DELMON POST LOGO

أولويات المواطن .. والفراغ السياسي الراهن؟

بقلم: محمود القصاب

من يحاول قراءة المشهد الوطني العام في البلاد على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، سوف يدرك عاجلاً ودونما أي عناء أن أولويات الناس لم تعد كما كانت قبل عقد أو عقدين من الزمن، فقد تبدلت هذه الأولويات وتراجعت لصالح الهموم المعيشية التي تقدمت على "الهم السياسي" هذه حقيقة واقعة يلمسها القاصي والداني، وباتت واضحة جلية في نوعية وطبيعة "المفاهيم" التي تتصدر خطابات وأحاديث الناس الذين لا يجتمع اثنان معهم إلا وكانت هذه الهموم والهواجس ثالثهم؟؟ فنحن اليوم نستمع ونرى طغيان الحديث عن "الضرائب" و "البطالة" و"ارتفاع الأسعار" "وانخفاض الأجور" و"تآكل القوة الشرائية للمواطن" ناهيك عن أم هذه الهموم و "قضية القضايا" نعني بها مسألة "التقاعد" و"المتقاعدين" التي تتفاقم تداعياتها السلبية بمرور الوقت، ويزداد الاخفاق والتخبط في مداواة جروحها الغائرة والمزمنة؟؟.

وللأسف فإن هذا الواقع يمكن اعتباره أسوأ وضع يصل إليه أي بلد،عندما يتم "إشغال" المواطن بجسده وتصبح أولوياته فقط "لقمة الخبز" و "حبة الدواء" ووقوعه فريسة للخوف من المستقبل المجهول؟؟  نقول ذلك ونحن نعرف والكل يعرف بأن البلد لا يواجه أزمة اقتصادية أو مالية فقط، بل إلى جانب هذه وتلك هناك أزمة سياسية مستحكمة بكل تداعياتها الاجتماعية، حيث يتراجع الاهتمام بحقوق المواطن الأساسية التي يفترض أنها تلبي تطلعاته في بلد مستقر ومزدهر، وفي دولة تحمل سمات الديمقراطية والعدالة، وتتكرس فيها مفاهيم المواطنة والقانون، وتصان فيها حرية الناس وكرامتهم ويتحقق في ظلها الأمن والاستقرار الدائمين.

المؤسف أن الصورة هنا لا تبدو وردية ولا مضيئة، فالكثير من هذه القيم والمفاهيم تغيب وتتراجع بحكم الواقع السياسي الذي تبرز فيه وتتسيده القوى الرافضة للإصلاح وللإنفراج السياسي الذي أغلقت دونه كل المنافذ وعطلت سلوك وتفكير الدولة في هذا المجال؟؟.

ما نريد أن نقوله هنا: باختصار هو أن الوضع السياسي القائم، وما يتسم به من جمود وفراغ يحتاج إلى مقاربة جديدة ومختلفة تحمل في طياتها مشروع رؤية للحل السياسي ومغادرة حالة الانكار والتصلب اللتين تسيطران على العقل السياسي الرسمي؟ فالمراجعة أصبحت ضرورية وعاجلة تفرضها بعض المتغيرات الحاصلة في الفضاء الوطني وفي الفضاء الاقليمي، فالمفروض من الدولة أن تحسن قراءة هذه التحولات، فالمنطقة مقبلة على بعض المتغيرات التي لا يمكن التنبؤ بمساراتها وبنتائجها النهائية؟؟ كما أن هناك موازين قوى جديدة في الساحة الوطنية ينبغي الالتفات لها حيث يمكن ملاحظتها بسهولة من خلال اتساع مساحة المطالبة بالتغيير والاصلاح والتوافق الحاصل حول أولوية حقوق الناس وعدالة مطالبهم الساسية والمعيشية، كما نلحظه في المواقف والبيانات المشتركة للقوى السياسية على مختلفة توجهاتها الفكرية والسياسية، والتي تؤكد بأن بعض تلك القوى التي كانت يوماً ما واقفة ضد الاصلاح ومناهضة للتغيير السياسي صارت اليوم تتقاطع مع مطالب ودعوات القوى السياسية الرافعة لشعارات الاصلاح كأولوية، الأمر الذي يستدعي من الدولة فتح مسار سياسي جديد للخروج من حالة الانسداد القائمة وبالتالي خلق أجواء سياسية واجتماعية تدفع باتجاه الحوار المشترك والسماح بتواجد كل القوى السياسية للعمل في الفضاء السياسي الوطني دون عزل أو اقصاء لأحد منها.

مع إقرارنا بتبدل أولويات المواطن كما أشرنا قبل قليل مدفوعاً تحت ظروف معيشية قاهرة، يبقى الحديث عن ضرورة الاصلاح السياسي والنظر إليه باعتباره أحد أهم وأبرز العناوين في السجالات والحوارات الوطنية وهو يمثل أيضاً عنوان شرعية أي وضع سياسي انطلاقاً من حقيقة استحالة اصلاح الأوضاع الاقتصادية أو المالية دون علاج "الخلل" أو "العوار" السياسي القائم والذي يقف خلف كل المشاكل والأزمات على اختلاف أنواعها ومصادرها؟؟ فالإصلاح الذي نتحدث عنه وندعو إليه هو الذي يتجاوب مع تطلعات الناس وهمومهم الحقيقية والذي يقربنا من هدف استعادة زخم " المشروع الاصلاحي" المتوافق عليه شعبياً ورسمياً منذ انطلاق ميثاق العمل الوطني، والذي هو في جوهر أهدافه بناء دولة ديمقراطية تعددية وفق آلياتها وقوانينها التي يعرفها ويقرها العالم كله، والتي بدورها تستدعي تواجد قوى الاصلاح كضرورة سياسية من جهة، وكرافعة لسحب وتعطيل امكانيات القوى المعادية للإصلاح الديمقراطي من جهة ثانية ؟؟.

