DELMON POST LOGO

في معنى الغياب

الكاتب

بقلم : جعفر حسن

لماذا يتراجع النقد أو يغيب؟ هل يكون الأمر مرهونا بالخوف من الذهاب وراء ما يفترضه المنهج بصرامته واجتراحاته من أجل فك شفرات قد تلمس المقدس أو المدنس؟ وربما تضرب فوق الفواصل الحمراء للسياسة داخل المجتمع! ولكون الناقد قادر على كشف الزيف المخبئ تحت شفق الخط النرجسي، والذي يلبس ذاتا تدعي الإبداع فيفرض عليه التراجع؟ ترى هل ساهم حشر النقد في الماضي إبداعا وتنظيرا في كونه بعيدا عن مسائلة الأسئلة الحاضرة، وليقف بنفسه في تلك المنطقة التي لا تنفرز فيها المواقف؟ وبالتالي يهرب من محاسبة سلطات متراكبة معقدة في مجتمعنا الحاضر، ترى هل بفعلته تلك يبتعد بنفسه عن المواقف الحادة التي باتت تتحيز ضمن عقلية القطيع كما يسميها البعض، تلك العقلية التي إن لم تكن معها فأنت بالتأكيد في الاصطفاف الأخر للطائفة الأخرى التي تستحق الإزالة أو في أحسن الأحول تثبيت محاصصة ما معها. وهل النقد يستطيع ضبط حدوده ضمن إطار طائفة ما؟
ونلمس تنازلا متدرجا للموقف النقدي، خطوة خطوة، فيبدو لنا بعض النقد اليوم، وربما أكثره، إن لم نكن مخطئين، يبدو كحداثة متراجعة. وباكتمال الدائرة يرى الناقد نفسه في الجهة التي كان يبتعد عنها وعيا على كل الأصعدة (تنظيرا، وإبداعا، وموقفا، وانتماء)، يشير البعض، إلى أن كل ذلك مجرد ردة فعل مؤقتة على أحلام تطايرت مع انكشاف ضعف الذات أمام نوايا وهيمنة الآخر المستعمر أو دولة المركز أو الحلفاء سمهم ما شئت، ولكن الرعب المتولد من الاجتياح وانهزام منظومتنا الدفاعية التي كانت ترفض الأخذ من الأخر واعتباره فعلا يكرس الأفكار المعلبة أو تلك التي لا تتلاءم مع مجتمعنا الذي رسمنا له صورة مثالية إلى درجة أن هناك من يعتقد أنه ليس بالإمكان أحلى ولا أجمل مما كان، ذلك الرعب جعل الكثير من النقاد يطنبون في تمجيد نظرية الفن للفن التي لم يبقى لها مكان أو بتدبيج المديح الضال لمشهدنا الحاضر.
ولعل البعض يرى أن ذلك كله نابع من تراجع يعبر عن أزمة فكرية تقف عند الإشكال ولا تتجاوزه، بل إن بعض منظري الأدب عندنا يذهبون نحو تمجيد القرن الرابع ضمن تفكر بأحياء التفكير الوسطي، معتمدين على النظرية الأخلاقية القديمة، والتي ترى أن الفضيلة ليست إلا وسطا بين رذيلتين، وبذا يكون الهدف المثالي للفن والأدب هو تحقيق الفضيلة، وبالتالي يقع الفكر في متلازمة إشكالية لا يمكن الخلاص منها، رغم كل التلفيق الممكن لتيارات متضاربة حدا يصل بها في بعض الأحيان إلى التناقض، ويتناسى المنظر هنا إن كل فلسفة تعبر عن زمنها ومصالحه ولا تعود صالحة لزمن يتجاوزها بألف من السنوات، فهل النقد مسؤول عن استمرار تلك الاتجاهات التي تمجد المظاهر الشكلية في الادب والفن محاولة أن تضفي على نفسها صفة الحداثة، بينما تضمر التحالف مع القوى المتراجعة في المجتمع، تلك القوى التي تصر على أن لا جديد يحدث البتة، و إنما كل ما نشهده وما يمور في الساحة ليس إلا تنويعا على زمن فات وتمجده (وما أرانا نقول إلا مُعارًا .... ومُعارًا من قولنا مكرورًا) وحتى البيت يعاد ويكر في مناسبات عديدة، ويبدو هذا النقد كأنه الوقوف خارج الزمن معاندا جريانه، والبقاء في لحظة ساكنة مجتلبة قدر المستطاع.
لا نعتقد أن ذلك هو دور النقد، لعل أدواره تتعد بحيث تصبح أكبر من أن نضع يدنا عليها في مثل هذه العجالة، ولعل أبرز ما يمكن أن يتصدر تلك الأدوار هو خلق حساسية فنية جديدة تتناسب مع تطور الإبداع، وردم هوة التواصل بين المتلقي و المبدع في مساحة متروكة لتطوير الأدوات الفنية التي بها نتواصل تحليلا وتقييما للنص، كل ذلك بهدف جعل الإنسان أكثر إنسانية.