عبد الجبار : الكاتبة اعادت صناعة الشخصية بشكل فائق جداً بحيث يشعر القارىء بأن الشخصية ولدت للتو مع أول قراءة للنص وهو أمر خارق للعادة
كتبت - وفاء فيصل
نظمت اسرة الادباء والكتاب امسية ادبية بعنوان " سيرة الزمان والمكان في السرد البحريني المعاضر " واخذت كتاب " ملتقى ام ابراهيم " للدكتورة جميلة الوطني كمنوذج لهذا الادب السردي البحريني .
إن كتابة السيرة كنوع من أنواع الأدب يتعلق تماماً بالحساب الزمني لصاحب السيرة عبر خبراته ومعارفه العلمية والعملية والمراكز التي حققها وقد تجتمع السيرة في حياة كاملة مصاغة بأسلوب سردي أو تتجمع كسيرة للإنجازات والمحطات المختزلة والتي مر بها صاحب السيرة وأحياناً قد يروي الأخير بنفسه سيرة حياته ..
تعدد السيرة يجعلنا في مصاف نوعين مهمين ترتكز عليهما هذه الكتابة وهي السيرة الذاتية التي يكتب فيها الأديب عن نفسه والسيرة الغيرية حيث يكتب فيها الأديب عن الغير .
وانطلاقاً من هنا توقفنا مع الدكتورة جميلة الوطني بأسرة الأدباء والكتاب في أمسية تحت عنوان " قراءة في كتاب سيرة بنت إبراهيم " بإدارة الأستاذ عيسى هجرس وبتعقيب وقراءة الأستاذ عبد الجبار علي في منجزها المميز " ملتقى بنت إبراهيم " الذي يتناول شخصية مهمة عاشت خلال الفترة من عام ١٩٠٤ حتى عام ١٩٧٦ وهي سيرة فريدة لامرأة فقيرة و كفيفة كان لها الزعامة في قرية النعيم آنذاك .
وأشار أ.عيسى إلى تأريخ الكاتبة لهذه الفترة الزمنية الجميلة من هذه الحقبة للبيئة البحرينية المليئة بالمشاهد الحية والغنية بالتراث الأصيل في اللهجة والمكان والتي تمثل في مجملها موروثاً شعبياً لا زال محافظاً على أصالته رغم مرور السنين .
وتطرق أ. عبد الجبار من خلال إطلالته السريعة في ورقته النقدية تحت عنوان اشتغالات الحكي السيري من منظور السيسيوبنائية إلى أن هذه الوثيقة التاريخية خضعت لاشتراطات السيرة الروائية، إذ أن الكاتبة لم تقع في صرامة وسجن التاريخ والحوادث التي يمتلكها المؤرخون ويتحكمون فيها إذ أنها فَعَلت سيرة حتمية وكانت أمينة جداً على المسرود التاريخي وفي نفس الوقت تحررت من هذا المسرود لتعيد تشكيل الشخصية السائدة في النص ..
فضلاً على احتواء السيرة على قدر من التشكل ، فالكاتبة اعادت صناعة الشخصية بشكل فائق جداً بحيث يشعر القارىء بأن الشخصية ولدت للتو مع أول قراءة للنص وهو أمر خارق للعادة .
علاوةً على تمكنها من السيطرة على السرد الفلكلوري والعجائبي فاستطاعت د. جميلة أن تكون منهجاً داخل هذا الكتاب .
وبصدد التصنيف يرى أ. عبد الجبار أن الاشكالية تقع في التصنيف بين سيرة شعبية أو رواية فالكتاب لم يصنف كوثيقة تاريخية إذ أنه كُتِب بلغة الكاتبة الساردة والروائية ، عبر نسيج قوي في السرد كونه نص وطني بامتياز يترجم حقيقة الذات البحرينية و لا يتحدث في التقسيمات أو في التصنيف البشري للمكون الاجتماعي مما يجعل القارىء يعيد تشكيل الفهم والرؤية الذي حمله هذا المنجز الاصيل متمنياً أن يعيش في تلك الفترة الزمنية المميزة بحكم ما أسبغت عليه الكاتبة من طهارة وصفاء بين القلوب في فترة يود المتلقي بأنها لم تنتهي ..
وتعتبر السيرة الشعبية أول الاشكال التي عرفها القص باعتبارها تقوم على تلقائية السرد وواقعيته ، ويعد هذا أحد الاجنحة التي طارت بها الكاتبة في تشكيلها لمنجزها باعتمادها على ما اختزنته ذاكرتها الشخصية من خلال ما جمعته من منقولات ممن عاصروا هذه المنعطفات الداخلية وهم ممن استندت عليهم .. فهي تملك أن تتلاعب بالشخصية من هذا المنحنى باعتبارها بطلاً مرادفاً للبطل الرئيس..
