DELMON POST LOGO

أولويات ما بعد الانتخابات

بقلم: محمود القصاب
أكثر من شهرين مرت على الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر من العام الماضي (2022)، وقتها وأثناء احتدام التنافس بين المرشحين رأينا كيف كان البعض منهم يتهافت وكأنه يبحث عن وظيفة أو مصدر رزق لا عن تمثيل الناس في سلطة يفترض أنها تشريعية ورقابية كما شاهدنا البعض الأخر وهو يقدم نفسه وبرنامجه الانتخابي المزعوم بشكل يفتقر إلى الجدية والمسؤولية حيث راح يطلق الوعود يميناً وشمالاً ويصول ويجول فيما يعرفه وما لا يعرفه؟؟ ومع احترامنا لكل هؤلاء وأولئك فنحن هنا لا نتحدث عن جوانب شخصية إنما عن وعي سياسي وإمكانيات وعن ثقافة سياسية مفقودة بل ومعدومة للأسف، كما ثبت بعد ذلك من سير الجلسات والمناقشات والمقترحات الهزيلة التي جادت بها قريحة بعض النواب؟؟ في ذلك الوقت وأثناء اشتداد وطيس الحملات الانتخابية الدعائية قلنا: إن هذه الانتخابات سوف تتم وفق ما هو مخطط ومرسوم لها، وأن كل الأصوات الداعية لمقاطعتها سوف لن يكون لها حظ من النجاح لعدم واقعيتها، ولم يكن يراودنا أدنى شك في ذلك، رغم ما كان يقال عنها وما فيها من "عيوب قانونية" أو "مثالب دستورية"، وكنا ننطلق في قناعاتنا تلك من نظرة سياسية واقعية ومن فهمنا للمعادلة السياسية القائمة ولموازين القوى التي تحكم المشهد السياسي في البلاد، فالخلل في التوازن الوطني حاصل، والجمود السياسي الذي خلفه واضح، وكل ذلك لم يكن عائقاً أمام مضي هذه العملية الانتخابية المحكومة بمشيئة وإرادة الدولة وأولوياتها في دعم وإيصال بعض المرشحين المرغوب في وجودهم في المجلس النيابي؟؟ معززاً بالغياب الكامل للقوى السياسية التي لم يكن لها أي دور أو تأثير في مسار الانتخابات، سواء كانت هذه القوى محسوبة على "المعارضة" أو " الموالاه" بفضل "قانون العزل السياسي الرسمي" الذي "حرم" الأولى و"قانون العزل الشعبي" الذي "عاقب" الثانية؟؟
وقتذاك قلنا أيضاً: أنه علينا الانتظار حتى تخرج صناديق الاقتراع ما في جوفها من "نتائج" و"رسائل" وعندها سوف نتعرف على المزاج الشعبي العام وعلى الموقف الحقيقي من هذه العملية والمسار الذي سوف تتخذه وتنتهي إليه بعيداً عن إي إملاء أو وصاية على قرار ورغبة المواطن بالمشاركة أو المقاطعة أياً كان مصدر أو شكل هذه الوصاية؟؟ دون إغفال أو تجاهل الحضور القوي للجهات الرسمية كما أوضحنا قبل قليل، كونها هي الطرف أو الجهة الماسكة بكل "خيوط اللعبة الانتخابية" من خلال ما تملكه من "قدرات" و"أدوات" لتوجيه "المزاج العام" أو الانحراف به بعيداً عن الوجهة الحقيقية له وليس خافياً هنا دور النظام الانتخابي أو آلية توزيع الدوائر الانتخابية، ناهيك عن دور المراكز العامة والمدد القادم منها؟؟ وصولاً إلى التحكم الكامل بكل "مقدمات" و "مخرجات" العملية الانتخابية.
أما اليوم وقد انقشع غبار "معركة" الانتخابات وتوقف ذلك الصخب السياسي والضجيج الاعلامي اللذين رفقا هذه العملية وبعد أن جرى استكمال المنظومة السياسية والدستورية بتعيين أعضاء مجلس الشورى وتشكيل الحكومة الجديدة وتوالي المؤشرات على ضعف المجلس النيابي الجديد.
