بقلم : د. عبّاس القصّاب
احتضنت العاصمة العراقية بغداد الفنِّ والأدبِ والمسرحِ، الدورة الرابعة عشرة لمهرجان المسرح العربي الذي أعدته ونظمته الهيئة العربية للمسرح باقتدار ودقة وبروح المسئولية التامة حيث شارك في هذه الدورة الاستثنائية أكثر من ستمائة مسرحي عربي، وكانت الهيئة بربان سفينتها وأيقونة فخرها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان القاسمي حاكم الشارقة رئيس الهيئة الحريص على إيجاد مسرح عربي متجدد متقدم، وبجهود أمينها العام سعادة الفنان الأستاذ إسماعيل عبدالله الذي يبذل ما في وسعه لإنجاح فعاليات الهيئة وتذليل العقبات بحكمة وحنكة، مع بقية الفنانين الكبار في الهيئة كالدكتور يوسف العيذابي والفنان غنام غنام، وغيرهم من كوادر الهيئة العاملين بجد واجتهاد فيها، كانوا علامات فارقة في العمل المتواصل والسهر من أجل مسرح عربي متجدد، كل أولئك مع الأخوة المسئولين في جمهورية العراق حققوا نجاحا باهرا ومنقطع النظير لهذا الحدث الفني الأكبر في الوطن العربي.
عشنا أياما وليالي مسرحية وردية ماتعة، ونحن نتلقى العروض المسرحية العربية بمختلف مدارسها واتجاهاتها وتياراتها، تلك العروض التي أخذتنا إلى عوالم مختلفة، وشت بها خشبة المسرح من واقعية، وعبثية، واللامعقول، ورمزية مع امتزاجات رؤيوية في الاشتغال الإخراجي والسينوغرافي الذي يتشكل مع الحدث الدرامي؛ لتحقيق مشهدية درامية جمالية، بعضها مشاكس يتعمد الإيغال في الرمزية التي تناكف مخيلة المتلقي وتستفزه، وتستظهر كوامنه، وهنا يأتي دور المتلقي (المستهدف الافتراضي) في المشهدية المسرحية؛ ليضع لمساته الانطباعية والتحليلية والنقدية لما رأى من تلك العروض التي تترك مهما كانت من أثر نفسي وجمالي فيه، فيحرص على تفكيك تلك المشهديات وتفسيرها وتأويلها وفق تلقيه.
بعيدا عن نتيجة المهرجان التي أعلنتها لجنة التحكيم الموقرة التي ضمت نخبة من الفنانين والأكاديميين الكبار المشتغلين في المسرح، المشهود لهم بالنزاهة والبراعة، من الطبيعي أن يكون هناك وجهات نظر مختلفة، متفقة أو مغايرة، والكل له رأي مقدر، إلا أن من غير المعقول في تقييم أي مجال فني وأدبي أن يفرض كل منا مسطرته بمقاساتها، وذائقته الجمالية، وخلفيته الفكرية، والفنية كمرجع أخير ومقياس وحيد أوحد في الحكم على أي عمل جمالي، فهذا بصراحة إجحاف، وخصوصا المسرح وما فيه من تعقيدات منفردة أبعد بكثير من بقية الفنون الأدائية والدرامية، فلا ينبغي التشكيك في قدرات لجان التحكيم وإمكاناتهم العالية، لمجرد اختلاف وجهات النظر، فهم لم يصلوا إلى النتيجة النهائية إلا بعد جهد جهيد، ودراسات أخالها معمقة وصعبة، وإن كنت شخصيا أود الإعلان عن مبررات فوز هذا العرض أو ذاك أمام الجمهور والفرق المشاركة حتى يقف الجميع على حقيقة الحكم والنتيجة؛ ليقطعوا بذلك هذا الجدل (المتوارث) بعد كل مهرجان أو مسابقة فنية.
مما قاله المهرجان في العروض المشاركة هناك تفاوت ملحوظ في تكاملية العرض المسرحي حدثا دراميا وتمثيلا وإخراجا وسينوغرافيا، إذ أن أغلبية العروض في تقديري الشخصي لم تلامس التكاملية الفنية التي كنا ننتظرها في الاندغام العضوي بين تلك العناصر، فربما يكون الحدث الدرامي أو الفكرة (الحكاية) في أرقى مستوياتها، ولكن لا تناسبها الرؤية الإخراجية أو الاشتغال السينوغرافي، بيد أن هناك رؤية إخراجية تتفتق إبداعا مع أداء تمثيلي في غاية الروعة، وأيضا سينوغرافية مدهشة، ولكن من دون فكرة درامية متواشجة مع تلك المكونات أو مع ضبابية الحدث الدرامي الذي قد يكون مفككا غير مقنع في انسيابياته وبنائه الدرامي، ناهيك عن الالتباسات اللغوية ما يجعل المتلقي منبهرا بمشهدية الصورة لا الفكرة، وإن ذهب البعض إلى تسويق مثل هذه النظرية، ولكل الحق في عرض رؤاه الفنية في ظل الانفتاح الواسع على المسرح والدراما الغربية التي أضحت مرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة وتسهيلاتها في المسرح والسينما والتلفزيون.
