DELMON POST LOGO

الانتخابات وسنوات أربع"عجاف"

بقلم: محمود القصاب

في مقالة سابقة ومن على هذه المنصة الاعلامية قلنا: ((أنه لا قيمة لأي عملية انتخابية ما لم تكن قادرة على إحداث تغيير جوهري في المشهد السياسي القائم، والوضع الوطني العام، وما لم يطال هذه التغيير عدد من النظم والقوانين والتشريعات التي يجب أن تواكب المتغيرات والتحولات السياسية والاجتماعية، وتتجاوب مع تطلعات الناس ومع طموحاتهم وهمومهم، خاصة تلك المتعلقة بحقوقهم السياسية والاجتماعية والمعاشية)).
فالقراءة الموضوعية للواقع السياسي والاجتماعي الراهن تقول لنا بأن أولويات المواطن البحريني سوف تكون مختلفة في هذه الدورة، حيث سيتقدم الهم المعيشي على الهم السياسي والانتخابي بسبب الظروف الاقتصادية والمعاشية الصعبة التي باتت تحاصر هذا المواطن وتشل قدراته وتصادر خياراته؟؟ وإن الحماسة لكل ما له صلة بالسياسة لم تعد كما كانت، بل هي تتراجع في واقع الحال خاصة مع استحضار تجارب الدورات الانتخابية الخمس السابقة والقيام بجرد بسيط للحصاد المر الذي ضاعف من شعور المواطنين بالخذلان وفقدان الثقة والأمل، وعمق صعوبة وقسوة الأوضاع السياسية والاقتصادية والمعاشية.
إن الاستنتاج المنطقي لهذه القراءة هو أن البلد بحاجة إلى نقلة سياسية من خارج الصندوق كما يقال؟ السؤال هو: هل توجد إرادة سياسية حقيقية لمثل هذه النقلة؟؟ إن مقياس وصوابية أي عملية انتخابية هو تميزها بعدد من السمات من قبيل زيادة نسبة المشاركة وتمتعها بالنزاهة والحيادية والتعددية وعدم إقصاء أو إبعاد إي طرف سياسي أو مكون اجتماعي تحت أي ذريعة عندها فقط يمكن اعتبار هذه الانتخابات محطة للتغيير أو رافعة يمكن أن تسهم في نقل البلد إلى مستقبل أفضل بدون أثقال الماضي وأعباء الحاضر، فالعمل السياسي لابد له أن يتطور من حيث الأداء والوسائل والأهداف، ولابد من خطوات إيجابية نتجاوز معها حالة الجمود والتراجع التي صار فيها الوضع السياسي والاجتماعي منذ أحداث 2011 ولغاية اليوم، ولابد من ضخ أفكار جديدة تلائم الزمن المتجدد والمتغيرات الحاصلة في وعي وأمزجة وقناعات الناس؟؟ صحيح أننا نفتقر إلى وجود مؤسسات متخصصة في قياس توجهات الرأي العام، نستطيع من خلالها معرفة حقيقة هذه التوجهات نحو الاستحقاق الانتخابي والعمل السياسي برمته، وبالتالي لا تعرف بشكل دقيق درجة إقدام أو عزوف المواطن عن المشاركة، ولكن الصحيح أيضاً أننا نستطيع رصد مواقف وردود أفعال الناس من خلال ما تعج به وسائل التواصل الاجتماعي وبعض المنتديات الثقافية والمنصات الاعلامية من تدمر واحباط كدليل على مدى شكوك المواطن وغياب ثقته في هذه الانتخابات وما يمكن أن ينتج عنها سواء من حيث طبيعة وشكل "البرلمان" أو من حيث درجة وعي وكفاءة النواب؟؟ وليس خافياً إن أي انتخابات إذا ما جرت في ذات البيئة السياسية الجامدة التي ترفض الاستجابة لضغوط المتغيرات، فإنها سوف تعمل على إنتاج الصورة نفسها كما لا يخفى بأن العمل السياسي في البلاد ومنذ أحداث 2011 وتداعياتها المؤلمة -  قد أدخل غرفة العناية المركزة، وإن إنعاش هذا الوضع وتبديد الأجواء السلبية فيه يحتاج إلى جرعات سياسية نوعية وإجراءات استثنائية تعيد الأمل والثقة للمواطن وتستجيب في ذات الوقت لجملة من التحديات التي يواجهها البلد على المستوى الداخلي والخارجي؟؟.
