سيطرة البانيان على القطاع التجاري قبل النفط لمدة طويلة وساهموا في توفير التموين للبحرين اثناء الحرب الثانية
ثلاث معالم في البحرين تذكر اهل البلاد بالبانيان ،،، أولها جوجب البانيان الذي كان يستخدم في غسيل الملابس ، والمعبد الهندوسي ( شري كريشنا ) الذي مقره وسط المنامة وقريب من باب البحرين ، والثالث هو مستشفى فكتوريا التذكاري الذي كان يوازي في قدرته الاستيعابية المستشفى الأمريكي ،،، واستمر لمدة 40 عاما ، وكانت المستشفيات الحكومية بديل عنه ، وتعني كلمة بانيان " تاجر هندوسي ".
الدكتور نادر كاظم تتبع في كتابه الأخير " من تاتا الى البحرين – سيرة بانيان البحرين " سيرة هذه الفئة من الناس الذي استوطنوا دول الخليج بينهم البحرين وقدموا الكثير ،،، وساهم تقسيم الهند ( باكستان / الهند ) في بقاء عدد كبير منهم في الخليج لاسيما ان موطنهم الأصلي في منطقة تاتا في إقليم السند قرب كراتشي.
والبونيان يؤرخون تواجدهم في البحرين الى عام 1700 ، حيث تقول رسالتهم الى نائب الملك والحاكم العام في الهند البريطانية عند زيارته البحرين في الثاني من نوفمبر عام 1903 " حللنا في الخليج منذ حوالي 200 سنة مضت".
وكان عمل البانيان كافراد وتجار ووسطاء بتجارة اللؤلؤ بين الخليج والهند قبل 1700 ولكن دون السكن بالمنطقة ،،، وقد هيمنت هذه الجماعة على تجارة البحرين منذ القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين.
كان للبانيان عضو منتخب في مجلس بلدية المنامة منذ 1919 ، واكثر من ممثل في مجلس العرف ( مجلس التجارة ) للفصل في المنازعات التجارية ، و ساهموا في توفير المواد الغذائية لدول الخليج من الهند في الحرب العالمية الثانية ، وقدموا معظم الصناعات الهندية الحديثة والاختراعات الغربية .
وقد زاد عدد البانيان الذين يعملون كمحاسبين ووسطاء وتجار في المنطقة بعد مضايقتهم في مسقط بعد الإطاحة بحكم البوسعيديين وتولي الامام عزان وواليه على مسقط.. في تلك الفترة أصبحت المنامة المركز التجاري الأهم في المنطقة .
واهم سلعتين يتولون البانيان العمل فيها هو اللؤلؤ الى الهند والرز التي تعتبر الوجبة الرئيسة الى البحرين ، لاسيما ان جزيرة اوال تعتبر مركز صيد اللؤلؤ طوال قرون.
ويشير الكتاب الى ان شركة الهند الشرقية الهولندية بدأت تهتم بالاستثمار في تجارة للؤلؤ في البحرين عام 1643 ، وهي من أرسلت عام 1663 احد البونيان الى البحرين ليدرس ظروف تجارة اللؤلؤ ويشتري بعض من اللالئ .
كذلك الحال بالنسبة الى شركة الهند الشرقية الإنجليزية التي بنت علاقات مع البانيان في الخليج ، وبدأت الشركة المتاجرة مع البحرين عام 1816 وعينت احد التجار البانيان المقيمين هناك كوكيل محلي للشركة وهو المنصب الذي تطور ليصبح الوكيل السياسي البريطاني في البحرين .
جر التدخل البريطاني المباشر في شئون البحرين والخليج بانيان البحرين الى التورط في الشؤون السياسية حيث جرى تكليف بعض التجار منهم بادوار سياسية لم تكن لديهم خبرة سابقة بها . حيث كان تخصصهم في التجارة والوساطة ،،، مما جعلهم هدفا للمضايقات ، رغم ان تجارته ووضعهم اصبح افضل واستقرار اعمق بوجود الانجليز.