كما تصنع الكاتبة الشخصية والعكس خلال عملية تبادل داخل المحركات وهو تناوب يمنح نصاً في منتهى الحبك والاتقان ليبرز ذلك موقع البطل في الحضور الروائي عبر دخول الكاتب وانفصاله عن تفاصيل الحكاية كما حدث تماماً في ملتقى بنت إبراهيم حيث تنفصل الكاتبة كمؤلفة وترجع كبطل والعكس .
و في انساق السيرة الذاتية والغيرية يلحظ تداخلهما عبر فنية خاصة اتخذتها الكاتبة في هذا المنجز ، إذ أن لكل أمة أدبها الشعبي الذي تنبثق منه كل فنون السرد .
فالأدب الشعبي أكثر ما تشترك فيه المجموعة الانسانية وبه تم إلغاء كل الحدود الفاصلة بين أمة وأخرى وأصبح إرثاً بشرياً لا يمكن لأحد احتكاره لنفسه أو إدعاء ملكيته .
وفي هذا السياق تعتبر الحكاية الشعبية المادة الاساسية لكل الكتاب في الدول الاوروبية وصولاً لألف ليلة وليلة ثم وصولاً للرواية في القصة القصيرة حيث يلجأ الجميع للحكاية الشعبية وصولاً للخير والشر وبحث الانسان عن حكايته .
ومن خلال هذا الإصدار قدمت الكاتبة رؤية عابرة للسيرة الذاتية عبر ثلاث مستويات في الرواية وهي :
المستوى الواقعي
المستوى المتخيل
المستوى التاريخي
وأشار أ. عبد الجبار إلى استعانة الكاتبة بالرواة الذين اعتمدت منهم واخذت منهم المقولات وهم : مريم السلاطنة وزهراء السلاطنة ، تعبة أم الكاتبة ، السيد حسن كمال الدين واخواته ، سنوات الجريش لرفع النص لمستوى ما فوق السيرية .
ويتمثل الجناح الاخر الذي طارت به الكاتبة في التمرد على صرامة الرواية الشعبية واخراجها من براءة السرد للعالم الفني سعياً لخلق هذه الهالة من الجمالية ..
و بالغوص في أعماق " ملتقى بنت إبراهيم " من خلال ٣٩ فصلاً يشعل الشغف نحو ارتشاف جمالية التشكل وهو ما يُعنى بسحر السرد عندما يلتحم على ذاكرة فورستر
وهي ذاكرة تمتلك خاصية الترابط والانفتاح على السرد ، فيلتحم الأدب الشعبي مع الاسطوري مبرزاً قدرة الكاتبة على تشكيل السرد خلاد هذه اللغة .
واختصرت الكاتبة عناوين السيرة التي اعتمدتها اختصار بارع أمام مادة السيرة الذاتية و منها :
زمن التبرك بشجرة الاسدية
خرافة السفينة ذات الزعانف
مرآة زئبقية
الخياطة
الدجاجة البياضة
وهي عناوين تعكس طبيعة التعاطي المجتمعي ومستويات البيئة النفسية للبطلة خلال الفترة من ١٩٠٤ و ١٩٧٦ وهو العمر الممتد للحاجة مريم بنت إبراهيم الاسكافي
وفي هذا البعد تبرز السمة الروائية وتطغى على السرد الشعبي والاسطوري .
كما سلط الضوء على مجموع الشخوص المتضافرة في تشكيل النص المنساق على لسان الكاتبة نفسها التي تقوم بإيهام القارىء بأن من تتحدث هي بنت ابراهيم ولكن من يتلاعب بها هي الكاتبة ويساق النص على لسان سارد من الداخل عبر تعبيره الخاص - جميلة الساردة هنا ليست جميلة الكاتبة -
فهي تجمع بين وظيفتها ككاتبة للنص وكشاهدة فيه .
من خلال كل تلك الأبعاد ذاب صوت الراوي في مجموع الاصوات التي انجزت المحكي فالكاتبة لا تدعي ملكية هذا المسرود بقدر ما تحاول تعيد تشكيله وفق طموحها ،
فهي وقعت بين خيارين أن تترك الحكاية تتدفق بحسب ما تمليه الذاكرة الشخصية دون تدخل منها أو تختار شكل البوح السيري وبهذا تتخلص من صرامة التاريخ وقد اختارت الكاتبة الخيار الأخير الذي اوقعها في أزمة التصنيف
من خلال جعل البطلة بنت ابراهيم في خلفية المسرود وهذا أفقد سحر السيرة جمالية التلقي .
إن هذا المنجز يضيف الكثير للذاكرة الشعبية عبر تشكيل الماضي ليعيد ما فقدناه من ذات وما لم نلمسه من واقع .