فارس هي المصدر الأساسي لمعظم الموادّ باستثناء اللؤلؤ الذي كان يأتي من البحرين بوصفها أعظم مركز لصيد اللؤلؤ في الخليج
"أرادت الشركة الهولندية عام 1643 المتاجرة مع الخليج، وكان الحرير الفارسي هو الهدف في البداية، ثم أخذت قائمة موادّ الشركة في التنوّع بين الصوف والفضة واللؤلؤ وغيرها. كانت بلاد فارس هي المصدر الأساسي لمعظم هذه الموادّ باستثناء اللؤلؤ الذي كان يأتي من البحرين بوصفها أعظم مركز لصيد اللؤلؤ في الخليج آنذاك. لم يكن لدى الشركة خبراء في تجارة اللؤلؤ، الأمر الذي اضطرها إلى الاعتماد على خبرة التجار البانيان في هذا المجال." هذه اول إشارة رسمية الى تواجد البانيان في البحرين . هذا ما بدأ به مؤلف كتاب " من تاتا الى البحرين ، سيرة بانيان البحرين" الدكتور نادر كاظم في محاضرة ضمن الموسم الثقافي لنادي العروبة ( قراءة في كتاب ) مساء امس .
لماذا الاهتمام بتاريخ البانيان في البحرين؟
وأضاف ، يمثّل البانيان في البحرين أقد جماعة هندية/هندوسية معروفة اتصلت بالبحرين واستقّرت فيها منذ زمن بعيد، ومنذ القرن السابع عشر بصورة موثّقة. وقد بقيت الهند خط التجارة الأساسي في البحرين حتى استقلال الهند في العام 1947. ولعب البانيان، طوال قرون من نشاط هذا الخط التجاري الحيوي، دورًا مهمًا في ازدهار تجارة البحرين والمنطقة.
كل ما نعرفه عن التأثير الهندي القديم في البحرين والخليج (في اللغة، والمعمار، والطعام...إلخ) جاء من هذه الجماعة على وجه الخصوص، بل إن هؤلاء اضطلعوا بدور مهم في تحديث المكان بفضل الأدوات والأجهزة الحديثة التي كانوا أول من استوردها من الهند إلى البحرين (نظارات، مظلات، أحذية، جوارب، كراسي، طاولات، أقلام، أدوات المائدة...)، وبفضل عضويتهم في بلدية المنامة ومجلس العرف.
يمثّل وجود الهندوس والمعبد الهندوسي العريق في المنامة أبرز معالم التسامح والتنوّع وتقبّل الآخر والروح الكوزموبوليتانية التي ميّزت تاريخ المنامة والبحرين.
يكوّن تاريخ البانيان في البحرين والخليج جزءًا مهمًا لا من تاريخ العلاقات التجارية بين الهند وموانئ ومدن الخليج فحسب، بل جزءًا مهمًا من تاريخ الخليج، فهو أشبه بمقطع صغير يمتلك القدرة على اختصار لوحة كبيرة.
سيرة البانيان
اسم البانيان (وتُكتب بطرق عديدة: Banyan، وbannyan وbanian، وBaneane، وBuniah...إلخ) هو اسم عَلَم يشير إلى جماعة محدّدة من التجار الهندوس في غرب الهند وإقليم البنغال. وهي كلمة هندية من أصل سنسكريتي (يعتقد أنها جاءت من كلمة vaniyan - ومفردها vaniyo - وتعني تجار). وقد دخلت الكلمة إلى اللغات الشرقية، العربية والعبرية، خلال العصور الوسطى وحوالي القرن العاشر الميلادي قبل أن تنتقل إلى اللغات الغربية، البرتغالية (مطلع القرن 16)، والإنجليزية (أواخر القرن 16).
بانيان البنغال وبانيان غرب الهند (غوجيرات والسند)
استخدمت كلمة "بانيان" في إقليم البنغال الهندي (شرق الهند) لتشير إلى الشخص الذي يعمل كوكيل تجاري أو متعاون تجاريّ مع التجار الأوروبيين والشركات الأوروبية.
على خلاف بانيان البنغال، كان تجار البانيان القادمون من غرب الهند، غوجيرات والسند، أكبر من وسطاء أو وكلاء تجاريين للأوروبيين ولشركات الهند الشرقية الأوروبية، فقد كانوا تجارًا مستقلّين ويخدمون تجارتهم الخاصة لا تجارة أسيادهم، لكن الشركات الأوروبية حين جاءت إلى المنطقة استعانت ببانيان غرب الهند كوكلاء تجاريين لها بحكم تجربتهم الطويلة في تجارة المنطقة.
