DELMON POST LOGO

المنامة على بوابة الذاكرة -5 ... حماد وإمبراطور الصين

الكاتب
بقلم : جعفر حسن

المنامة عش طائر قد جمع أغصانه من أمواج البحر، وسورها برائحته المألوفة، جمع من سمكها الفضي حكايات البحارة وهم يقودون أشواقهم للبعيد، ورصعها بكلمات يوسوس بها اللؤلؤ، كلما حاول تريد كلمات العشاق وهم ينثرونها على صدور حبيباتهم قبيل العشق، هي تلك اللؤلؤة التي يضمها الليل، فتنشر أسطح منازلها أحلام الصبايا، وهن يزغرد لفرح قادم من أردية الليل، يحاور النجمات التي باتت تساق على مهل في قبة الكون، كأنها ترفد الأفق الغربي بيوم جديد.

تسللت الشمس رويدا حتى اعتلت، يوقد تنورها حرارة الأرصفة المسودة من حزن القار المطروح على الطرقات في الظهيرة، هنا صبي انقطع نعله فتركه وسار، كان القار يقطر في جلد رجله السميك حرارة تتقافز إلى رأسه، فتسقط قطرات الدمع كأنها تحاول تبريد ما التهب، يرفع رجلا ويضع أخرى، لعل الرقص على حدود الألم يسعفه، هناك ظِلٌ يضحك ساخرا، يحاول هذا تبريد رجليه في الظل، لكن الإسفلت لازال يتنفس ما امتص من جلد النهار، فظلت الحرارة متعلقة بشغاف قدميه، فظل يرقص على امتداد الطريق.

مال ظل المنارة وهو يرتخي كامرأة تتمدد على جنبها لتنام، هناك رجل يسكب الماء أمام دكانه، كأنه يحاول إحياء طقوس قديمة نسيها المارة عن شجر الوقت، وهو يورق بين جنبيه عصرا جديدا، انطلق بدراجته يحاول الإفلات من متنمر ظل يلاحقه جريا ليصطدم في آخر المطاف بسيارة متوقفة، كانت عيناه تلمعان، هناك وقفت دمعه عصية تمكنت مؤقه من إيقاف تدفقها، حتى لا يشعر المتنمر بنشوة النصر، جرجر دراجته لدكان حماد ليصلح له المقود الذي التوى كأنه رأس ثور هائج سقط على غفلة من غضب في الطين.

عند حافة الدكان شاهد حماد وهو يزرع كلماته في رؤوس الصبية، كأن كل واحد منهم قد انبت على رأسه حلما في هالة من هيام، وحماد يمطرهم رأفة الوقت. رمقه حماد بطرف عينه، فحماد لا يحب أن يقطع حديثه لأي طارئ مهما كان. يتدفق حماد، فتهرول كلماته كخيول جامحة حملن فرسانا يختطفون الأفق، يسرجون الهواء تحت سنابك خيلهم، وهي تتفصد عرقا تحمله الطرقات، ذاكرة للفتوحات. عينا حماد تتوهجان بلظى غريب، غيوم الحكاية توشك أن تصب مطرها في آذان طرية، تتشوق لحكايات تقترب من خرافات الجدات، وهن يكلمن الزمن المتطاير عن أشواق غابرة ووسائد من هواء.

حماد الحكاية، وحكاية حماد تتسرب في بطء وهو يرشف الشاي من كأسه الزجاجي الموشى بأوراق سحرية سقطت من شجر المعنى، يحتضنه بأصبعين، الحرارة تضيع كلما نفخ بأنفاسه على سطح الشاي الذي بدأ يشع بلون الذهب، شيء ما سقط في كأس حماد، ربما كلمات قديمة عن مغنين كسالى أو فاتحين لم تسجل أسمائهم في التواريخ.

قال حماد: في سنة رغبت في السفر، وكما تعرفون قد جربت السفر في السفن الخشبية، وفي الطائرة، فقلت في نفسي : يا حماد لماذا لا تجرب السفر عن طريق البواخر المصنوعة من الحديد، ذلك المركب الذي يزور البحرين وينقل الناس إلى الهند من البصرة، كان اسما الباخرتين اللتين تمران (معلي وسنان)، ولعلي اذكر اسم الباخرة (دواركا)، فما كان منى إلا أن ذهبت إلى الوكيل واشتريت التذاكر.

