أهل السِّيَر، قد تكون في الأصل مُحتفّة بالقرائن والسياقات التاريخية، والتي لو وصلت إلينا، لكان لها تأثير على الاستنتاج، فإن هذا المقال لا يسوق تلك المرويات كأدلة، وإنما تنبيهاً على تلك الأطُر العامة المشار إليها، وترسيخاً لمبدء فهم السيرة وفق الغاية المناسبة لظاهر الحدث، دون اللجوء إلى التأويل إلا بحجة قطعية.

ولابد من التنبيه على إن محاولة هذه المقالة تفسير كربلاء وفق المُعطيات الظاهرية، لا يتنافى مع العقيدة الشيعية في الامام وعصمته وعلمه، ولا تعكس اتجاهاً عقائدياً خاصّاً. وإنما هي عرض لإمكان هذا النوع من القراءة، والذي يمكن أن ينسجم مع كل الاتجاهات المذهبية المختلفة أيديولوجياً.  والتاريخ شاهد بأن المواقف السياسية للنبي والأئمة لا تخرج عن الأمر العقلائي في موازنة القوى، والمعطيات الواقعية للأحداث.

منازل الطريق إلى العراق.

وكان خروج الحسين من مكة، حسب الروايات، في جماعة وعدة. وقد نُقل أنه لما خرج من مكة، اعترضه يحيى بن سعيد بن العاص، ومعه جماعة أرسلهم إليه عمرو بن سعيد، فقالوا له: انصرف أين تذهب؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، فامتنع الحسين عليه السلام وأصحابه منهم امتناعاً قوياً وسار حتى أتى التنعيم. وفي أمالي الصدوق. ثم سار حتى نزل الرهيمة.

فورد عليه رجل من أهل الكوفة، يكنى أبا هرم، فقال: يا بن النبي، ما الذي أخرجك من المدينة؟ فقال: ويحك يا أبا هرم، شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله ليقتلني، ثم ليلبسنهم الله ذُلاًّ شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وليُسلّطن عليهم من يُذلّهم. انتهى.

وقوله: "طلبوا دمي فهربت"، يتناسب مع القواعد العامة المتقدمة في أول المقال، وأن تنقلاته من المدينة إلى مكة ثم إلى العراق، ومكاتباته إلى أهل الكوفة وأهل البصرة، كانت مبتنية على الطرق المُتعارفة في طلب المِنعة وجمع الناس على النصرة.

قالوا: وفي الصفاح، لَقِي الحسين (ع) الفرزدق بن غالب الشاعر، فسأله عن خبر النّاس خلفه، فقال الفرزدق: قلوبهم معك والسيوف مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السماء. فقال أبو عبد الله (ع): "صدقت لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إنْ نزل القضاء بما نحبّ، فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد مَن كان الحقّ نيّته، والتقوى سريرته". انتهى.

وفي جواب الامام "وإن حال القضاء دون الرجاء"، دلالة على إن الظروف كانت لا تزال حسب الرجاء في النصر. ويشهد لذلك أيضاً، ما نُقل في مضمون كتابه من المنزل التالي، وهو الحاجر من بطن الرمة، حيث كتب، إلى أهل الكوفة جواباً عن كتاب مسلم ابن عقيل، وبعثه مع قيس بن مسهّر الصيداوي، وفيه، كما في السِّيَر: "أمّا بعد ، فقد ورد عليَّ كتاب مسلم بن عقيل يخبرني باجتماعكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألتُ الله أنْ يُحسن لنا الصنع ويثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحِجّة، فإذا قدم عليكم رسولي، فانكمشوا في أمركم ، فإنّي قادم في أيّامي هذه. انتهى.

ويؤكد هذا السياق أيضاً، ماذكروه من حديث بجير من أهل الثعلبية، قال مرّ الحسين بنا وأنا غلام فقال له أخي: يابن بنت رسول الله أراك في قلّة من النّاس، فأشار بالسّوط إلى حقيبة لرجل، وقال: هذه مملوءة كتباً. انتهى.