بانيان غوجيرات وبانيان السند
ينتمي بانيان الخليج إلى طائفة اجتماعية تجارية في الهند تسمى الباتيا Bhatia، وهذه تنقسم إلى مجموعتين إقليميتين أساسيتين لم تكونا على وفاق في أغلب الأوقات، بل كانت المنافسة التجارية بينهما هي سيدة الموقف: جماعة الباتيا من تاتا السند وهم الموجودون في البحرين حتى اليوم، وجماعة الباتيا من كوتش في غوجيرات وهم الموجودون في عمان حتى اليوم.
كانت أسواق عمان والبحرين، خلال النصف الأول من القرن 19، موقعًا أساسيًّا للتنافس التجاري بين الجماعتين اللتين كانتا تقيمان في معظم موانئ الخليج ومدنه التجارية آنذاك. ولا يبدو أن إحدى الجماعتين قد تمكّنت من حسم التنافس فيما بينهما حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث أصبحت مسقط حكرًا على جماعة الباتيا من كوتش (بانيان عمان)، فيما أصبحت البحرين حكرًا على الباتيا من تاتا السند (بانيان البحرين)
أقدم ذكر لوجود البانيان في البحرين
ترجع أقدم إشارة صريحة إلى وجود تاجر من البانيان يتصل بتجارة اللؤلؤ في البحرين إلى ما بعد الحقبة البرتغالية، وتحديدًا إلى العام 1643.
افتتحت شركة الهند الهولندية لها مكتبًا في جمبرون (أو بندر عبّاس) في العام 1623، أي بعد عام واحد من الإطاحة بالوجود البرتغالي في هرمز بتحالف إنجليزي/صفوي.
البانيان كوسطاء تجاريين لشركتي الهند الهولندية والإنجليزية
تقول الوثائق أن مدير الشركة في جمبرون، نيكولاس أوفرسنخي، اشترى كمية قليلة من اللؤلؤ لتجربة بيعه في هولندا، غير أن التجربة باءت بالفشل لقلة الإقبال على اقتناء اللؤلؤ ولارتفاع أسعاره. وفي 22 مايو 1643، أصدر مدير المكتب في جمبرون تعليماته إلى موظفيه في الخليج، وطلب منه أن يبحر إلى البحرين لشراء اللؤلؤ في شهر يونيو، بداية موسم الغوص، وأن يصطحب معه "هنديًا بانيانيًا"، واسمه "تسيك بيت"، وهو متخصّص في هذا المجال. وتحدد الوثيقة أجر هذا البانيان، لكنّها تضيف بأن عليه أن يتحمّل نفقة الأكل بنفسه في البحرين. تكررت هذه التجربة في العامين 1663 و1665.
وعلى طريقة الهولنديين، أقامت شركة الهند الشرقية الإنجليزية علاقات وثيقة مع البانيان في الخليج. وتذكر المصادر أن البانيان المقيمين في الخليج عملوا مع الإنجليز منذ العام 1710 كوسطاء أو مترجمين. وكان وكيل الشركة في بندر عبّاس من البانيان. بل كانت أغلب التجارة الإنجليزية في الخليج خلال القرنين 17 و18 "عبارة عن تجارة بحرية يمارسها تجّار هنود من البانيان مستخدمين سفنهم الخاصة تحت حماية العلم الإنكليزي".
وحين بدأت شركة الهند الشرقية الإنجليزية المتاجرة مع البحرين في العام 1816 عيّنت لها أحد التجار البانيان المقيمين في المنامة كوكيل تجاري محلي للشركة، وهو المنصب الذي تطوّر ليصبح الوكيل السياسي البريطاني في البحرين.
ماذا عما قبل 1643؟
ما نعرفه بصورة مؤكّدة أن أحدًا من البانيان لم يكن يقيم بصورة دائمة في البحرين، وأن سكان البحرين كانوا آنذاك، كما يقول بيدرو تخيسيرا، "من العرب باستثناء الوزير والحامية الفارسية".
إلا أن عدم إقامة البانيان في البحرين لا ينفي وجود اتصال ما بين سوق البحرين والتجار البانيان الذين ربما كانوا يتردّدون على البحرين للمتاجرة في اللؤلؤ قبل القرن السادس عشر، خاصة أن تجارة البحرين كانت على ارتباط وثيق آنذاك بتجارة الهند عبر مدينة سيراف، ثم جزيرة قيس (كيش) الذي كان لحاكمها ثلثا دخل البحرين في يوم ما، ثم جزيرة هرمز التي كانت الوسيط المركزي لتجارة الهند والخليج.
