DELMON POST LOGO

اليحيائي في منتدى المنبر التقدمي : لا تزال البيئة التشريعية المتعلقة بحرية التعبير والنشر في عُمان متأخرة أو غير مواكبة للتغييرات

خمس اوراق عمل تم تقديمها في المنتدى الفكري السنوي العاشر – دورة احمد الشملان - الذي ينظمة المنبر التقدمي ، اول تلك الاوراق كان للدكتور محمد اليحيائي و بعنوان " قيود وتحديات حرية التعبير في عمان” ، وفيما يلي نص الورقة .

لا تختلف القوانين والتشريعات المتعلقة بحرية التعبير والنشر في عُمان عنها في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الأخرى، من حيث كونها قوانين وتشريعات توصف بغير الصديقة لحرية التعبير، وهدفها الأساس وضع القيود والحدود، أكثر من وضع الأطر وحفظ حقوق الأفراد والمؤسسات، أو حماية "المجتمع وعاداته وقيمه" من أية نصوص "خادشة" بحسب كثير من الادعاءات، لكن الذي يختلف هو الخبرات والحساسيات المعرفية لدى المشتغلين بالكتابة والنشر في التعاطي مع تلك القوانين والتشريعات، ويختلف بالتالي، ما يبدو وكأنها مساحات تتسع وتضيق على هذه الحرية بين بلد وآخر من هذه البلدان.

تسعى هذه الورقة الموجزة إلى قراءة واقع حرية التعبير في سلطنة عُمان من خلال فهم القوانين والتشريعات المتعلقة بحرية التعبير والنشر، وفهم القيود والتحديات التي تواجه المشتغلين بالكتابة في هذا البلد.

ستركز الورقة على المواد المتعلقة بقضايا حرية التعبير والنشر في قانون المطبوعات والنشر الذي صدر عام 1984، وفي النظام الأساسي للدولة (الدستور) بنسخيته القديمة - الملغاة - والتي صدرت عام 1996، والجديدة التي صدرت عام 2021.

الورقة ستقارن بين هذه المواد وبين الشرعة الدولية والعربية لحقوق الإنسان المتمثلة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عام 2004، باعتبارها المرجعية الدولية والإقليمية المفترضة لضمان حرية التعبير بصورها وأشكالها المختلفة.

التشريعات المحلية مقابل  التشريعات الدولية والإقليمية:

تنص المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن "لكل شخص حق التمتع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود".

وتنص الفقرة الثانية من المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على أن " لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها".

وتنص الفقرة (3) من المادة (15) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على تعهد " الدول الأطراف في هذا العهد باحترام الحرية التي لا غنى عنها للبحث العلمي والنشاط الإبداعي"

وتنص المادة (32) من الميثاق العربي لحقوق الإنسان على ضمان "الحق في الإعلام وحرية الرأي والتعبير وكذلك الحق في استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود الجغرافية". وعلى أن" تمارس هذه الحقوق والحريات في إطار المقومات الأساسية للمجتمع ولا تخضع إلا للقيود التي يفرضها احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم أو حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة".

عُمان، التي لم تنضم إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، انضمت إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في التاسع من يونيو 2020.  كما انضمت إلى الميثاق العربي لحقوق الإنسان في مارس 2023. عدم الانضمام إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي بدت مادته الـ(19) أكثر دقة وتحديداً في الإشارة إلى (حرية التعبير) وإلى الحق في تلقيها ونشرها عبر الوسائل المختلفة، وانضمامها إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي بدت المادة الـ (15) فيه أكثر عمومية في دعوتها الدول الأطراف إلى احترام (الحرية التي لا غنى عنها للبحث العلمي والنشاط الإبداعي)، وإلى الميثاق العربي لحقوق الإنسان، حيث ممارسة الحقوق والحريات تأتي في "إطار المقومات الأساسية للمجتمع، والأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة".

وإذا ما علمنا أن السلطات الحاكمة العربية وحدها من يحتكر تعريف الأمن الوطني والنظام العام الخ، ووحدها من يمتلك حق تفسير حدود الالتزام وحدود التجاوز، نعلم أن الميثاق العربي لحقوق الإنسان جاء محاولة من الدول العربية للالتفاف على التزاماتها بالمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان.

عدم انضمام عُمان إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والانضمام، في المقابل،  إلى  العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلى الميثاق العربي لحقوق الإنسان، يحمل ما يمكن وصفه بانتقائية الدولة فيما  ترغب في الالتزام به وما لا ترغب، أي أن ثمة قصدية في عدم الالتزام، ويبدو أن حرية التعبير والنشر من بين المسائل التي لا تبدو للدولة النية  في الالتزام بها، أو في أن يكون لها، على الأقل، الخيار في الالتزام بها من عدمه؛ ومتى وكيف؟  لكن ذلك لا يعفي الدولة، على أية حال، من احترام وكفالة حرية التعبير كقيمة وحق أصيل من حقوق الإنسان والمواطنة.

