DELMON POST LOGO

عبد الجبار في حفل تدشين إصدارات الوطني : المنجز يضيف الكثير إلى ذاكرتنا الشعبية ويعيد انتاج الماضي في بساطته وتلقائيته

نجد عناوين تعكس طبيعة التعاطي المجتمعي ومستويات البنية الفكرية والنفسية في بيئة البطل

يقول الناقد الادبي عبد الجبار علي في ورقة عمل تحليليه لاعمال الكاتبة الدكتورة جميلة الوطني  قدمها بحفل تدشين إصدارات الشاعرة والروائية الدكتورة جميلة الوطني ، وبالتحديد لعملها " ملتقى بنت إبراهيم نموذجا " وكانت الورقة بعنوان " اشتغالات الحكي السيري من منظور السوسيوينائية " بمكتبة الأيام مؤخرا : هذا المنجز يضيف الكثير إلى ذاكرتنا الشعبية، ويعيد انتاج الماضي في بساطته وتلقائيته، ودراميته ومأساويته؛ ليعوضنا عما فقدناه من ذات أو ما تشوه لدينا من واقع، إنه الفعل الإبداعي حينما ينبش ذاكرة النسيان ليخرج منها أجمل حضور في الزمن والمكان. تقول الكاتبة في بداية هذه السيرة:
" عبر الحرف يأتي ما مرّ بواسطة المعنى، نصوغ ما سيأتي، وبذلك يغدو الماضي صورة للحاضر، ويصبح الحاضر عنوانا للماضي، وبين لهيبهما معا، نكتب سيرتنا في سيرة الآخر، ثم تبدو حياة هذا الآخر، الساكن في الدواخل، حياة لنا، مؤجلة إلى إسعار آخر، لا ينتهي إلا بالكتابة “.
ويضيف عبد الجبار في الحفل الذي حضره عدد كبير من الادباء والفنانين ومحبي الادب "في هذه الإطلالة السريعة على هذا المنجز البحريني الأصيل في مادته وزمنه، سأحاول الكشف عن طبيعة الاشتغال السيري الشعبي الذي أنجزته الكاتبة ضمن معادلة الشكل والمضمون في أنساق السيرة الروائية الذاتية والغيرية وتداخلهما عبر فنية خاصة انتهجتها الكاتبة في هذا المنجز.
    لنقرر بداية أن الأدب الشعبي جزء أصيل من مجموع الأدب العالمي، وأن لكل أمة أدبها الشعبي الذي تمتح منه كل فنون السرد بكل أشكاله. فهذا الأدب هو أكثر ما تشترك فيه المجموعة الإنسانية، وبه تم إلغاء كل الحدود المكانية الفاصلة بين أمة وأخرى. وبهذا أصبح إرثا بشريا لا يمكن لأحد احتكاره لنفسه أو حتى ادعاء ملكيته.
    ومرورا بالأسطورة فالفولكلور ثم الأدب الشعبي، كانت المادة الأساس لكل الكتاب منذ يوروبيدس حتى شكسبير فأدب أوروبا الشعبي والمهابهارتا، والشاهنامة وصولا إلى ألف ليلة وليلة، فمقامات الهمذاني والحريري، وحكايات سيف بن ذي يزن، وذات الهمة، وأيام العرب، ثم وصولا إلى الرواية فالقصة القصيرة، كان الجميع ينسج أعماله ويستوحيها من خلال ما أنجزته الشفاهية الشعبية في كل الأمم سعياً لبناء تصور عميق عن صراع الخير والشر، وعن بحث الإنسان عن ذاته، وموقعه بين القوى التي تتحكم في حركيته وفاعليته في هذه الحياة.  
     هذه المقدمة السريعة تنقلنا إلى طبيعة المنجز الذي نحن بصدده ، وهنا لابد من التنويه إلى أن مسألة تصنيف هذا المنجز لا يشكل كبير أهمية إذا ما قيس بحقيقة ما قدمته الكاتبة من رؤية عابرة لزمنية الرواية السيرية، ومدى فاعليتها في المراوحة بين الواقعي التاريخي والمتخيل، بين الوثيقة المكتوبة والشفاهية العابرة للذاكرة الشعبية، وما تراكم فيها من معطيات ثقافية وحضارية تترجم حقيقة الذات البحرينية وحركتها نحو التشكل من خلال إدخال هذا الشفاهي المنكتب ضمن مشغل اللغة ودرامية الحدث ضمن الموروث الشخصي والشعبي، ومفترضات التلقي الذي حتما سيعيد تشكيل الفهم والرؤية لما حمله هذا المنجز الأصيل .