في اليوم المقرر للسفر حملت حاجياتي وتوجهت للميناء، وانتم تعرفون يا أولاد، وسكت برهة وأخذ يرشف من تلك الكأس، هناك صبي تحرك متململا، صار يكره كأس الشاي، ويود لو يرميه بحجر من مقلاعه ليحوله إلى شظايا، سعل حماد، وتمطى في انتظار كلمة ما تقال، كي يواصل حديثه ويشعر بأنه امتلك الألباب، هكذا هم الحكواتية يبرعون في إطلاق الأشواق نحو المزيد بصمتهم، قال صبي تعلو رجليه غبرة تدل على تمرغه في رمل الطرقات: وبعدين يا حماد!

انطلق حماد في الحديث، وكان هناك دفء ما ينبعث في كلماته، فقال: في ذلك اليوم ركبنا السفينة، وكانت كبيرة كأنها جبل يقف على الماء، وهي سفينة ذات طوابق متعددة تحمل البضائع والناس، وفي اليوم الأول والثاني سارت الرحلة على أحسن ما نريد، والناس يشترون الطعام من مطعم في أسفل السفينة التي تأخذ أسبوعا للوصول إلى الهند، وبينما نحن في حديثنا واستمتاعنا بهواء البحر النقي، إذ رأيت في الأفق البعيد هواء يدور، وغيمة عظيمة تقف فوق العافور، راعني المنظر وقلت في نفسي: ما هذه المصائب التي تلاحقني كلما عزمت على السفر؟ ولم يمهلنا الجو دقائق وإذا بالريح فوقنا تدور، وإذا تلك السفينة العظيمة كأنها عود كبريت في البحر الهائل، تدفعها الأمواج وتتقاذفها يمنة ويسرة في الغبة، سمعت صوت الرعد وهو يصم الآذان، ورأيت ضوء باهرا يعمي العيون، أيقنت بعدها أن البرق قد ضرب السفينة وشطرها إلى قسمين، ولم التفت ألا وأنا في لجة البحر، أحاول السباحة ولا أستطيع، أتلفت يمنة ويسرة، وإذا بالمركب يغرق في البحر بمن فيه في لمح البصر.

ظللت أسبح، مر يوم ويومان، تعبت من السباحة وأيقنت بالغرق، فقلت في نفسي: بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، وإذا بقدر كبير كالذي يطهى فيه للولائم العظيمة والمناسبات الكبيرة كأيام عاشوراء، تلعب به الريح أمامي، عندها تنشط وقلت في نفسي أن فاتني هذا القدر فأنا من الهالكين، وسبحت وراءه، كانت الريح كلما هبت على القدر فر من أمامي وابتعد، كأن عفريتا يدفعه بعيدا عني، وأنا أحاول جاهدا الوصول إليه، فجأة تغير اتجاه الريح ودنى القدر مني، فركبته.

ظللت على تلك الحال ترفعني الأمواج وتحطني، وأنا متمسك بجوانب ذلك القدر، ولا ادري ما الذي حدث لكل الناس الذين كانوا معي على ظهر السفينة، أهلكني العطش، وأتعبني الجوع، وانتم تعرفون يا أولاد أن السباحة تجعل الإنسان يرغب في الطعام، وكانت الشمس تسطع فوق رأسي، ودوار فظيع يقطع نظراتي، وبين الصحو وشبه الغيبوبة، اصطدم القدر بالشاطئ، فنزلت من القدر، حاولت التحرك فلم استطع.

بعد أن التقط أنفاسي، نظرت حولي، وإذا بجيشين عظيمين كأعظم ما تكون الجيوش، قد غطى امتدادهما الآفاق، اصطفت الفيلة والفرسان على الجهتين، كانت هناك رماح مشرعة، وسيوف مسلطة، ودروع سابغة صقيلة تلمع تحت أشعة الشمس، ترادفت الخيول، وصاحت الفيلة صيحات تأخذ الألباب، وسمعت كلاما غريبا، عندها تيقنت بأن المعركة ستقوم لا محالة، وأنا بين الجيشين، فقلت في نفسي: يا حماد أن لم تأخذ جهة، قتلتك الفرسان من الجهتين، فتحاملت على نفسي لأذهب إلى الجهة الأقرب.

لففت وجهي (بغترتي) كي لا يعرفني احد، عندها تراكضت الفرسان نحوي، فقلت لهم أنا معكم، فأسبغوا علي درعا، وأعطوني سيفا ولامة للحرب، عندها استعدت روعي، وإذا بالجيشين يصطدمان، قامت الحرب، وبدأ الغبار يعلو، وغمغمات الفرسان لا تفهم، فقلت: ها أنت يا حماد إما قاتل أو مقتول، فحملت على الجيش الذي أمامي، دخلت في أوساطهم، وخرجت من أعراضهم، حملت على الميمنة فانكشفت، حملت على الميسرة فتراجعت، قلبت الجناحين على القلب، وحملت على القلب، فانقلب على الجناحين، حملت عليهم والفرسان تتبعني، وكلما ضربت فارسا طارت نفوس الأعداء خوفا مني، وما هي إلا ساعة وانجلت المعركة، والنصر حليف الجيش الذي انضممت إليه، فجاءني فارس وقال: عرف عن نفسك فإن إمبراطور الصين يسأل عنك؟ وهو يتابع المعركة ويقول: من هذا الفارس الملثم الذي قاد الجيش إلى النصر؟ عندها كشفت عن وجهي، وقلت في كلام فصيح أنا حماد، فرحبوا بي أحسن ترحيب وأكرموني.