تشير المصادر إلى وجود البانيان في مدينة سيراف (القرن 10)، وجزيرة قيس (القرن 10-14)، وجزيرة هرمز (القرن 14-17)، لكن الإحصاءات الدقيقة تكشّفت لنا في هرمز خلال الحقبة البرتغالية في المنطقة (القرن 16-17) حيث أصبحت مراكز التجارة الثلاث الرئيسية تحت سيطرتهم (الهند في العام 1505، وهرمز في العام 1507، والبحرين في العام 1521). وتشير المصادر إلى أن تجارة البرتغاليين "قد مرّت أساسًا من خلال أيدي البانيان"، وأن حوالي 800 تاجر بانيان كانوا يقيمون في هرمز في القرن 16. وتكشف هذه المؤشرّات عن وجود اتصال وثيق بين البحرين والتجار البانيان، وخاصة إذا تذكّرنا أن البحرين كانت مركز صيد اللؤلؤ، وكانت تتبع هرمز التي كانت في زمانها ملتقى التجار من كل مكان آنذاك.
إشارة الإدريسي في القرن 12
أشار الباحث الادريسي في كتابه المعنون " نزهة المشتاق في اختراق الافاق " في القرن الثاني عشر عن البحرين قائلا :
"وفي هذه الجزيرة ( المقصود البحرين ) رؤساء الغواصين في البحرين ساكنون بهذه المدينة والتجار يقصدون اليها من جميع الأقطار بالاموال الكثيرة ويقيمون بها الأشهر الكثيرة حتى وقت الغوص فيكترون الغواصين بأسوام اجر معلومة "
اللؤلؤ البحريني والرز الهندي: تجارة البانيان التاريخية
يُعتقد أن وجود البانيان في البحرين ارتبط بالتجارة التبادلية القائمة على تصدير الرز الهندي إلى البحرين، واستيراد اللؤلؤ البحريني إلى الهند. ويمكننا أن نفترض أن هذه التجارة ترسّخت خلال القرن 16 عندما أصبح الرز الهندي وجبة رئيسية في البحرين. ويعود الفضل في هذا إلى هؤلاء البانيان، أسياد هذه التجارة تاريخيًّا. وفي المقابل كان لؤلؤ البحرين سيد الجميع في هذه الجزائر دون منازع، وهو الجوهر الذي استقطب البانيان وغيرهم، وجعل البحرين مركزًا أساسيًّا في تجارة الخليج على مدى قرون عديدة.
يذكر هنري جيمس ويغام، في العام 1903، أن التجار البانيان في البحرين كانوا يتولّون مهمة تصدير واستيراد أهم سلعتين في تجارة البحرين أي اللؤلؤ والرز، حيث "يقوم زملاؤنا الرعايا، بانيان الهند المقتصدون، بتجارة صاخبة باستيراد الرز الذي يبيعونه بالدين في بداية موسم صيد اللؤلؤ بمعدل فائدة يعادل حوالي 100% في السنة، ثم يشترون اللؤلؤ في نهاية الموسم من أجل إرساله إلى الهند".
تنوّعت السلع المستوردة والمصدرة بين البحرين والهند خلال القرون، غير أن تجارة اللؤلؤ والرز بقيت على رأس القائمة حتى العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين قبل أن تنهار تجارة اللؤلؤ، وقبل أن يدخل التجار العرب في سوق البحرين على خط منافسة البانيان في تجارة الرز والمواد الغذائية.
شبكات البانيان التجارية خلال القرنين 18: مشاهدات كارستن نيبور
كان كارستن نيبور (1733-1815)، المستكشف الألماني، عضوًا في البعثة العلمية الملكية الدنماركية (1761-1767)، وطاف بالمنطقة من سواحل البحر الأحمر حتى الخليج، مرورًا ببحر العرب والهند. وتكشف مشاهدات نيبور أن حجم تشعّب شبكات تجارة البانيان خلال القرن الثامن عشر في العديد من الموانئ التجارية في حوض الخليج (البصرة والبحرين ولنجة وبندر عباس ومسقط) وبحر العرب وساحل البحر الأحمر (صنعاء والمخا وجدّة وبيت الفقية واللحية وغيرها)، وصولًا إلى زنجبار وموانئ ساحل أفريقيا الشرقي. لقد شاهد نيبور البانيان في معظم هذه الموانئ والمدن الساحلية.
كوّن هؤلاء البانيان شبكات تجارية واسعة اضطلعت بدور الوسيط بين تجارة الهند وهذه الموانئ، وهي الشبكات التي ربطت تجارة هذه المناطق بالهند في نظام متماسك تتدفق من خلاله السلع والأموال (القروض والودائع).