واحتاج البريطانيون مع تزايد تدخلهم في شؤون الخليج الى وكلاء محليين يشتغلون في البداية كوسطاء ، او ممثلين تجاريين لشركة الهند الشرقية الإنجليزية ثم سرعان ما تحول هؤلاء الممثلون او الوكلاء التجاريون الى وكلاء محليين سياسين للبريطانيين ، و عليهم كتابة التقارير للمقيم السياسي البريطاني في بوشهر.
لكن حاكم البحرين آنذاك طلب من الانجليز استبدال الوكلاء من بانيان الى مسلمين فتم تعيين ميرزا محمد علي ال صفر كاول وكيل محلي مسلم في البحرين.
تقول جماعة البانيان في البحرين بان اقدم صكوك ملكية ارض بحرينية لجماعة البانيان من تاتا السند يعود تاريخها الى 1813. ، ولا يتجاوز عددهم حينها 100 شخص.
استفاد البونيان من بنود اتفاقية الحماية البريطانية مع البحرين عام 1861 والتي وقعها ، والتي تنص على حماية حقوق رعايا بريطانيا في البحرين والسماح لهم بالسكن والمتاجرة في جزر البحرين ، وهذا البند أسس للولاية القضائية البريطانية على الرعايا البريطانيين داخل حدود البحرين ،
عام 1869 ، حدثان مهمان الأول افتتاح قناة السويس مما زاد أهمية البحرين التجارية مع بدء الثورة الصناعية ، واستقرار الوضع في البحرين بعد سنوات من الاضطرابات التي جعلت المنامة عرضة للنهب والسلب والفقر ، وأصبحت المنامة موقعا أساسيا في شبكة التجارة الاستعمارية ، وتم استقطاب العديد من اجناس البشر للتجارة والعمل في صيد اللؤلؤ ، بيهم البانيان المتخصصون في التجارة وتمويل صغار التجار ، خلال هذه الفترة تم التعامل النقدي بالروبية الهندية حتى أكتوبر 1965 ، وجمارك البحرين في يد البانيان منذ عام 1888 حتى 1923 .
شهدت البحرين بعد عام 1869 استقرار سياسي وانتعاش اقتصادي كبير ، استفاد منه البانيان كثيرا ، بل زاد عملهم ليشمل تمويل سفن الغوص بكل مستلزماتها من طعام ولباس وتبغ ، وتمويل تجارة اللؤلؤ والطواويش في البحرين ، بل اصبحوا أحيانا ممولين ومانحي قروض وراهني عقارات بل هم بنوك الموانئ في الخليج والبحرين للحكام والتجار المحليين مستفيدين جدا من الحماية والرعاية البريطانية لهم .هذا لا يعني انهم بدون منافسين من تجار من نجد والعراق والاحساء ومن يهود ومسيحيين .
وكان المنغص الأكبر هو اختلافهم مع وكيل بريطانيا المحلي ميرزا محمد رحيم ال صفر الذي يمارس دور التاجر والوكيل في آن مع يجعله يستفيد من تضارب المصالح ، لكن لحسن حظهم اذ سافر في يناير 1900 الى بوشهر للعلاج وعين حاجي عباس بن محمد فضل وكيل بديلا عنه ومات في بوشهر، بعد اربع سنوات استغنت بريطانيا عن الوكيل المحلي بوكيل سياسي بريطاني في البحرين .
وفي تعريف المطران نوري رئيس أساقفة السريان الكاثوليك في بغداد لحياة البانيان يقول انهم " ليس لهم من الكسوة الا مئزر يشدونه في وسطهم وفي أيام البرد يلتحفون بقطعة من نسيج رقيق ، وهم يذهبون الى التقمّص وهو انتقال الأرواح بعد الموت الى اجسام أخرى من الاحياء بشرا كانت او من الحيوان الاعجم ولذلك يحرمون على انفسهم اكل اللحوم على الاطلاق مخافة ان يكون قد حل فيها احد من اسلافهم ، ولا يحل لهم ان ياكلوا من طعام غير ملتهم ، كما يحرم عليهم من ان ياكلوا من نفس طعامهم اذا نظر اليه من كان من غير دينهم وكأن الضرورة حلّتهم من ناموسهم هذه المرة فاكلوا وشربوا على مرأى منا ومن سائر الذين كانوا في الباخرة ، وهم لا يتأنقون في المأكل بل ان معيشتهم في غاية البساطة ويكتفون من الطعام بالقدر اليسير.
