DELMON POST LOGO

الماء في المتخيل الجمعي

الكاتب

في معظم الديانات الشرقية والسماوية يلعب الماء دورا تطهيريا فالتجدد للصلاة بالماء وغسل الميت الثلاثي بالماء "وجعلنا من الماء كل شئ حي"

بقلم : جعفر حسن

لقد سبق أن اشرنا إلى وجود ثلاثية حاكمة في تراث منطقة الشرق الأدنى عامة، تتمثل في الشجر والحجر والماء، ومن تلك العلاقة القائمة بين الحجر والماء ينبت الشجر، فمن ميتين تنبثق الحياة، فليس من العجيب أن كانت ثيمة الماء تتوارد في الشعر العربي منذ عصور ما قبل الإسلام إلى لحظتنا المعاصرة، فمنذ طرفة بن العبد الذي يعتبره البعض أقدم شعراء العربية، يشير إلى الماء (يشق عباب الماء حيزومها بها كما قسم الترب المفايل باليد) أو في صيحة عنترة بن شداد (لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل  ماء الحياة بذلة كجهنم وجهنم بالعز أطيب منزل)، وتظل تلك الثيمات تعمل حتى نصل إلى بدايات النهضة العربية، فنسمع السياب يصيح مطر مطر مطر. فتظل قصص التراث العربي منبعا خصبا للشعر والسرد حتى في عجائبيته وغرائبيته.
وقد تناولنا في مقالين منفصلين الشجر والحجر في المخيال الجمعي في منطقتنا، فحيثما تواجد الماء يتواجد الحجر، وحيثما يتواجدان يتواجد الشجر. ومن هذه المنطقة التي نطلق عليها الشرق الأدنى، والتي تمتد من الشام حتى حواف البحر الأبيض المتوسط وصولا إلى المحيط، وذلك أن هذه المنطقة سميت من قبل الثقافات الاستعمارية بتسميات مختلفة، شمال الصحراء، الشرق الأوسط .. الخ، وبما أن تلك الثقافة قد سمت الشرق الأقصى بتلك التسمية، فنحن في الدول العربية نشكل على العكس من ذلك شرقهم الأدنى.
ونحن نشير إلى منطقتنا، ذلك أن هذه المنطقة التي تمتد من بحر العرب إلى المتوسط إلى المحيط مرورا بالخليج العربي، في هذه المنطقة تشكل الإنسان وعاش، ومرت شعوب، وقبائل، وحضارات على المنطقة، وما تركت من تراث هو إنساني بامتياز، ونحن أبناء المنطقة لنا حظ في هذه الإنسانية، وبالتالي نحن ورثة كل ما ترك أولئك الأقوام من تراث حضاري بكل أشكاله وتلوناته المادية والفكرية واللغوية وتشكل تقاليده وإنجازاته. وفي لمسنا لثيمة الماء إنما نلمسها باعتبارها تظهر في كل الأعمال الأدبية وفنون الفلكلور، وفي الأحلام المشتركة للإنسانية، والتصور الجمعي سيكون من الصعب الإمساك به، ذلك أن أوضح الأشياء التي أمام الإنسان بشكل دائم صعب أن يتصورها ويضعها في قانون حاكم ما.