وإذا ما اعتبرنا حرية التعبير بالكتابة وأشكال الفنون الأخرى ضرب من ضروب النشاط الإبداعي الذي نصّت على احترامه المادة (15) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن عُمان تصبح ملزمة باحترام حرية التعبير، بصرف النظر عن عمومية هذه المادة ومروحة التفاسير التي تتيحها جملة "ضروب النشاط الإبداعي" خصوصا وأن المادة الـ (93) من النظام الأساسي تلزمها بذلك، إذْ تنص على أن "لا تكون للمعاهدات والاتفاقيات الدولية قوة القانون إلا بعد التصديق عليها، ولا يجوز في أي حال أن تتضمن المعاهدة أو الاتفاقية شروطا سرية تناقض شروطها المعلنة"

النظام الأساسي وقانون المطبوعات والنشر: الأصل يحيل إلى الفرع:

يُعرّف الدستور بأنه القانون الأسمى أو الأعلى، والأساس لأي نشاط تقوم به الدولة، وهو بالتالي الأصل الذي تتفرع منه القوانين والتشريعات المُنظّمة لمختلف أشكال العلاقة بين الأطراف المكونة للدولة؛ المواطن ومؤسسات السلطة المختلفة، كما بين مؤسسات السلطة والمجتمع المدني. بهذا المعنى؛ يكون الدستور هو المرجعية التي تُحيل إليها القوانين والتشريعات الأخرى داخل الدولة، وفقا للعبارة المعروفة "بما لا يتعارض ومواد الدستور".

في حالة عُمان، ولأن النظام الأساسي صدر بعد قيام الدولة الحديثة عام 1970 بستة وعشرين عاما، فكان لابد أن تسبق القوانين والتشريعات الفرعية الدستور، وأن يحيل اللاحق إلى السابق، كما هو الحال مع قانون المطبوعات والنشر الذي صدر قبل النظام الأساسي باثنتي عشر عاماً.

تُحيل المادتان (29) و (31) من الفصل الثالث من النظام الأساسي (الملغى) على أن "حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون"، و "حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة وفقا للشروط والأوضىاع التي يبينها القانون. ويُحظر ما يؤدي إلى الفتنة أو يمس بأمن الدولة أو يسئ إلى كرامة الإنسان وحقوقه". وفي النظام الأساسي الجديد (2021) لا يختلف، لا النص ولا الإحالة، حيث جاءت المادة (35) من الباب الرابع حرفيا بذات الصيغة التي جاءت بها المادة (29) من النظام الأساسي المُلغى، لكن الاختلاف الوحيد هو في الفارق الزمني بين النظامين اللذين أحالا حدود حرية التعبير على قانون المطبوعات والنشر، فقد اتسع الفارق الزمني بين القانون الصادر عام 1984 والنظام الصادر عام 2021، من اثنتي عشر عاما إلى سبعة وثلاثين عاماً.

يحمل الفارق الزمني بين دستور صدر عام 2021 وقانون فرعي صدر عام 1984 دلالات التحولات التي طرأت على المجتمع العماني ونخبه، صحافييه وكتّابه، بالقدر ذاته الذي طرأ على مؤسسات الدولة وأجهزتها البيروقراطية المختلفة. ففي حين كانت وسائط تلقي المعلومة ونشرها في سبعينيات وثمانييات وحتى منتصف تسعينيات القرن العشرين محتكرة من قبل الدولة عبر صحافتها وإعلامها، باتت منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي مفتوحة على وسائط متعددة، بما في ذلك حرية التقاط البث الفضائي الخارجي، ثم حرية الحصول على المعلومات عبر شبكة الانترنت، وهي جميعها خارج سيطرة الدولة ورقابتها المباشرة.

وبالعودة إلى القانون الذي يحيل إليه الدستور، وهو قانون المطبوعات والنشر الذي صدر عام 1984 بموجب المرسوم السلطاني رقم 49/84، وهو القانون الثاني منذ تأسس الدولة الحديثة عام 1970، بعد قانون المطبوعات الذي صدر عام 1975، لا نجد في مجمل الكلمات والعبارات التي يطبق بموجبها قانون المطبوعات والنشر هذا، وفقا لمادته الثالثة، عبارة واحدة تشير إلى حرية التعبير أو حرية النشر أو حرية الصحافة. أي أن مبدأ "الحرية" كان غائباً  أصلاً في القانون. والفصل الرابع من قانون المطبوعات والنشر هذا، الذي حمل عنوان (في المسائل المحظور نشرها) تضمن ثلاثة عشر مادة، أحد عشر منها تبدأ بجملة (لا يجوز)، والمادتان الأخيرتان نصتا على العقوبات لمن يخالف المواد السابقة.