وكان زعيمهم يوزع عليهم كل صباح قبضة من اللوز والسكر وقبل الظهر يجتمعون كلهم ويعدون غذائهم فيعجنون دقيقا بدهن النارجيل أي الجوز الهندي ويتخذون منه اقراصا يقلونها بالدهن ثم يقلون شيئا من الخضروات وبعدئد يقسم الزعيم عليهم الأقراص والخضروات واضعا إياها على ورق من الشجر الهندي فياخذ كل نصيبه ويلقمه بثلاث أصابعه .
اما ماؤهم فكانوا يحتفظون عليه جدا فبضعونه في جرار من نحاس يغلفونها باكياس مربوطة ومتى شاء حدهم ماء جاء باناء صغير وحل فم الكيس وانزل الاناء في الجرة وملأها ثم ربط الكيس وبعد ذلك يصب على يديه قطرات من الاناء الصغير ثم يشرب منه .
سيطر البونيان على التجارة في المنامة لفترة طويلة وعلى الجمارك تحديدا حتى عام 1923 ، حيث اعفيت شركة تابعة لهم من مسؤولية إدارة الجمارك ، ثم جاء اللؤلؤ المستورد او المزروع للبحرين وتبعها الكساد العالمي بعد نهاية 1928 .
وحين تعرضت تجارتهم للكثير من الصعوبات، رفض مستشار البحرين بلجريف طلبهم بأن يعاملوا تجاريا بصورة تفضيلية على حساب باقي التجار بمن فيهم العرب لا لشيء الا لانهم من رعايا بريطانيا.. لاسيما ان هؤلاء التجار الهندوس حسب كلام بلجريف لا ينفقون أموالهم ولا يستمثمرونها في البلاد وهم الوحيدون الذين لا يشترون عقارات لهم ، ويرسلون أموالهم الى الهند.
بعد انحسار اللؤلؤ
جاء النفط ليعوض الكساد في قطاع اللؤلؤ ، واتجه عدد كبير من الهنود للعمل في شركات النفط في البحرين ( بابكو ) ولدى بعض التجار العرب وفي البنوك سيما ان خبرتهم في الحسابات ممتازة .
حكايات نبل البانيان
ان التنوع البشري والتسامح والانفتاح على الاختلاف وتقبله هو الناتج غير المتوقع وغير المقصود لحرية التجارة والازهار التجاري التي امتازت به البحرين والمنامة خصوصا التي يعيش فيها خليط من البشر من أصول متعددة ، بحرينيون سنة وشيعة وفرس سنة وشيعة ، وعرب من الاحساء والقطيف والكويت ونجد وساحل فارس ( عرب الهولة ) وافارقة محررون وعبيد ويهود من العراق وفارس ومسيحيون شرقيون وامريكيون واوربيون وهنود وهندوس ومسلمون ، هذا التنوع بحد ذاته خير عام . هذا التنوع خلق التمدن ، واستطاع اهل البحرين والمنامة خصوصا كميناء رئيسيي ومركز تجاري فن التعامل مع الغرباء وسط جو منفتح متسامح سياسيا واجتماعيا ودينيا ،،، فترى التعامل بينهم إيجابي .
فتدين البحرين للبونيان بعدم انقطاع المواد الغذائية من الهند ، وبالطرف الاخر، وثق تجار البحرين بمعاملة البونيان وبدوا يقرضوهم ( سيد هزيم عبد القادر ) ويقترضوا منهم .
وفي حادثة طريفة بان تاجر بيع الاقمشة بسوق المنامة، الحاج علي بن عبد الرسول ( من بني جمرة ) وهو والد ملا عطية الخطيب الشهير ، افلس عام 1909 وكان دين كبير عليه لاحد الجار البانيان وقدره 17 الف روبية ، ومبلغ اخر لتاجر عربي قدره 200 روبية ، ، تقول الحكاية بان علي بن عبد الرسول خاف وهرب الى البصرة ، واذا بالبانيان يعفيه من القرض بالكامل ، بينما التاجر العربي اصر على دفع مبلغ دينه . وهي حكاية تكشف عن مدى ثقة الناس والحكومة في البحرين بامانة البانيان وطبعهم المسالم.