فهذه الأخيرة هي المسؤولة عن حالة التراجع والاخفاق السياسي والاجتماعي والاقتصادي كذلك، وبالتالي هي المسؤولة عن فشل مسار التطور السياسي المنشود وفشل الارتقاء بالتجربة الديمقراطية في البلاد.  

فإن أحد أسباب الانسداد السياسي الحاصل وغياب أي بادرة للإنفراج يكمن في تحكم القوى المعاندة للتغيير في مسار الدولة، فهي لم تكتف بإخراج بعض القوى السياسية المؤثرة والفاعلة من المشهد السياسي وحرمانها من المشاركة في الحياة السياسية وصنع القرار بل عملت بكل الوسائل والسبل على إدخال مكانها عناصر تفتقر إلى أدنى الفهم السياسي ومقوماته (بإستثناء القلة القليلة)، سواء في قلب " المعادلة السياسية" أو في الحياة البرلمانية التي افرزتها، الأمر الذي أدى إلى هذا الفراغ السياسي وضاعف من ثقل حمولة الوضع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وكان من أبرز نتائجه السلبية غياب قيم "المحاسبة" و"المسآلة" و "الرقابة" وتفشي وشيوع بعض مظاهر الفساد الذي راح "يتغول" في ظل انعدام المحاسبة والعقاب اللازمين وتحوله من "حالة" إلى "آفة" تنخر في جسد البلد وتستنزف مقدراته وثرواته الوطنية، وتستبيح كل حرمات المال العام والتعدي عليه؟؟.

إن هذه القوى سوف تعمل دائماً على اثبات وجودها ووزنها السياسي والدفاع عن مصالحها وامتيازتها وبذلك ستكون خصماً لكل عملية اصلاح أو تغيير سياسي وسوف تتصدى لكل خطوات مكافحة الفساد، مستحضرة كل أسلحتها وقدراتها في سبيل هذا الأمر طالما كان ذلك يشكل خطراً عليها ويهدد مصالحها؟؟.

هنا وفي هذا السياق يجدر بنا أن نؤكد على أهمية أن تعمل الدولة على خلق مناخ سياسي جديد ينطلق من الاهتمام بمصالح البلد العليا أولاً، ومن الرغبة في خلق فرص للحوار والتوافق السياسي والتوجه نحو البناء والتنمية، وهذا يتطلب تحرير الحياة السياسية من كل قيودها والبدء في إيجاد خطوات إيجابية تنعش المشهد السياسي والوطني وتخرجه من حالة الجمود القابع فيها منذ أحداث 2011، ونحن عندما نطالب بالحلول السريعة إنما نؤكد على الحلول المناسبة والموضوعية وليست الحلول الوهمية غير الواقعية" لأننا ندرك أن أحداث 2011 وتداعياتها قد خلقت واقعاً يحتاج تصميماً قوياً وإرادة سياسية حقيقية لتجاوزه، فقد شهدت البلد في أعقاب تلك الأزمة وكأحد افرازاتها اختلالاً كبيراً في توازن القوى بين الدولة والمجتمع، نتج عنه وضعاً صعباً ومضطرباً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً تراجع فيه دور الجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وتلاشت الطبقة الوسطى واتسعت حالات الفقر والعوز بعد أن تآكلت القدرة الشرائية للمواطن نتيجة لإرتفاع الأسعار ومحاصرته بالضرائب التي قصمت ظهره؟؟ مما جعل من تبدل أولويات المواطن أمراً حتمياً.

وكما يقال فقد جرت بعد أزمة 2011 مياه كثيرة من تحت الجسر وهدفنا في هذه العجالة هو رمي حجر لتحريك هذه المياه الراكدة، والدعوة إلى عدم الوقوع أسرى لهذه الأزمة وتداعياتها، فقد يكون من المهم التوقف عند الماضي للدروس والعبر، ولكن الأهم  التوجه نحو المستقبل والتطلع لما هو قادم؟؟ فقد تأكد لنا اليوم وبما لا يدع مجالاً للشك، بأن خيار الإقامة الدائمة في هذه الأزمة ليس خياراً صائباً أو صحيحاً.

كان من المؤمل أن تقدم عملية التحول الديمقراطي في بلدنا نموذجاً رائداً في المنطقة لإرساء أسس دولة مدنية ذات وظيفة اجتماعية تحمي حقوق ومصالح المواطن، وتوظف كل مقدرات وثروات البلد في مشاريع نتموية حقيقية تعالج من خلالها أخطاء وخطايا الاقتصاد المفتوح وما جلبه من أضرار كارثية ليكون اقتصادها داعماً لإستقلالية قرارها وحرية خياراتها لا مكبلاً لها؟؟ دولة تصان فيها كل الحريات وتكون بحق دولة مؤسسات وعدالة وقانون لا دولة جباية وضرائب وديون.