فالناس سوف يذهبون طواعية إلى صناديق الاقتراع متى ما شعروا وتأكدوا من أن تغييراً حقيقياً وإصلاحاً إيجابياً ينتظرهم على المستوى السياسي والاقتصادي والمعاشي؟؟ وإن هناك فرصة تلوح في الآفق تحمل بشائر تحسن أوضاعهم الراهنة ورسم صورة أفضل لمستقبلهم ومستقبل أبناؤهم في حياة حرة وعيش كريم، حتى وأن حصل هذا الأمر بصورة متدرجة؟؟ وهذا يمكن أن يحصل فقط عندما تكون العملية الانتخابية جزء من مسار ديمقراطي حقيقي يخرج البلد من حالة التأزم السياسي والاحتقان الاجتماعي إلى رحاب وضع سياسي مستقر وسكينة مجتمعية هادئة، فقيمة أي انتخابات تكمن في مدى استجابتها لمصلحة البلد والمواطنين كافة؟؟ وبعكس ذلك تتحول هذه العملية إلى "مشكلة" أو "معضلة" بذاتها حيث تبرز الخلافات والتناقصات الحادة بين "متحمسين" ينادون بالمشاركة و "يائسين" يدعون إلى للمقاطعة فالانتخابات في نهاية المطاف وسيلة وليست غاية بحد ذاتها، كما أنها ألية من أليات الديمقراطية وليست الوحيدة بالتأكيد -  لذلك ليس من الحصافة السياسية اختزال الديمقراطية في صناديق الاقتراع وتجاهل تلك القيم التي تعتبر الأساس في بناء وترسيخ الديمقراطية مثل قيم حقوق الإنسان كافة، والإيمان بالتعددية والمشاركة السياسية للمواطنين وعدم حرمانهم من هذه الحقوق تحت طائلة قوانين "العزل" أو غيرها، وكذلك اعتبار الشعب مصدر السلطات وتعزيز قيم الحرية والعدل والمساواة، فالديمقراطية هي طريق للعدالة ووسيلة للإصلاح ورفع الظلم عن الناس؟؟.
من هنا فإن المقاربة الصحيحة للعملية الانتخابية ومحاولة الوقوف على أسباب قصورها وضعف نتائجها تشترط الذهاب أو التوجه مباشرة إلى أصل "المشكلة" الكامن في موقف الدولة وسياستها من التحكم وهندسة بدايات ومخرجات هذا الاستحقاق وفي طريقة التعاطي مع الأهداف المرسومة سلفاً للداخل والخارج؟؟
ما نريد أن نقوله بشكل واضح هنا: إن هذه الانتخابات رغم كل ما يرافقها من صخب سياسي، وضجيج إعلامي ومحاولات إضفاء مسحة من الديمقراطية عليها، فإنها في واقع الحال لا تخرج عن كونها "حالة" أو واقعة" سياسية مقطوعة الأسس والجذور، أو هي مجرد وهج سياسي مؤقت سرعان ما تنطفئ وتخفت أنواره بمجرد أن ينفض "السامر" ويغادر المدعون الساحة قبل أن تعود مرة أخرى نفس البهرجة والأضواء بعد أربع سنوات "عجاف" حصادها يقل كثيراً عن طموح وتوقعات الناس؟؟ وبلغة أكثر وضوحاً إن هذه الانتخابات ليست جزء من مسار ديمقراطي يتطور ويتراكم بمرور الوقت، ويراكم معه التجارب والخبرات والانجازات، والوعي السياسي والديمقراطي، ولعل هذا ما يفسر لنا استمرار التجاذب والانقسام المجتمعي مع حلول كل دورة انتخابية، خاصة عندما يلمس المواطن بشكل واضح عجز "البرلمان" عن النهوض بالسياسات الوطنية للبلد وإخفاقه في تحقيق أبسط طموحات الناخبين في المجالات التشريعية والسياسية والاقتصادية؟؟ فالبلد الغارق في الأزمات سوف يجد دائماً صعوبات ومعوقات تعترض طريق نهوضه وتقدمه مهما خلصت النوايا؟؟.