وهنا مرور سريع على أهم ملامح هذا المنجز:
أولاً؛ سيرة شعبية أم رواية سيرية؟
     مما لا شك فيه أن تمحض السيرة الشعبية إلى اختزال البطولة في شخصية ما وضمن زمن ما، شكلت بؤرة داخل ذاكرة الشعب الذي تنتمي إليه، مع حفاظها على مجهولية المبدع أو الرواي جعل منها أول الأشكال البدائية التي عرفها القص، باعتبارها تقوم على تلقائية السرد وبراءته، سمها ما شئت أسطورية أو فولكلورية أو شعبية، هي في مجموعها ستُحكم بنظام شفاهي لن يتفق عليه اثنان في زمنية سرده أو زمنية حدوثه. وهذا واحد من الأجنحة التي طارت بها الكاتبة في تشكيل منجزها هذا باعتمادها على ما اختزنته ذاكرتها الشخصية، باعتبارها بطلا مرادفا للبطل الرئيس، وكذلك من خلال ما جمعته من منقولات تحدث بها أو رواها آخرون ملتصقون بالحكاية والبطولة، ممن عاصروا هذه المنعطفات التاريخية، وهم:
مريم السلاطنة وأختها زهراء / تعبة (أم الكاتبة) / السيد محمد حسن كمال الدين واخوه إبراهيم كمال الدين، وأخواته زكية وصفية ومليكة، سنوات الجريش/ جمعة حبيب الستراوي / .  أما الجناح الآخر فتمثل في التمرد على صرامة الرواية الشعبية وإخراجها من براءة السرد إلى عالم التشكل الفني الذي حتما كان المبرر الأساس لكل الخروجات والإضافات على المخطوطة التاريخية ومخزون الذاكرة الشفاهية، سعيا لخلق هذه الهالة من الجمالية التي جمحت أحيانا وأخرجت السيَري من عباءته الكبرى لتلقي به في أحضان الروائي العابر للواقع والمتجاوز للمتخيل. لهذا فهو منجز مخاتل ومراوغ لا يمكن اصطياده ضمن النسقين: السيري الشعبي والروائي السيري. ولهذا السبب امتلك خاصية الفرادة في عوالم الشكل والبنية.
ثانياً؛
أ‌. موقعية البطل وموقعية السارد وحضور الراوي الكاتب.
ب‌. النظام الألفليللي في سيرة بنت إبراهيم.
ج. انحرافات الشكل (دخول الكاتب وانفصاله عن نسيج الحكاية)
قبل الخوض في هذا المحور، يجدر بنا المرور على أهم مفاصل المنجز التي شكلت المحمولات الأساسية له:
خلال المئتين والأربع من البياض، وعلى مساحة الفضاء النصي الذي استغرق تسعة وثلاثين فصلا، كانت الكتابة تعبر أسفار البوح. وتختبر صبر القارئ على الإمساك بشهقة الكشف والمعرفة وتشعل الشغف نحو ارتشاف جمالية التذكر، وحيوية الذاكرة.
    إنه سحر السرد عندما يلتحم بذاكرة نشطة على شرط فورستر، ذاكرةٍ لا تشبه ذاكرة الأسماك في شيء، ذاكرة تصطاد أفضل ما تختزن، وتنتقي ببراعة ما يقيم خاصية الترابط والانفتاح على بنية السرد، وهنا التحدي، حين يدخل السرد في مستويات الميتا سرد، ليجعلك – كقارئ – عنصرا من عناصر حكايته، عبر تلك العلاقة الحميمة مع المسرود الذي يشكل جزءا من تاريخك الشعبي.
    فنجد عناوين السيرة هذه دالة على طبيعة الخطة التي اختارها الكاتب لبلورة هذا المعطى الأدبي لإخراجه من صرامته الشفاهية إلى جمالية التلقي المنتج، واللعب الحر مع اللغة والشكل.
ففي العناوين اختصار بارع يجعلك أمام مادة السيرة، ويبقى عليك أن تلج إلى داخلها لتكتشف سحر التنظيم والاختيار، نقرأ مثلا:
- يوم لشراك / زمن التبرك بشجرة الأسدية / خرافة السفينة ذات الزعانف / حكاية ملك الملوك / مرآة زئبقية / الخياطة / الدجاجة البياضة.
    هنا يلتحم الشعبي مع الأسطوري، وتبرز قدرة الكاتب على إعادة تشكيل هذين المكونين السرديين من خلال لغته هو وفنيته التي عبر من خلالها نحو التوازن بين ذاكرة المحكي والتدخل فيه بالزيادة او الحذف.