فقد حان الوقت لقراءة موضوعية وهادئة لكل مسار الانتخابات والوقوف عند بعض "الرسائل" التي جاءت بها لعلنا نستخلص بعض الدروس التي يمكن أن تخدم حاضرنا ومستقبلنا السياسي والمجتمعي، دون الوقوع في أسر بعض التحليلات غير الواقعية سواء التي رأت فيها تحقق "النجاح المطلق" أو تلك التي لم ترَ غير "الفشل التام" وقبل فحص بعض تلك الرسائل دعونا نشير إلى ثلاث ملاحظات في سياق موضوعنا، الأولى علينا الإقرار أنه من الطبيعي أن تكون هناك قراءات مختلفة ووجهات نظر متباينة حول قضية الانتخابات وحول ما الذي يمكن أن تحدثه من تغيرات في واقعنا السياسي، وما مدى قدرتها على إحداث بعض الاصلاحات المطلوبة، والثانية مطلوب إدراك حقيقة أن أي انتخابات تجرى المفروض أن تفرز مجلساً ذو صلاحيات دستورية وسياسية واضحة لا لبس ولا غموض فيها، وبدونها لا معنى ولا قيمة لهذه العملية أساساً، طالما نحن نتحدث عن انتخابات بإعتبارها مظهراً من مظاهر الديمقراطية وقيمها الشاملة المعروفة، وطالما كنا نتحدث عن بناء دولة مدنية فيها حق المواطنة مكفول بالتساوي للجميع، وحيث سيادة القانون وحرية الرأي والمعتقد؟؟ والملاحظة الثالثة والأخيرة: ينبغي الاعتراف بأننا قد أضعنا فرصاً حقيقية لنهوض وطننا سياسياً و اجتماعياً واقتصادياً، وأجهضنا تطور تجربتنا الديمقراطية الوليدة بالعديد من القوانين والقرارات السالبة للحرية، وبذلك أهدرنا زمناً وجهداً ليس بالقليل، وأن الكثير من الأزمات والتحديات التي نواجهها اليوم كان بالإمكان عدم حصولها، وعدم دفع تكاليفها الباهضة سياسياً واجتماعياً وأمنياً لو تعاملنا مع أوضاعنا السياسية ومستجداتها بشيء من الموضوعية والعقلانية، فكل ما يحصل اليوم هو للأسف نتيجة ذلك التراكم السيئ في الأداء السياسي، وجاءت أحداث فبراير 2011 وتداعياتها السلبية لتعمق هذا الوضع وتزيده سوءاً لا زال للأسف يرسم المسار السياسي حتى وقتنا الراهن وهو المسؤول عن تراجع وضياع الكثير من المكاسب التي تحققت مع بداية انطلاق ميثاق العمل الوطني؟؟.
إن أحد أهم "الرسائل" التي يجب التوقف عندها والتمعن في مضمونها هي أن الواقع السياسي عندنا تشوبه الكثير من "المنغصات" و "الثغرات" التي من المؤكد قد ألقت بظلالها على مجمل العملية الانتخابية، الأمر الذي يستدعي سرعة تبني أفكار ورؤى جديدة نعالج بها هذه الإشكاليات بصورة جدية وإرادة سياسية حقيقية، فذلك هو السبيل الوحيد لإعادة التوازن للحياة السياسية وإصلاح ما يعانيه البلد من خلل سياسي ووهن اقتصادي وتعثر اجتماعي، وتهيئة مستلزمات طي صفحة إجراء الانتخابات بذات النهج المتسم بالجمود والثبات الخالي من أية نزعة للتغيير والتطوير السياسي، والرافض للتعاطي مع الحقائق والمستجدات على أرض الواقع وما يتطلبه من نظرة مرنة ومتوازنة للأمور؟؟.
وسوف لن نكون قادرين على التجاوب مع هذه الرسالة دون فتح مسار جديد يأخذنا إلى حياة سياسية جديدة مختلفة ينتهي معها أكثر من عقد من الإنسداد والشلل السياسي القائم- وهذه أولوية كان يجب أن تتصدر اهتمام وبرنامج الحكومة- وهنا يأتي دور ومسؤولية النواب خاصة من يمتلك منهم رؤية وخبرة سياسية محمولة على تاريخ نضالي ليس موضع شك؟؟ وهي مصدر حماية وحصانة كان يجب أن "تعصمهم" من الوقوع في "الفخ" وتمرير برنامج الحكومة بكل عمومياته مقابل مجرد وعود تفتقر إلى أية ضمانات جدية وأمامنا تجارب خمس دورات انتخابية تؤكد أنها وعود غير قابلة للصرف، وإن إخفاقها أو التنصل منها مسألة قابلة للتكرار؟؟؟ فهموم الناس وأوجاعها خطوط حمراء ما كان ينبغي التهاون فيها؟؟.