مسألة جوهرية ومهمة نريد أن نؤكد عليها قبل أن ننهي هذه المقالة هي أنه ليس هناك من يرفض الانتخابات أو المشاركة فيها من حيث المبدأ أياً كانت هذه الانتخابات برلمانية أو بلدية لأنها وبكل بساطة هي من بديهيات السياسة في الدول التي تختار حقاً المشاركة الديمقراطية أسلوباً والتعددية منهجاً كما أن الديمقراطية وأدواتها ومتطلباتها هي اليوم من لوازم التفاعل مع قيم العصر، سواء في مجال الحداثة والتقدم أو في مجال حرية الرأي والفكر والمعتقد، ناهيك عن قيم المواطنة المتساوية إضافة إلى حق المواطن في الأمن والاستقرار والعيش الكريم...
إن هذه المنظومة من القيم ليس بمقدور أحد أن يرفضها أو يقف ضدها، لكل ذلك نحن مع أي عملية انتخابية تتم وفق الأليات الديمقراطية المعروفة والموصلة إلى هذه القيم، والمتمثلة كذلك في وجود هيئة أو لجنة مستقلة تشرف على هذه الانتخابات بكل نزاهة وحيادية وبما يعكس مصداقية وإرادة الدولة في الوقوف على مساحة واحدة من كل المرشحين وتجنب أن تكون طرفاً داعماً لهذا المرشح أو ذاك؟؟ وبالتالي تجنب خرق أو تجاوز مبدأ العدالة وما يعنيه من تقسيم للمجتمع؟؟ كذلك ضرورة وجود نظام انتخابي عادل يسمح بمشاركة كل القوى السياسية بما فيها قوى المعارضة الوطنية ، وتمكينها من عرض تصوراتها وبرامجها، حتى يمكن الوثوق بأن هذه الانتخابات ونتائجها سوف تعكس بحق موازين القوى على الساحة الداخلية، وأن الطريق ممهد لأن تأخذ النتائج دورها ومفاعيلها في عموم الوضع السياسي والاجتماعي في البلد من بين ذلك على سبيل المثال لا الحصر إفساح المجال أمام كل الكفاءات الوطنية لأخذ دورها والمساهمة في تقدم بلدها، وكما هو معروف فإن من أشد المظالم التي يمكن أن تدمر أي مجتمع أو وطن هي عزل أو تهميش تلك الكفاءات دون وجه حق، فالبلد زاخر بالكفاءات الوطنية التي يجب إتاحة الفرصة لها لخدمة بلدها والنهوض به.
لذلك كله نحن مع الانتخابات والمشاركة فيها إذا ما جرت وفق هذه السياقات والقناعات أما ما نتحفظ عليه ونعارضه هو تلك النواقص أو الشوائب التي عادة ما تصاحب بعض الانتخابات وتعكس فقر التجربة وقلة الوعي بالعملية الانتخابية وبأهدافها الحقيقية، خاصة عندما يغلب عليها طابع الفساد الانتخابي وشراء الأصوات واعتماد نظام انتخابي غير عادل إضافة إلى التوزيع غير العادل وغير المنصف للدوائر الانتخابية الذي قد يحدث لأسباب ودوافع سياسية وغيرها من الظواهر التي تسئ إلى العملية الانتخابية وهنا يأتي دور ومسؤولية المواطن الناخب الذي من حقه أن يقرر ما إذا كانت هذه الانتخابات تمثل له أولوية تستحق الذهاب والتصويت أم التحفظ والامتناع حتى لا يجد نفسه في وضع يتحمل فيه بعض أسباب الفشل والاخفاق، خاصة عندما يكون مضطراً لإعادة انتخاب من خذلوه وجنوا ثمرة جهده وتعبه وشاركوا في إرهاق كاهله بالعديد من القرارات المجحفة التي طالت حياته المعيشية، وتجاوزت على ثوابته الوطنية والقومية بدعم سياسات التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل؟؟ بينما هم ينعمون بامتيازاتهم وقد استطابوا لذة المال والجاه، ويكون حال هذا الناخب كمن يفقأ عينه بيده؟؟.
كلمة أخيرة نقولها: هي أن هذه الانتخابات سوف تتم دون أدنى شك وأن الواقعية السياسية تفرض علينا إدراك هذه الحقيقة ويجب أن يكون من حق المواطن المشاركة أو المقاطعة وفق الدستور والقانون وبدون أية وصاية من أحد على إرادة الناس؟؟.
ومن الآن وإلى حين معرفة ما سوف تبوح به صناديق الاقتراع سوف يتأكد لنا الدور الهام والمفصلي لقناعات الناس و للمزاج الشعبي العام في تحديد مسار هذه الانتخابات ونتائجها النهائية، وعند ذاك سوف تكون لنا وقفة أخرى؟؟.