من الماء

الماء تلك الكلمة، الفكرة، والمفهوم الساحر في اللغة، يحمل جملة دلالات لم تتوقف عن النمو والاتساع، النمو عمقا مع تقدم المعرفة الإنسانية علميا، ذلك أنها تذهب نحو إضفاء معان جديدة عمودية، لتصب في المفهوم المتداول للماء، حيث أن كلمة الماء اليوم لم تعد تعني ذات الشيء الذي كانت تعنيه للعربي قبل أو قبيل الإسلام، ولا حتى للعربي في القرن العاشر الهجري، ولكننا نعرف اليوم أنها تعني: ذلك السائل الناتج عن تفاعل كيماوي حدث بين عنصرين من الغازات، هما: الأكسجين والهيدروجين بنسب ثابتة ضمن رابطة تساهمية، يمكن فكها بواسطة التحليل الكهربائي..الخ. وحتى تلك النسبة يمكن أن تتغير فتنتج لنا الماء الثقيل، والماء سائل لا لون له ولا طعم ولا رائحة، بالنسبة للإنسان، ولكن الفيلة يمكنها أن تشم الماء تحت الأرض وعلى بعد مسافات، وهذه من المعرفة المتداولة، والمتاحة للجميع، وهناك أشكال من الماء ليس هنا مجال بحثها.
وإن يكن الماء هو الداعم الأساسي للحياة الكربونية كما نعرفها، إلا أن الماء الثقيل مادة سامة، وتستخدم في المفاعلات النووية بالخصوص. فالماء على قدر ما هو أساس للحياة، هو أيضا سالب لها، وفي الاستقصاء الأفقي، لنمو المعرفة، حول الماء، سيذهب بنا بعيدا لتتسع معرفتنا للسحاب والضباب والسراب والمطر والثلج والصقيع والندى والبرد، وحالات الماء المختلفة (سائل، جامد، بخار) كما يتواجد في الطبيعة، والعذب والمالح والمر، الحار والبارد، الغزير والعميق والضحضاح والضحل والنطفة، وأماكن تجمعه (البحر والنهر والبحيرات والمحيطات، السيول، الآبار، عيون الماء، المستنقعات، النقع) وحتى في أجسادنا، فالدموع ماء مراق، والتعرق، والتبول، وكذلك الدم يحوي نسبة من الماء، واللعاب وماء الرحم يخرج قبل الجنين، والنطفة قليل الماء..الخ، وماء الرجل وماء المرأة، وفي عين الإنسان نجد المياه الزرقاء والمياه البيضاء..الخ، والماء لا شكل له ولكنه يأخذ شكل ولون البيئة التي يتواجد فيها. وقد اكتشف العرب ماء الذهب.
وقد عرفنا في اللغة مجازها المرسل وقد دخله الماء، ماء وجهه، وقيل أن الحياء نقطة ماء، ويقول من لا يستطيع الكلام في فمي ماء، وكذلك ماء الشباب، وغرس الماء، والماء الحي والماء الميت، وسمينا المرض بالاستسقاء كناية عن حبس الماء في الجسم، ولقب بالماء (ابن ماء السماء)، وحبسنا للماء أصواته، فالخرير والهدير والبربرة وأليل الماء والثجاج، ووصف بالصافي والكدر، ولعل صفحة الماء الراكد كانت أول مرآة للإنسانية قاطبة، ننظر فيه فنرى وجوهنا.

ماء الأساطير

ارتبط الماء بأساطير الخلق الأولى في منطقتنا العربية منذ أقدم العصور، فتصور أهل المنطقة على تنوعهم، بأن الأرض خلقت عبر ظهورها من المياه الأولى التي تشكل العماء المطلق التي كانت بدورها تنقسم إلى قسمين الماء العذب (ابسو) المذكر والماء المالح (تيامة) المؤنث، ومن النصف الأعلى لتيامة تولدت السماء بينما تولدت الأرض من نصفها الأسفل، وذلك على شكل ربوه من الطين، وقد فصلتها الآلهة عن السماء، وكان بينهما الهواء، وبالتالي كان اصل العالم قد خرج من الماء، وهو تتويج لعصر الآلهة وتثبيتا لسيطرتها التي تعني النظام، فكان انليل فيما بعد إله المياه العذبة الذي يتحكم في منابعها وخيراتها التي تفيض.