وكذلك فيما نُقل من جوابه للطرماح، والذي يفيد تمسكه بالميثاق مع أهل الكوفة إلى آخر الطريق: وفي العذيب. لقي الطرماح، وعرض عليه اللجوء إلى حصون قومه، لكن الامام تعلّل بالميثاق بينه وبين أهل الكوفة: وقال له الطرمّاح: رأيتُ النّاس قبل خروجي من الكوفة مجتمعين في ظهر الكوفة فسألتُ عنهم، قيل: إنّهم يعرضون ثم يسرّحون إلى الحسين، فانشدك الله أنْ لا تقدم عليهم، فإنّي لا أرى معك أحداً، ولَو لَم يقاتلك إلاّ هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكفى ، ولكن سِر معنا لتنزل جبلنا الذي يُدعى (أجا) فقد امتنعنا به من ملوك غسّان وحمير، ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتّى تأتيك طيء رجالاً وركباناً وأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم إلى أنْ يستبين لك ما أنت صانع. فجزاه الحسين وقومه خيراً وقال: «إنَّ بيننا وبين القوم عهداً وميثاقاً ولسنا نقدر على الانصراف حتّى تتصرّف بنا وبهم الاُمور في عاقبة. انتهى.

وكان هذا هو الحال إلى أن ورد خبر مقتل مسلم في زرود، وامتنع آل عقيل عن الرجوع، حسب نقل أهل السّيَر: وفي زرود اُخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، فاسترجع كثيراً وترحم عليهما مراراً وبكى. فقال له عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديّان: ننشدك الله يابن رسول الله ألاّ انصرفت من مكانك هذا؛ فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر. فقام آل عقيل وقالوا: لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا، فنظر إليهم الحسين، وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء. انتهى.

والسياق وإن كان واضحاً في رفض آل عقيل الرجوع، لكننا لا نستطيع، من خلال هذه الرواية، معرفة السبب الحقيقي في موافقة الامام لآل عقيل. ولعله كان يرى أنه، مع تلك التطورات، إمكانية قلب الأوضاع على عبيد الله بن زياد، لو تمكن من دخول الكوفة. أو كان يريد المُضي قدماً في إلقاء الحجة على أهل الكوفة. وقد يمكننا ملاحظة هذين الأمرين معاً، في سياق الكرّ والفرّ مع الحُر بن زياد الرياحي.  

شراف. ملاقاة الحر.

قال أهل السِّيَر: وسار من بطن العقبة حتّى نزل شراف، وعند السّحر أمر فتيانه أنْ يستقوا من الماء ويكثروا، وفي نصف النّهار سمع رجلاً من أصحابه يكبّر، فقال الحسين: «لِمَ كبَّرت؟» قال: رأيت النّخل فأنكر مَن معه أنْ يكون بهذا الموضع نخل، وإنّما هو أسنّة الرماح وآذان الخيل. وقد خاطب الحُرّ وأصحابه مرتين. وملخص كلامه التذكير بكتبهم، وإنهم إن كرهوا قدومه انصرف عنهم: ثمّ إنّ الحسين استقبلهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنّها معذرةً إلى الله عزّ وجلّ وإليكم، وإنّي لَم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقَدِمَت بها عليَّ رُسُلكم أنْ اقْدِم علينا فإنّه ليس لنا إمام ولعلّ الله أنْ يجمَعنا بك على الهدى، فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم، وإنْ كنتم لمَقدمي كارهين، انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم». فسكتوا جميعاً. وبعد أنْ فرغ من الصلاة أقبل عليهم فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النّبي محمّد، وقال: «أيّها النّاس إنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمّد (ص) أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان، وإنْ أبَيتم إلاّ الكراهيّة لنا والجهل بحقّنا وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم، انصرفتُ عنكم». فقال الحُرّ: ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها، فأمر الحسين عقبة بن سمعان فأخرج خرجَين مملوأين كتباً. قال الحرّ : إنّي لستُ من هؤلاء ، وإنّي اُمرت أنْ لا اُفارقك إذا لقيتك حتّى أقدمك الكوفة على ابن زياد. فقال الحسين: «الموت أدنى إليك من ذلك»، وأمر أصحابه بالركوب، وركبت النّساء، فحال بينهم وبين الانصراف إلى المدينة. وقال له: ولكن خذ طريقاً نصفاً بيننا لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة حتّى أكتب إلى ابن زياد؛ فلعلّ الله أنْ يرزقني العافية، ولا يبتليني بشيء من أمرك. انتهى.

وسياق كلام الامام في كلا المقامين، واضح في احتجاجه بالكتب، وعرضه الانصراف عنهم إن كانوا كارهين لقدومه، "فإنْ كنتم على ذلك فقد جئتكم، فاعطوني ما أطمئنّ به من عهودكم ومواثيقكم، وإنْ كنتم لمَقدمي كارهين، انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم". وأما رفضه أن يذهب إلى ابن زياد، فسوف يأتي أنه راجع إلى الواضح من قصد ابن زياد أنه لم يكن لِيكُفَّ، مهما كان موقف الحسين، حتى يقتله أو يُنكّل به.