ما نقوله هنا لا يعكس رأي الشارع السياسي فقط، إنما يمثل رأي ومطالب الشارع الوطني العام؟.وهذا يأخذنا أو يفتح أمامنا رسالة أخرى تتعلق بقضية الرأي العام الوطني وما يستحقه من اهتمام وضرورة الإنصات إلى مطالبه المشروعة وسماع صوته المشحون بالحرمان من بعض الحقوق، والمثقل بضغوط الحياة المعاشية الصعبة.
المهم هنا كيف نجعل صوت المواطن قريباً من موقع القرار؟؟
فهذا المواطن صار يشكو ويئن من تراجع الكثير من الخدمات الأساسية المتعلقة بجوانب الصحة والتعليم والإسكان، وكذلك من ضعف البنى التحتية معطوفة على ما يرهق كاهله من غلاء في الأسعار وزيادات في الضرائب، والحرمان من أية علاوات أو زيادات تساعده على مواجهة الظروف الصعبة، وفوق هذا وذاك فالبلد "نائم على لغم اجتماعي" خطير لا يجب التغافل عنه وهو البطالة المستفحلة التي لم تفلح كل تصريحات المسؤولين المتضاربة في إخفاء مخاطرها السياسية والاجتماعية والأمنية.
وهذه رسالة هامة أخرى تقول لنا إن كل هذه الأزمات والمعضلات لا سبيل لحلها سوى الاستجابة الفورية والجادة لعلاج أمرين هامين الأول: هو إعادة النظر في طريقة معالجة قضية العمالة الأجنبية وكل القوانين والتشريعات الخاصة بها بما يحقق هدف توطين العمالة وأحقية المواطن في الوظيفة ووقف ما يعانيه من ذل وهوان وهو يبحث عن مصدر رزق له ولعائلته؟؟ والأمر الثاني: فتح ملف التجنيس العشوائي وعلاجه من الجذور بإعتباره أحد "الثقوب السوداء" الذي تتسرب منه ثروات ومقدرات البلد ويهدد وحدته وهويته الوطنية، في الوقت الذي المطلوب من الدولة استغلال مواردها بشكل أفضل والتوقف عن سياسة تبديد الثروات والاقتراض لسد عجز الموازنات فقط، أو تمويل مشاريع غير مدروسة، ناهيك عن الصرف على أنشطة وفعاليات لا قيمة إنتاجية لها سوى المظهر والتباهي، وهذه مسألة عندما يرافقها غياب الشفافية والمساءلة وتفشي بعض مظاهر الفساد تكون وصفة جاهزة وكارثية لتراجع البلد وإفقاره وتقويض استقراره؟؟.
فالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا يجب أن تستمر بهذا الشكل المفضي إلى طريق غير مأمون العواقب، أي لابد من توجه يعيد التوازن السياسي والمجتمعي والاستجابة لتطلعات الناس ونشر الطمأنينة في نفوسهم والعدالة في التعامل مع مطالبهم المشروعة، فالدولة التي تسير على طريق الديمقراطية تكون الأزمات عندها بمثابة فرصة لمعرفة الخلل ووضع الحلول اللازمة، أما الدول التي تسير في "الاتجاه المعاكس" للمسار الديمقراطي فإن الأزمات تتحول إلى خطرٍ محتمٍ يستدعي الاستنفار الأمني وحده دون حلول أخرى، وأمامنا تجارب العديد من الدول التي تؤكد أنه حيث يكون المناخ السياسي إيجابي ومفعم بالحريات ومشبع بقيم الحرية والعدالة يكون كل شيء إيجابي وجاذب لثقة الناس واستنهاض دورهم في خدمة بلدهم، واستعدادهم للتضحية والصبر في سبيل استقراره ونهوضه مهما كانت صعوبة الأوضاع.