DELMON POST LOGO

في وداع الصديق محمد الجودر

بقلم : ابراهيم شريف

انتقل الى رحمة الله.." صعقتني هذه العبارة بينما كنت أتصفح بعجالة إحدى مجموعات الواتساب، حوالي التاسعة والنصف من صباح اليوم الثلاثاء 13 فبراير 2024.

هذه المرة كان الخبر بشأن صديق عزيز كنت قد ذهبت قبل شهر لتعزيته في وفاة شقيقته الكبرى. تصفحت المجموعات الأخرى لكني لم أجد خبرا مماثلا. اتصلت بشقيقه فأكد لي الخبر. يا الله، ما هذا الصباح المشؤوم! استعدت شريط ذكرياتي وتجمدت الصورة أمام ابتسامته المشرقة وضحكته المميزة.

أصبحت في عمر لا أستغرب أن يأتيني خبر بفقد زميل، صاحب، رفيق، حبيب. لكن محمدا كان بصحة جيدة، منتظم معتدل في أكله، مفعم بالنشاط والحيوية، كان آخر من أتوقع أن يتوفاه الله بسكتة قلبية.

عندما جاءته المنية، كان أبو يوسف في رحلة للقاهرة بمعية زوجته الصديقة الدكتورة فاطمة الرفاعي، التي أعرفها هي الأخرى منذ نصف قرن. كنا قد اتفقنا قبل أسابيع على السفر بصحبة الأصدقاء وعائلاتنا الى قطر خلال دورة كأس آسيا التي انتهت قبل أيام. الا أن الموعد تضارب مع سفرهم إلى القاهرة. من هناك بعث بفيديو لزيارتهم واحة الفيوم.

قالت لي احدى الصديقات أن محمدا كان متلهفا لاستعادة ذكرياته عندما كان طالبا يزور القاهرة فطلب زيارة كل المعالم والأماكن التي تركت انطباعا فيه، لم يهدأ طوال سفره وكأنه مستعجل لإنهاء مهمة ما.

خلال الشهرين الماضيين التقيت بمحمد في البحرين ثلاث مرات وهو أمر فريد لم يحصل من قبل، اذ تعودنا أن نلتقيه عند زيارته البحرين حوالي مرتين في العام الواحد، وكأنه كان يود أن يلقي نظرة أخيرة علينا. لماذا رحلت مبكرا يا محمد؟ ألم تسمع أن أجمل ما في رحلتنا في هذه الحياة هم من يستوطنون قلوبنا، فان ذهبوا ذهبنا؟

تعرفت على أبي يوسف قبل أكثر من 50 عاما، تحديدا في سبتمبر 1973 في بيروت عاصمة الثقافة والحرية في وطن عربي لا تقل صحاريه السياسية جفافا وجدبا عن صحاريه في الربع الخالي والصحراء الكبرى.  كنا ندرس سويا في الجامعة الأمريكية وكان قد سبقني بثلاثة أعوام. صادفَت بداية حياتي الجامعية حرب أكتوبر المجيدة حيث شاهدت بعيني كيف استنفر طلبة الجامعة الأمريكية في بيروت، التي كانت معقلا من معاقل القوميين واليساريين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، للمساهمة في المعركة الكبرى.  

كان محمد من أوائل الشباب الذين احتضنوني وساهموا في وضعي على سكة العمل الوطني والطلابي النقابي. في بيروت، كان محمد القائد الطلابي الأبرز في فرع الاتحاد الوطني لطلبة البحرين وتقلد لاحقا منصب رئيس الاتحاد الوطني لطلبة البحرين. شخصية أبي يوسف الكاريزمية الهادئة، الطيبة بسجيتها، وثقافته العالية كانت جاذبة للشباب الصغار أمثالي.

كان الاتحاد الطلابي مدرسة في العمل الجماعي والنضال النقابي والدفاع عن مصالح الطلبة، يُخَرّج كوادر العمل الوطني وقيادات المجتمع التي أسست ودعمت عددا كبيرا من مؤسسات المجتمع المدني والمهني البحريني.

طوال السنين التي عرفته، لم يفقد محمد هدوئه ولباقته في الحديث، ورغم ابتعاده عن العمل السياسي اليومي وتفرغه لبناء اسرة سعيدة أقامت في أبوظبي العاصمة حيث كانت ملاذه بعد تخرجه من الجامعة، فقد بقيت بوصلته الوطنية والقومية ومركزية القضية الفلسطينية حاضرة في وجدانه وأحاديثه.  

عشت نقيا وغادرت نقيا. هكذا عرفتك وهكذا سأذكرك وسيذكرك محبوك. ستذكرك بالخير أم شريف وأبنائي الذين تشرفوا بمعرفتك ومعرفة أم يوسف وعائلتك الرائعة، في رحمة الله وعفوه يا حبيبي أبا يوسف.