على هذا النحو، يتبدى أن القانون صدر، لا من أجل خلق بيئة تشريعية تكفُل الحقوق والواجبات فيما يتعلق وقضايا النشر وحرية التعبير، إنما من أجل وضع قيود تحد، منذ البداية، من هذه الحرية.  رغم ذلك، فإن قضايا النشر والتعبير في عُمان لا تحكمها فقط مواد النظام الأساسي وقانون المطبوعات والنشر إنما يضاف إليها حزمة غير محددة من "التعميمات والبيانات التي تصدرها وزارة الإعلام والمؤسسات الإعلامية نفسها بين الحين والآخر"، والتي تضع الكثير من القيود على عملية النشر.

ولأن النظام الأساسي (الدستور) صدر بعد ظهور مؤسسات الدولة الحديثة، بما فيها مؤسسات الإعلام والصحافة والتعليم، وبعد ظهور تجارب في النشر الأدبي وسواها من أشكال التعبير، بدى النظام الأساسي هامشياً في السجالات المتعلقة بقضايا حرية التعبير في عُمان، والدعوات إلى تخفيف القيود المفروضة عليها، وجعل من قانون المطبوعات والنشر هو مركز هذه السجالات والمطالب، وقد تجلى ذلك في النقاش الذي تبناه مجلس الشورى في عُمان في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حيث شُكلت لجنة لمناقشة أفكار ومقترحات بتعديل قانون المطبوعات والنشر، بما في ذلك إلغاء القانون وإحالة قضايا حرية التعبير والنشر والرقابة على الكتب إلى السلطة القضائية من دون أي تدخل من السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة الاعلام.  وفي العام 2012 تقدم عدد من المهتمين بحرية التعبير والنشر بعريضة مكتوبة إلى مجلس الشورى تدعو إلى تغيير بعض القوانين من بينها قانون المطبوعات والنشر، على اعتبار أنها تتعارض مع النظام الأساسي للدولة، لكن مجلس الشورى لم يتمكن من الضغط على الحكومة لإلغاء أو تعديل قانون المطبوعات والنشر بما يحقق مطالب الداعيين إلى ذلك، وبما يواكب التحولات التي شهدها المجتمع العماني، ولا سيما الأجيال المتتالية من الكتّاب والصحافيين الذين يتطلعون إلى المزيد من الحريات، بل أن الحكومة، في المقابل، شددت من القيود المفروضة عندما أجرى وزير الاعلام تعديلات على قانون المطبوعات والنشر، فرضت قيوداً على النشر الإلكتروني بحيث بات، وفقاً لهذا التعديل، على "وكالات الأنباء الإليكترونية، والصحف الإلكترونية، ومهنة الصحاف الإليكترونية، والعاملين كمراسلين لوكالة الأنباء الإلكترونية" الحصول على ترخيص مسبق من الوزارة.

الخاتمة:

لا تزال البيئة التشريعية المتعلقة بحرية التعبير والنشر في عُمان متأخرة أو غير مواكبة للتغييرات التي شهدها المجتمع والانفتاح على ثقافات ولغات العالم المختلفة، وانعكاس ذلك على الأجيال الجديدة من العمانيين ورؤيتها للحرية ومفاهيم حقوق الإنسان باعتبارها حقوقا أصيلة وأساسية لا بد من التمتع بها وممارستها، وهو ما عبرت عنه، بصورة جلية، الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها مناطق مختلفة من البلاد مطلع العام 2011 وضمن موجة احتجاجات الربيع العربي، فقد كانت المطالب المتعلقة بالإصلاح السياسي وحرية الصحافة والتعبير جنباً إلى جنب مع مطالب الإصلاح الاقتصادي وتحسين الأوضاع المعيشية.

ومع عدم إلغاء أو إجراء تغييرات في قانون المطبوعات والنشر تخفف من القيود المفروضة على حرية التعبير، ومع بقاء الرقابة المسبقة على الكتب، وانتشار ثقافة الرقابة الذاتية بين الصحافيين العاملين في مؤسسات الصحافة والإعلام المحلية، ستبقى الدعوات والمطالب بإلغاء أو تعديل القانون وبأن تكون مؤسسة القضاء هي الفيصل في قضايا حرية التعبير قائمة، بالقدر ذاته الذي ستواصل فيه مجموعة من الكتّاب العمانيين رفع سقف حرية التعبير عبر النشر في الخارج والانتشار في الداخل، مهما حاولت وزارة الاعلام منع إصدارتهم من التوزيع في الداخل كما حصل في الدورة الـ 23 لمعرض مسقط الدولي للكتاب (2018) حيث مُنعت من التداول كتب لنحو خمسة عشر كاتباً عُمانياً.