    في العناوين التالية سنجد نسقاً آخر تسبب في تشكيل حالة من التناوب بين راوٍ يحكي وآخر شاهداً على ما يحدث ، بنت إبراهيم والطفلة جميلة ومجموع الشخوص التي تضافرت في تشكيل الصورة الشعبية للبطل،  صحيح أن المتن الحكائي هنا مملوك لصاحبته / البطل ، ولكنه يساق على لسان سارد من داخل الحكاية نفسها وهي جميلة ، جميلة الساردة هنا ليست هي جميلة الكاتبة ، إنها تقيم جسرا بين المحكي وبين السردي ، بمعنى أنها تتماهى مع وظيفتها ككاتبة للنص وبين وظيفتها كشاهدة او مشاركة فيه ،وقد سمح هذا التناوب بتحوير السرد نحو نسق شبه روائي بفعل التدخلات التي خلقتها الكاتبة، والمساحات التي أوجدتها لنفسها لتقوم باستلام الحكي شهودا أو تعليقا أو حتى انتهاكاً لقواعد السرد من خلال إصدار الأحكام وبث الرسائل والخطابات التي تعزز من حضورها كبطل مواز للبطولة الأم. نجد ذلك في العناوين التالية:
- ولوج في الذاكرة / ما كان الحزن فرديا / حياة تحت أنقاض تبدلات الزمن / تشرذم أنجبه الوعي السياسي / مناوشات من زمن التحصيل / ليالي السرد الساحر / طفلة متمردة / واقعية السرد / مونولوج ما بعد الرحيل / عجلة الزمان / مغادرة أبهاء الأسطورة.
    في البعد الثالث لمحمولات السيرة، نجد عناوين تعكس طبيعة التعاطي المجتمعي ومستويات البنية الفكرية والنفسية في بيئة البطل، بين أحداث محورية غيرت من ملامح المجتمع، وبين أنساق دينية وتربوية وأخلاقية حكمت التكوين الفردي والسلطوي خلال الفترة الممتدة من 1904 وحتى 1976 وهي العمر الممتد للحاجة مريم إبراهيم حسن الإسكافي أو بنت إبراهيم. وفي هذا البعد تبرز السمة الروائية وتطغى على اشتغالات الشعبي والأسطوري، وهذه العناوين هي:
- شيم استثنائية لجدة أهالي النعيم / دروس ممهورة بتجارب العمر / حريق من الذاكرة / نواح بين حربين / حرب في القلافة / لهجة مشددة / فض التجمع النسوي / الحوار الإعجازي / نسمة براءة على السطوح / دوران الزمان.
    خلال كل تلك الأبعاد، ذاب صوت الراوي في مجموع الأصوات التي أنجزت المحكي ، فالكاتبة لا تدعي ملكية هذا المسرود بقدر ما تحاول أن تعيد تشكيله وفق طموحها وقصديتها، هكذا تقول في بداية المنجز : " وتوصلت إلى جعل الكتابة تختار شكلها دون تدخل قسري مني ، أو من جوهر الأحداث " فهي وقعت بين خيارين ، أن تترك الحكاية تتدفق بحسب ما تمليه الذاكرة الشخصية، دون تدخل منها ، أو تختار شكلا معينا لتأطير البوح السيري وتنظيمه ، فكان لها الخيار الثاني، وهو ما أوقعها في أزمة التصنيف التي أعرضت كشحا عنها في بداية الأمر، وهو أنها استبدت بالرؤية لصالحها وجعلت البطلة ( بنت إبراهيم ) في خلفية المسرود / القول ، وهذا أفقد سحر السيرة جمالية التلقي، إذ كان الأولى بها أن تقدم بطلتها بضمير الأنا المطلق لترفع من مستوى التحقق والاندماج مع متلق يبحث عن مدلولات المحكي بدلا من فرض رؤيتها ككاتبة على طبيعة فهمه وتلقيه. وهنا تكمن إشكالية التصنيف، فهي بكونها المالكة لضمير السرد (الهو) أغرقت المسرود في خبرية قد يصعب الانفلات من أسرها، ووجهت النص نحو الفعل التاريخي الخالص . ومع ذلك كله، تمكنت من إحداث حالة من التعويض بفعل ما أنجزته اللغة من تفوق سحب التاريخي نحو الجمالي وسحر السرد.
    والسؤال الأخير هنا: ماذا لو كانت بنت إبراهيم هي من تروي؟ وهي من تخبر عن جميلة، وهي من تحرك مفاصل السيرة بضميرها الأنوي، ماذا لو استبدلنا عين جميلة بعين بنت إبراهيم، وعقل جميلة بعقل بنت إبراهيم، حتما سنرى النتيجة تختلف ، سنعرف جميلة بشكل أعمق ، وسنعرف بنت إبراهيم كما رأتها جميلة ، ونحن متيقنون أن جميلة الكاتبة حاضرة في الذات المنكتبة، وبنت إبراهيم هي صناعة جميلة الكاتبة التي خلقتها من جديد وأعادت حضورها في زمننا الذي أرادت له الكاتبة أن يعود لزمنية بطلتها، لهذا نراها تختم السيرة بعنوان يجسد رؤيتها : مغادرة أبهاء الأسطورة " . هكذا أرادت لها أن تكون ضمن الفعل الأسطوري الذي يسكن منطقة السماوي والخارق والغيبي، الفعل الذي ينتصر فيه الخير على الشر، ويعيد تشكيل المعتقدات والأفكار، والإيمان بعدالة الحق .
الناقد عبد الجبار اثناء القاء ورقته