الصحف تخصص ما بين ثلث ونصف عدد صفحات نسختها الورقية للأخبار المحلية وغالباً ما يقول الناس إن الصحف تتشابه
خمس اوراق عمل تم تقديمها في المنتدى الفكري السنوي العاشر – دورة احمد الشملان الذي ينظمة المنبر التقدمي ، ثالث تلك الاوراق كان للصحفي البحريني غسان الشهابي وبعنوان " " وفيما يلي ملخص الورقة .
تتحدث المداخلة في محورين مهمين، المحور الأول: طغيان أخبار العلاقات العامة الرسمية على الفعل الصحافي الذاهب إلى وضع الإصبع على الجروح، والسلبيات، والخروقات، وبطبيعة الحال الإشارة أيضاً إلى الإيجابيات والإنجازات، ولكن في السنوات القليلة الأخيرة هناك ملاحظة أعادت مقولة تشابه الصحف إلى الواجهة، لقلة، بل ندرة الأخبار الخاصة التي تميز صحيفة عن أخرى، بما فيها "الخبطات الصحافية" و"السبق الصحافي" والتنافس فيما بين الصحف من أجل تثبيت حق الجمهور في المعرفة.
وتعود أسباب هذا التراجع الكبير إلى الكثير من العوامل من أهمها تراجع أهمية الصحف في شكلها الكلاسيكي، ما أدى إلى انخفاض مبيعاتها من الإعلانات والاشتراكات، بعدما رفعت الحكومة يدها عن العاملين الماليين الداعمين -بشكل غير مباشر- للصحف المحلية، فلا ننسى انفلات عبارات من أحد المسؤولين في وزارة شؤون الإعلام في العام 2006 عندما اجتمع برؤساء تحرير الصحف المحلية قائلاً إن لدى الحكومة حوالي تسعة ملايين دينار سنوياً من الإعلانات التي ننشرها في الصحف، ملمحاً إلى أن النصيب الأكبر منها سيكون للصحف التي تسير بما يرضي المعلن.
وقد أدى هذا التصريح لاستياء عدد من رؤساء التحرير الذي رأوا في الموضوع مكافأة للصحف غير الناقدة، وسعياً لتدجين الصحف الأخرى التي يمكن وصفها بالمشاغبة، أو -في الحقيقة- الصحف التي تؤدي دورها النقدي بشكل عام.
أدى هذا التراجع - عاماً بعد عام - إلى إعادة المؤسسات الصحافية هيكلة طواقمها مرة بعد المرة، الأمر الذي وصل في بعض الأحيان إلى الجراحات العميقة التي أدت إلى الاستغناء عن عدد متفاوت من صحافييها، على مختلف سنوات الخبرات، أخذاً بمقولة: "تم التضحية بالجنين والأم، ليسلم الطبيب"، حيث أن إفراغ الصحف من عدد مهم من صحافييها، وخصوصاً من ذوي الخبرات الجيدة، واستبدالها بطلبة الإعلام في الجامعة، وصحافيي الدوام الجزئي، يؤدي إلى ضمور العمل الصحافي، ويصاب بالأنيميا الحادة التي ستؤدي – في نهاية المطاف، طال أم قصر – إلى وفاة ما كنا نحاول إنقاذه بقطع الموارد عنه... الأمر شبيه تماماً بما تُنتقد به المؤسسات في الوطن العربي خصوصاً، إذ عندما تهبط أرباحها تلجأ أولاً إلى وقف موازنة التدريب لتقليص النفقات، بينما تكون هي في تلك الفترات أحوج ما تكون إلى إعادة تدريب وتأهيل طواقمها للخروج من عنق الزجاجة، وربما من عنق الرحم (إن شئنا الاستمرار في ضرب المثل السابق)، لولادة جديدة للصحافة بشكل عام.
وليس المقصود هنا بالصحافة هو الشكل الورقي للصحيفة، فهذا لا يعدو كونه حاملاً، أو وسيلة، ولكن بما أن الوسائل قد تغيرت، ومن دون مكابرة قد تجاوزت الاسترخاء، إذ لم يعد أكثر الرومانسيين اليوم الحديث عن قراءة صحيفة الصباح مع فنجان القهوة، إذ تتم القراءة الآن – إن بقي وقت للقراءة – على الهواتف الذكية أثناء قيادة السيارة، ويرى المنتمون إلى الصحف الورقية إلى رفوف الصحف والمجلات بحسرة، إذ تقلصت في أي مكان يذهبون له، واستُثمرت المساحات - التي كانت تعج بالمطبوعات قبل عقدين من الزمان – لصفّ أنواع المخبوزات، فإن الصحف قد تتراجع وتتعثر، ولكن الصحافة ستبقى المسيّر للعمل الإعلامي العام، ومن دون العمل الجاد في هذا الجانب على، فإن "حق الجمهور في المعرفة"، وهو حقّ أصيل تقوم عليه الصحافة، سيكون معرّض للاهتزاز والتشويه.