وقد ساهم البانيان بتوفير كل مستلزامات البحرين من الهند اثناء الحرب العالمية الثانية ، واحيانا يتم استيراد بضائع من جنوب افريقا..
دور البانيان المجتمعي .. تأسيس مستشفى فيكتوريا التذكاري
اقترح احد البانيان التجار في البحرين عام 1901 انشاء مستشفى باسم شركته ونيابة عن مجتمع البانيان في البحرين تحت اسم ( مستشفى فيكتوريا ) تخليدا لذكرى الملكة فيتكوريا التي توفيت في 22 يناير 1901 ، رد الجميل من البحرين لبريطانيا التي حققت الامن والأمان بالبلاد ، لاسيما ان في البحرين لا يوجد سوى مستشفى صغير في بيت الارسالية الامريكية يديره طبيب وزوجته فقط ، ورغم تكبير هذا المستشفى الا ان بعض الناس لا يرتاده باعتباره تبشيريا ، وتقدم احد التجار البانيان بتبرع 5000 روبية ، وهو نصف التكلفة والباقي من التجار في البحرين ، لكن الحكومة البريطانية رفضت وطلبت صرف المبلغ على أمور خيرية أخرى ، لكن بعد إصرار البانيان على المستشفى وافقت بريطانيا وتبرعت بمبلغ 3650 روبية ، فتبرع عدد من التجار مثل الذكير ومطر وتجار اخرين من البانيان وتم انشاء المستشفى الذي افتتح عام 1906 واستمر 40 سنة وخدم الالاف من البحرينين والقاطنين حتى اغلاقه عام 1948 بعد توسع المؤسسات الصحية الحكومية .
كذلك تبرع البانيان في المشاريع الخيرية دون تمييز على أساس ديني او قومي ، فقد اسهموا في انشاء اول مدرسة نظامية في المحرق 1919 ، ودفع عام 1948 للهلال الأحمر في دمشق بعد مشكلة فلسطين ، ومساعدات للكنيسة الانجليكانية ، واخر تبرع قاموا به في حملة ناصر بن حمد ال خليفة ( فينا خير ) عام 2020.
مساهمة البانيان في مجلس العرف وبلدية المنامة
عام 1904 مات السيد خلف بن عيسى وهو تاجر كبير في المنامة وخلف العديد من المعاملات والرهون مع تجار البحرين ، شكل حاكم البحرين مجلس عرف برئاسة رامو البانيان ، واثنين اخرين من ضمن ثمانية أعضاء ما يعطي دور اكبر لهم في هذا المجلس .
مجلس العرف يتالف من تجار محترمين يعينون من اجل تسوية المنازعات التجارية وهي سمة من سمات إدارة العدالة في البحرين.
وضمن رغبة بريطانيا بمزيد من التدخل في الشؤون الداخلية للبحرين ، عام 1907 اقترح مكتب الهند اصدار قانون النظام في المجلس الذي يوفر الغطاء القانوني للولاية القضائية البريطانية على الأجانب وهو توسيع لسلطات الوكيل السياسي ، وصدر هذا المشروع في عام 1913 ، وطبق بعد الحرب الكونية الأولى ، المرسوم وضع أصول المحاكم ( الرئيسة ، المحلية ، ومجلس العرف ، وسالفةالغوص ، والمحكمة المشتركة ) .
تم تعيين اثنين من البانيان في المجلس البلدي من ضمن عشرة أعضاء في 23 يناير 1920 وأول اجتماع له في ابريل 1920.
كما ساهم البانيان في انشاء غرفة تجارة البحرين في 25 مارس 1951 ، والمدرسة الهندية عام 1941 ، وقبل ذلك بسنوات تم تأسيس المعبد الهندوسي ( شري كريشنا ) عام 1817 م وسط المنامة القديمة والذي يعتبر حاليا معلم أساسي من معالم المنامة القديمة واحد رموز التنوع الديني والتعدد الثقافي في البحرين .