مما قاله المهرجان إن هنالك زادا فكريا مهما قدم في الندوات الفكرية المختلفة قدمت فيه الكثير من الأوراق العلمية الرصينة التي أعدت تحت محاور وعناوين بحثية في غاية الأهمية؛ لأنها تسعى إلى وضع رجل المسرح العربي على عتبة ثابتة تأخذه إلى نهاجات وفق رؤية واضحة في ظل تدفق النظريات والأفكار والتيارات الحديثة وملابساتها، وخصوصا في إيجاد صيغ علائقية مع المسرح والثقافة الغربية، وقد اتصفت الندوات على الرغم من كثرة الأوراق والمداخلات بالتفاعل الملموس من قبل المستمعين والمتحاورين.
مما قاله المهرجان إن المسرح العربي يغلب على عروضه التغريب والتجريب، وغلبة شكل المسرح الغربي على حساب ما يتطلع إليه المتلقي العربي من إيجاد هوية مسرحية عربية منفردة منبثقة من الثقافة والجمالية العربية، وهنا يبقى الشد والجذب بين النقاد والمفكرين في مسافات الانحياز إلى ما يسمى بالتأصيل أو التحديث، فهل سيلتحق مسرحنا إلى مسرح ما بعد الدراما، وما بعد بعد الدراما، التي نتوقع فيها انقلاب الصورة المسرحية إلى شكل آخر، علما بأننا إلى الآن مازلنا نناقش هوية مسرحنا الذي نتفق الجميع على حداثته في الثقافة العربية، فكيف لنا أن نحرق المراحل، ونقفز قفزات واسعة متكئين على نظريات غربية نعترف باختلافها الثقافي والبيئي عنا، ولا نقول أنها أفضل منا، ولكن التحولات الحضارية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية في الغرب أدّت إلى وجود مسرح يتنفس برئة تلك التحولات التي ربما لم يشهدها الوطن العربي، ولذا كل الذي نخشاه ولادة مسرح، مشوه، لا شكل، ولا هوية، ولا مضمون واضح، يجتذب المتلقي العربي؛ بسبب تيهه وتأرجحه غير المتوازن في حيرته واختياراته، وهنا لا أدعو إلى التكلس والتقوقع والانغلاق بل التأني في التعامل مع اتجاهات المسرح الغربي الحديث، والنظر بعمق وموضوعية إلى كل جزئية، ودراستها من قبل المسرحيين العرب بدقة وترو.
ما قاله المهرجان إن المسرح الخليجي شبه غائب عن الساحة المسرحية العربية، عدا أربعة أعمال مسرحية يتيمة اعتذر أحدها، فبقيت ثلاثة عروض خليجية (عرضان إماراتيان، وعرض عماني، بعد انسحاب العرض الكويتي)، وكلنا يعلم أن هناك تجارب مسرحية خليجية مقدرة، وذات مستويات فنية هائلة يقوم بها فنانون خليجيون مسرحيون لهم باع طويل وخبرات متراكمة في الإبداع والإدهاش، ونتساءل جميعا أين فرقكم؟ وأين أعمالكم المسرحية؟، لماذا غابت؟ وثمة سؤال ناوشني كثيرا، لماذا غاب صوت المسرحي الخليجي في كل الندوات الفكرية، سواء كانوا متحدثين أم رؤساء جلسات مع كبير الاحترام لأصحاب الأوراق العلمية ورؤساء الجلسات الفكرية التي استمرت لأكثر من خمسة أيام متتالية مع وجود كوكبة من النقاد والفنانين الخليجيين الذي لا يقلون كفاءة ومراسا وخبرة عن أشقائهم العرب، ولذا كنت أتمنى أن أرى الحضور العربي بكافة أقاليمه في الندوات الفكرية؛ لنحقق الوحدة العربية في المسرح التي عجزت عن تحقيقها السياسة.
ما قاله المهرجان بألم افتقاده الحضور المسرحي البحريني عدا مشاركة يتيمة كتعقيب للعرض الإماراتي (زغنبوت) في الاستوديو التحليلي (التطبيقي) قدمته المتألقة دائما الدكتورة زهراء المنصور، وغير ذلك لا وجود فاعل في المهرجان حيث خلا من أي عرض، أو متحدث، أو محكم، أو باحث بحريني، وهذا ما يجعلنا ندق ناقوس الخطر، وبقوة؛ لننهض باسم مملكة البحرين بجانب أشقائها العرب من خلال تواجدها الفعلي والذي يتمثل أساسا وهو الأهم في وجود عمل مسرحي بحريني منافس يقدم الصورة المشرفة للمسرح البحريني الذي تجاوز عمره قرنا من الزمان، إن ساحتنا المسرحية ولادة مبدعة، نرجو لها أن تنهض لتلتحق ببقية الساحات، متجاوزة المصاعب بقوة واقتدار، وهل المسرح إلا فعل يبني الفضاء الشاسع بما تبتدعه أيادي المسرحيين، فيتحول من لا شيء إلى فن إبداعي بأدنى التكاليف وأقلها، وهذا ما شاهدناه في بعض العروض؛ حيث الإبداع هو الذي يتفنن في تجاوز العقبات برشاقة وخفة؛ ليحقق معجزة الإنجاز.