في مسح أولي قام به صاحب الورقة على الصحف العربية اليومية الأربع التي تصدر في مملكة البحرين، في الفترة من 14 – 20 يناير 2024، وجد أن الصحف تخصص ما بين ثلث ونصف عدد صفحات نسختها الورقية للأخبار المحلية، ما بين نشاط الحكومة، والمجتمع المدني، والمحاكم، المجلس التشريعي، والحراك الاجتماعي العام. وغالباً ما يقول الناس إن الصحف تتشابه، وأن لا فرق بينها، خصوصاً من ناحية الأخبار، وأن الأخبار الرسمية الآتية من وكالة أنباء البحرين، ومن أجهزة العلاقات العامة الحكومية والخاصة تجد طريقها بسهولة، ومن دون أي تحرير أو تغيير في الكثير من الأحيان، ولذلك تكون الصحف نسخاً عن بعضها البعض، لأن باقي الصحيفة عبارة عن أخبار اقتصادية أو رياضية أو فنية، فيها بعض الاختلافات، أما الأخبار العالمية فليس لأحد مراسلوه الخاصون، وما عادت الصحف هي المصادر المعلوماتية الأهم التي يتلقفها المتلقي في ظل كل هذه التطورات الاتصالية.
وبدلاً من الملاحظ العامة، عمد إلى التتبع الدقيق للأخبار المنشورة في الصفحات المحلية التي تهم القارئ المحلي بالدرجة الأولى، وتبين الحراك المجتمعي، وتشير إلى مواطن القوة والضعف في الأداء الرسمي والأهلي، وتشير إلى الظواهر المستجدة، وتنبئ بها، فوجد أن 75% من الأخبار المنشورة في الصحف المحلية آت من وكالة أنباء البحرين، ومن دوائر وأقسام العلاقات العامة والإعلام في الأجهزة الرسمية، والمؤسسات الأهلية، مع بعض التفاوت، أما رُبع الأخبار الباقية في هذه الصفحات - التي بلغ عددها خلال أسبوع 220 صفحة – فكان لأخبار محلية، جلها متابعات لجلسات مجلسي الشورى والنواب، والمجالس البلدية، وقضايا المحاكم.
لذا، باتت الصحف المحلية تعكس وجهة النظر الرسمية، وهذا ليس بالأمر السيء ولا المستهجن، فالجانب الرسمي أيضاً هو جزء من الحراك الداخلي في البلاد، ولكن طغيان الجانب الرسمي، والتزام الصحف بالنشر الموسّع هكذا للأخبار الرسمية هو موضع التساؤل الكبير لإدارات الصحف وملّاكها. فمادامت الحكومة في مرحلة "شدّ الحزام" ببرنامج "التوازن المالي"، فمنعت إعلانات التهاني بالأعياد الدينية والوطنية، التي كانت مناسبات ترتوي فيها حقول المؤسسات الصحافية، وتسدّ من خلالها الكثير من الخلل المالي فيها، وكذلك الإعلانات الأصغر حجماً التي كانت تنتشر في الصحف المحلية، وما دامت الحكومة أوقفت الاشتراكات في الصحف، فلم تعد الصحف تصل إلا إلى رأس المؤسسة، وليست إلى مكاتب المديرين والوكلاء المساعدين والوكلاء، ولا تلك الكميات التي كانت تذهب إلى وزارة الخارجية لتوزع في السفارات، ولا غيرها من الموارد المتغيرة، وبما أن الحكومة لا تساعد الصحافة (حسب علم كاتب الورقة) بأي نوع من المساعدات على اعتبار أن المؤسسات الصحافية لا تعدو كونها مؤسسات تجارية في نهاية المطاف، يسري عليها ما يسري على المؤسسات الأخرى من الربح والخسارة، والإفلاس والتصفية، وبالتالي فإنها (الحكومة) ليست ملزمة بمدّ يد الإنقاذ لهذه الصحف حين تتعثر، وقد حدث أن أغلقت صحيفتان يوميتان لم تتما عامهما العاشر، وصحف أسبوعية ومجلات، وذلك للعامل المالي المنهار؛ فإن السؤال: لماذا هذا الحرص على نشر الأخبار الرسمية بهذا النوع من المغالاة في مد الأخبار، مع كميات كبيرة من الصور على مساحات من الجانب المحلي ما دامت هذه المؤسسات لا تستفيد شيئاً من الجانب الرسمي؟!
بخلاف بعض الجهات الرسمية التي تفضل البقاء في الظل أطول فترة ممكنة حتى لا تصرح بما قد يؤخذ عليها من قبل الجمهور؛ فإن غالبية الأجهزة الرسمية ترغب في عرض أخبارها وحراكها على الجمهور، وربما الأهم من الجمهور هي الجهات العليا التي تحسب لها ما قامت به، وما أنجزته في هذه الفترة، ومن شأن الجهات الرسمية أن تستعرض بأشكال مبالغ فيها – في بعض الأحيان – هذه الخطوات مع كمية كبيرة من الصور، وحتى تتجنب إدارات التحرير هواتف اليوم التالي المعاتبة بعدم نشر جميع الصور، أو نشرها بحجم أقل، أو تأخير موقع الخبر إلى صفحات تالية، فإنها تحل محل هذه الجهات بالنشر (في الغالب) بما يسد الصفحات لأخبار وكميات كبيرة من الصور التي – في الغالب أيضاً – لا تضيف قيمة للخبر.
كل هذه العوامل أسهمت في تراجع الأهمية التي تكتسبها الصحف المحلية في مملكة البحرين، وتنبئ عن تخليها عن دورها الريادي والتنويري والقيادي في الكشف عن مواطن الخلل في المجتمع، ومراقبة جميع السلطات لتنبئها عن الإشكالات، وتراقب وهندستها للحلول، حتى يغدو مجتمع اليوم أفضل مما كان عليه بالأمس، ويرتقب أن يكون غده أكثر إشراقاً، لا بفعل ما تقوله السلطات، ولكن بما تفعله حقيقة، وعينها على الصحافة، لأن عين الصحافة عليها.