قادني الرجال في موكب مهيب إلى إمبراطور الصين، وقال لي: يا حماد، قد نظرنا إلى فعلك، وعرفنا فيه فعل الأبطال، وعرفنا أنه فعل لا يأتيه إلا حماد، فأنت من الآن أمير للجيش، فقلت له: أعفني أيها الإمبراطور، فقال أو تعصي إمبراطور الصين، وقد بدأ الشرر يتطاير من عينيه، فقلت له: يا مولاي، عندما نظرت إلى الجيش رأيتهم قوم لا يعرفون الكتابة ولا القراءة، وبهم قلة مدربة، فقال : أن مهمتك تدريبهم وتعليمهم ما تشاء، فأقمت بينهم ردحا من الزمن، أدربهم على فنون القتال وأعلمهم الكر والفر وفنون الطراد حتى استعد الجيش وصار في أحسن حال.

وأنا امشي في وسطهم قريبا من البحر، إذ بدا لي عود من شجرة، فأخذته ورسمت لهم بيتا على شكل بيوتهم وقلت لهم: بيت فقالوا ورائي، وبدأت أعلمهم الكتابة والقراءة، ألا ترون أن كتابتهم تشبه الخربشات التي يقوم بها الصبيان، أنا الذي علمتهم تلك الكتابة، وحتى لا أطيل عليكم بقيت في بلاد الصين دهرا، حتى اشتقت إلى أهلي وزوجتي وأولادي، فطلبت مقابلة إمبراطور الصين، فلما مثلت بين يديه قبلت الأرض وقلت له: يا ملك الزمان، قد طال المقام وهفت نفسي إلى أهلي، فإذن لي بالرحيل، قال إمبراطور الصين، أن كان ولابد فاطلب ما شئت، قلت: يكفي رضاكم يا مولاي، فأمر لي بسفينة عظيمة، ملئها بالنفائس من الحرير وكنوز الذهب والجواري والعبيد، وأمر البحارة بإيصالي إلى البحرين.

قال احد الصبية في خبث: أين ذهبت أموالك يا حماد، فنحن لا نراك إلا فقيرا كمعظم أهل هذه البلاد، هنا التفت حماد وسمر عينه في الفتى، وقال: تلك قصة أخرى لعصرية أخرى. تبسم الصبية وهم ينظرون إلى بعضهم البعض، وحماد بدأ يعالج مقود الدراجة الذي عاد بين يديه إلى سيرته الأولى. قال احد الصبية: يجب أن اذهب لأشتري طعام العشاء، مال حماد إلى مصباح الكيروسين وبدأ يعالجه بضربات متوالية كأنه يجبره على شيء لا يرضاه، بينما تسابق الصبية مع الطرقات بحثا عن ملاذ يأخذهم إلى يقظة الأحلام المنسية على أسطح دور المنامة.

ظل حماد وحيدا، لكن الحكايات لم تفارق عينيه، والكلام يتطاول مع الذات، حرك يديه ليعيد باب الدكان إلى امتداده، كأنه يجبر فراشة على فتح جناحيها، لكن الدكان سيميل إلى النوم بدل أن يحلق كفراشة منسية بين هواءين، ماذا تفعل يا حماد؟ أنت تقص حكايات عن بلاد بعيدة مشبوبة بالحلم، وأنت لم تغادر هذا الحي إلا نادرا. لكن عيون الأطفال المفتونة بالحكايات تظل تغريك على قدح الخيال والذهاب في أشرعة السندباد، لو توقفت عن الحكايات لم يعودوا إليك وربما ذهبوا إلى دكان عبود ليصلحوا دراجاتهم، إنهم يستمتعون بالحكاية، أراهم وهم يرتشفون المرطبات، أو يتشاركون كوب الشاي، وعيونهم معلقة على شفاهك، لا بد أنهم يضحكون عليك، لكنهم لن ينسوك، فأنت كطرقات المنامة من يألفها لا تغيب عن ذاكرته أبدا، أنت زعفران الحكايات التي تظل عيون كلابها مفتوحة وهي نائمة عن كنوز مخبوء في الكلام.