كما ظهر الماء على شكل البحر في الأساطير القديمة في المنطقة، والذي أطلق عليه بحر الظلمات، ذلك البحر الذي كان يفصل بلاد ما بين النهرين (بابل) وجنته المفقودة دلمون، وليعبر جلجامش ذلك البحر، عمل مجاديفا طويلة، كان يجدف بها وفي كل مرة كان يتخلص منها، فكان ماء بحر الظلمات مميتا يجب أن لا يلمس. ولكنه عند وصوله إلى تلك الجنة التي لا يشيخ فيها الأنسان ولا يمرض وتنفصل الغرائز عن الحيوانات فلا يفترس الذئب الحمل، وفي بحرها كانت تختبئ زهرة الحياة التي قطفها جلجامش من عمق المياه، تلك الزهرة التي ذهب البعض في التأويل بأنها تعيد الشباب، وقال البعض أنها تمنح من يأكلها الخلود الأبدي مثل الآلهة التي كان جلجامش ثلاثة أرباعها.
وهناك أيضا الماء في أسطورة الخلق العربية القديمة، والتي تحكي عن أن العالم مستقر، ويحكم ذلك الاستقرار جبل كاف الذي تمتد عروقه عبر الأراضين، تلك الأرض تقف على قرن الثور السماوي (نون)، ويقف الثور على ظهر الحوت (تهموت) الذي يطفو على الماء، وذات الحوت هو الذي يبتلع القمر المكتمل، بينما الحوت في الماء. كما افرد العرب القدماء ربا معبودا للسحاب والرعد والبرق هو قزح، الذي كان يتحكم في السحب والمطر والرعد والبرق، كذلك ورد الماء أيضا في تصورات البدء الأول (كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء)، وكذلك تواجد الماء في بحيرة العدالة التي تكشف المجرم وربما تعاقبه، كما ورد الماء باعتباره مرآة في حكايات كليلة ودمنه، حيث انتصر الأرنب على الأسد، ليدله على أرنب عند أسد أخر، وأغراه بأن الأرنب ذاك أكثر سمنة منه، فأخذه إلى الماء فلما نظر الأسد إلى الماء هجم على الأسد الأخر ليستخلص الأرنب، ولكنه غرق في الطين الذي كان تحت الماء.
وإذا كان الحوت من الكائنات التي تعيش في الماء، ففي قصة البحث عن عين الحياة، كانت عودة الحوت المملح (السمكة) إلى الحياة هي التي كشفت عن عين الحياة، تلك العين التي يجري ماؤها عكس الجاذبية من الأسفل إلى الأعلى، فكان أن شرب منها الخضر، ولم يتمكن ذو القرنين من ذلك، ولربما كانت علاقة الخضر بالماء تظهر في اخضرار الأماكن التي يظهر فيها، وقد تصور البعض أن الماء اصل الشجرة التي تعبر عن التجدد اللانهائي وارتباط خضرة مياهه بخضرة الشجرة، كما نجد عين ماء في الجنة، وكذلك هناك علاقة بين هدهد سليمان وقدرته على رؤية الماء تحت الأرض، ويشبه حال ذو القرنين حال (أدبا) الذي عرج إلى السماء للحصول على الخلود ذلك أنه أخفق في الأكل من خبز الحياة ولم يشرب من ماء الحياة، وذلك بخداع الإله (أيا) له، وقد تصور العرب أيضا كائنات الماء مثل حوريات الماء، ولكن حوريات الماء في المخيال العربي كانت على شكل إنسان كامل ذكر وأنثى، ولكن ما يميزهم هي تلك القدرة العجيبة على الحياة تحت سطح الماء كما ورد في الف ليلة وليلة.

ماء الحياة والموت

فإذا كانت الحياة والأرض قد انبثقت من الماء، فإن الذاكرة الأسطورية للبشر تحمل تلك اللحظات القاسية التي يضع الماء فيها حدا للحياة ذاتها بغضب من الآلهة أو من الله، فقد ذكرت أسطورة جلجامش الطوفان الذي اهلك العالم ما عدى من صعد على سطح الفلك، ذلك ما حدث به (اوتو نبشتم) جلجامش، الذي جاء يبحث عن الخلود، وكذلك ورد ذكر الطوفان في ثلاث ملاحم منها جلجامش و زيسودار واترا حاسس، بينما تتكرر الحكاية عن الطوفان في الديانات السماوية، فالطوفان مذكور في العهد القديم وبالتحديد في سفر التكوين، كما ذكر القرآن طوفان نوح الذي اهلك كل من كفر غرقا. كما تبسط قصص الأنبياء عن ناقة صالح وتقاسمها الماء مع قومه، مما حرضهم على قتلها فاستحقوا العذاب، وحتى المرأة التي نجت من الصيحة، كان نجاتها بهدف توصيل الخبر، وبعد إتمامها الخبر طلبت أن تسقى فلما شربت الماء ماتت. وكذلك ارتبط هلاك أصحاب الرس، بعقاب من الله لقتلهم الأنبياء، بنضوب نهر الرس الذي كانوا منه يشربون ويسقون أو من نضب عين الرس بالمثل في اختلاف الروايات.
وعلى العكس من تصور الطوفان العظيم سارق الحياة، كان فيضان النيل واهبا لها، كذلك كان قدماء المصريين يضحون للنيل بعذراء كل عام من اجل أن يستمر فيضانه، وعلى تلك الخطى كان العرب القدماء يقدمون البنات أضحيات لجنيات الماء لضمان عدم جفاف الآبار وعيون الماء، وبها يتقون غور مائها، كذلك اعتقد أهل البحرين أيام كانت هناك عين نضاخة اسمها (عذاري) بأنها ستستمر في تدفقها متى ما غرق فيها كل سنة احد أبناء البلد.
وفي مرحلة وسيطة بين كون الماء واهب الحياة وسالبه قصة تهدم سد مأرب وبانهياره تكون السيل العرم، والذي أدى إلى تفرق العرب في الأرض، فالماء خير عندما كان محبوسا وراء السد، وهو شر عندما انطلق بلا عنان.
يبدو أن بحثنا عن الأنهار في البلاد العربية سيقف عند مجموعة قد لا يكون بعضها مألوفا عند الكثيرين، فهناك النيل ودجلة والفرات، ونهر العاصي، ونهر الأردن ونهر الزرقاء، ونهر كارون، ويدخل الماء في التصور الجمعي للبشر عبر تخيل منبع النيل الذي تارة ينبع من السماء أو من قبة ذهبية أو من الجنة مباشرة، بينما كان المصريون القدماء يعتقدون أن الاله خنوم يخلق البشر من طين فيضان النيل، والإله حابي مزدوج الجنس يسيطر على فيضان النيل وينثر الخصب، وارتبط النيل بأن به جزأ من الاله اوزوريس المقطع وارتبط فيضان النيل وانحساره بمقتل وبعث اوزوريس " عيد وفاء النيل"، وقد عبدت بعض كائنات النيل كإله التمساح المسمى (سوبك)، وفي التصور الشعبي أنه من يشرب من مياه النيل لا بد أن يعود لزيارة مصر، وكذلك ارتبط نهر النيل بطقوس الختان والأعراس، كما ارتبطت عيون الماء بطقوس الأعراس عندنا في الخليج.
كما أن قدماء أهل العراق ذكروا في أساطيرهم سرجون الذي رمته أمه الكاهنة العليا في الماء بعد أن وضعته في سلة مغطاة بالقير، والتوراة تذكر ذات القصة عن موسى، إذ رمته أمه في سلة ليطفو على ماء النهر، وكلا الحدثين أديا إلى مستقبل باهر. بينما ظلت فئات من المسلمين تمارس ذات الطقوس بشكل رمزي، تلك الطقوس التي نجدها عند العرب ما قبل الإسلام وما بعده بالدعاء لسقيا القبور، ذلك بمعنى أن تمطر السماء على القبور، فنجد بعض الطوائف من المسلمين تصب الماء على الجدث، وذلك إيذانا واستبشارا بما سيحدث في يوم القيامة من مطر القيامة الذي سيستمر أربعين يوما حتى يبعث الناس من قبورهم، ومن الغريب أن يدخل هذا الرقم في القداسة، أربعون يوما للمرأة في الولادة، وأربعين الميت، وأربعين يوما لمطر السماء في القيامة. كما ارتبط الماء بالمعجزات، فقد شق موسى بعصاه البحر واهلك فرعون وجنوده، بينما بذلك الشق أنجى بني إسرائيل من العبودية والموت، كما مشى عيسى على الماء، وقد نجد إشارات متعددة للكرامات التي تصاحب التصوف، بنزول سطل ماء على احدهم في الصحراء قبل أن يهلكه العطش، وكذلك في مجتمعنا الصغير يحكى عن احد النابهين أنه كان يفرش إزاره على الماء ليعبر البحر إلى جزيرة النبيه صالح.
وفي معظم الديانات الشرقية والسماوية يلعب الماء دورا تطهيريا، فالتجدد للصلاة بالماء، وغسل الميت الثلاثي بالماء، وكذلك نجد كل المعابد البابلية والأشورية والأكادية لا تكاد تخلو من بئر أو أنها تقام على عين الماء أو على ضفاف مجاري الأنهار، كذلك الطقوس الايزيدية والصابئة أيضا يتطهرون بالماء، وقد كان أهل البحرين يقيمون مسجدا على معظم عيون الماء عندما كانت البلد مليئة بها، ومن المعروف أن التعمد في المسيحية كان بالماء، وذلك التعميد يرمز إلى الولادة الجديدة التي تؤهل صاحبها للذهاب إلى ملكوت السماء، كما يلعب الماء دورا شافيا بشرب الماء المحو في تراثنا، أو يلعب دورا لجلب الشر عند قراءة التعاويذ على الماء الذي يصب في بيت العدو، وكذلك يرمى السحر الأسود والطلسمات في ماء البحر أو يدفن في المقابر، ولم يخل تراثنا من تبجيل الماء ماء زمزم، والذي نبع من تحت قدمي إسماعيل عندما كان طفلا بعد أن أضناه وأمه التعب، فكان علامة على نجاتهم في الواد الذي لا زرع به في البدء، بالرغم مما أورده الإخباريون عن حفر بئر زمزم والرؤية التي أشارت إليه في حلم عبد المطلب، وفي مقابل بئر زمزم هناك بئر برهوت ذا المياه السوداء الذي تقطنه أرواح الكفرة وربما هو البئر الذي علق عليه الملكين، وكذلك كان الماء دواء لأيوب النبي إذ ركض برجله فانبثق الماء الذي كان شرابا طيبا باردا ومغتسل يذهب الداء.