جمارك البحرين كانت في أيدي البانيان منذ العام 1888 حتى العام 1923
يأتي تأسيس المدرسة الهندية في العام 1950 كمؤشر على قرار البانيان في تحويل المنامة إلى وطن استقرار يقيمون فيه هم وعائلاتهم بصورة دائمة
ويواصل مؤلف كتاب " من تاتا الى البحرين ، سيرة بانيان البحرين" الدكتور نادر كاظم في محاضرة ضمن الموسم الثقافي لنادي العروبة ( قراءة في كتاب ) مساء امس الأول حديثه عن دور البانيان في تعزيز التجارة بالمنطقة قائلا :.
شبكات البانيان التجارية في موانئ الخليج خلال القرن 19: مشاهدات الكابتن جورج بروكس
تذكر جماعة البانيان في البحرين أن أقدم صكوك ملكية تمنح ملكية أرض بحرينية لجماعة الباتيا من تاتا السند "يعود تاريخها إلى العام 1229 هجرية حوالي العام 1813م"، إلا أن المعلومات عن البانيان آنذاك كانت شحيحة. ويعتبر جورج بروكس أول شخص يقدّم إحصاءً دقيقًا بعدد البانيان في البحرين، حيث ذكر أن في البحرين خلال عشرينيات القرن التاسع عشر "حوالي مئة شخص من البانيان، وهم تجار وأصحاب محلات في المنامة"
وجورج بروكس هو كابتن في سلاح البحرية في شركة الهند الشرقية خلال النصف الأول من القرن 19، وكان ضمن أول بعثة بريطانية من البحرية الهندية تقوم بعملية مسح شاملة لسواحل الخليج في العام 1820. وأعدّ بروكس العديد من الخرائط، وتدين له البحرين بأنه أول من قام بمسح دقيق لجزرها وسواحها، وقدم الكثير من المعلومات والتفاصيل الدقيقة التي استخدمت في رسم واحدة من الخرائط الأولى لجزر البحرين في العام 1825.
لاحظ بروكس، أثناء عملية المسح البحري، أن البانيان ينتشرون في معظم موانئ الخليج المزدهرة تجاريًا. ويبدو أن غالبية البانيان كانوا قد انتقلوا إلى الساحل العربي من الخليج خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. شاهد بروكس التجار البانيان في بندر عبّاس، وفي الشارقة حيث لاحظ أنهم كانوا يشتغلون "كتجار لؤلؤ وصاغة وتجار أقمشة وحبوب، ويرتدون اللباس العربي". وشاهدهم في أبوظبي، وفي المنامة، وفي مناطق أخرى.
لكنّ عمان تبقى البلد الأكثر أهمية في تاريخ تجارة البانيان في الخليج منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر (زمن كارستن نيبور) حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر (زمن جورج بروكس). وبحسب مشاهدات بروكس، فإن عدد سكان مدينة مطرح لم يكن يقلّ عن "15 إلى 18 ألف نسمة. وحوالي ألف من هؤلاء هم من البانيان من السند وكوتش، وقد استقروا هنا لغرض التجارة". لكن العدد الأكبر من البانيان كان يستقر في مسقط العاصمة التي يصل عدد سكانها "في بعض الأحيان إلى ما يقرب من 30 ألف نسمة، وهناك حوالي ألفين من البانيان استقروا هنا، وهم يمارسون تجارة مزدهرة، ويتعهّدون الجمارك"
ما بعد مشاهدات الكابتن جورج بروكس
لاحظ جيمس ويلستد من البحرية الهندية في العام 1835 أن العائلات البانيانية تدير تجارة واسعة في معظم مدن المنطقة من المخا والحديدة على البحر الأحمر حتى مسقط والبحرين في الخليج العربي. وبحسب ويلستد، فإن وجود هؤلاء البانيان في المنطقة "يقتصر على الأنشطة التجارية". أما الملاحظة الأهم من بين مشاهدات ويلستد فتكمن في خصوصية تجارة البانيان في مسقط والبحرين. لاحظ ويلستد أن البانيان يحتكرون في "موانئ البحرين ومسقط وموانئ أخرى كامل تجارة اللؤلؤ التي يفترض أن تصل إلى ثلاثين أو أربعين لكًّا من الروبيات سنويًا".
بعد سبع سنوات من زيارة ويلستد، لاحظ كابتن فرنسي اسمه ثيوجين بيج كان في زيارة إلى البحرين خلال الفترة من 18 إلى 21 يناير 1842، أن "المنامة كانت مدينة التجارة في جزر البحرين"، وهي شريك تجاري مهم لأسواق الهند وغيرها، وكان بها سوق كبيرة "تساوي سوق مسقط في حجمها". أما ثروة المدينة فتكمن في تجارة اللؤلؤ، ولهذا يسكن فيها عدد كبير من التجار، ومن بين هؤلاء التجار كان البانيان الذي يصفهم بأنهم كانوا "أثرياء وينخرطون في هذا النوع من المضاربة" حول اللؤلؤ. لكن الملاحظة الأهم في مشاهدات بيج بشأن بانيان المنامة هي التالية: يوجد بالمنامة العديد من البيوتات التجارية، لكن "أكبر هذه البيوتات التجارية كان بيت جودور Goudour، وهو للبانيان. وهناك بانيان كثيرون في السوق، وهم يتخصّصون في بيع القماش والبضائع التجارية من بومبي".
بانيان البحرين: بين السياسة والتجارة
تنقّل ثقل التجمّع البانياني في حوض الخليج مع الزمن، ومع تقلّب الأوضاع السياسية من مدينة إلى أخرى. كانت هرمز مركز الثقل الأكبر للبانيان خلال الحقبة البرتغالية/الهرمزية في القرن 16، ثم انتقل ثقلهم الأكبر، بعد تدمير هرمز في العام 1622، إلى بندر عبّاس خلال القرن 17، وكان ثلث سكان بندر عبّاس من البانيان. بعد انهيار الحكم الصفوي في العام 1722، وحكم نادر شاه في العام 1747، انتقل مركز ثقل البانيان في المنطقة إلى الضفة العربية من الخليج، وتحديدًا إلى عمان
وصف وليم بالجريف مسقط في العام 1863 بأنها "بابل الشرق"، وواحة تسامح ديني وإثني إلى درجة "لم تبلغها حتى أوروبا حيث يوجد تسامح مع كل الإثنيات والديانات والعادات، ويمكن لليهود والمسيحيين والمسلمين والهندوس أن يعبدوا آلهتهم بحرية بطرقهم المتعدّدة، وأن يرتدوا اللباس الذي يرونه أفضل، كما يمكنهم الزواج والوراثة بدون قيود، ويمكنهم دفن موتاهم أو حرقهم كما يتوهّمون، فلا أحد يسأل، ولا أحد يتحرّش، ولا أحد يعيق"
انقلبت أوضاع مسقط رأسًا على عقب بعد زيارة بالجريف بخمس سنوات، حيث تدهورت أوضاع مسقط على نحو درامي خطير بعد الإطاحة بحكم البوسعيديين المتسامح في مسقط في العام 1868 عندما تحرّكت الإمامة لإسقاط حكم السيد سالم بن ثويني سلطان مسقط والساحل، وتمّكّن الإمام عزّان بن قيس من الوصول إلى الحكم حتى العام 1871، وفرض تشدّدًا دينيًّا غير مسبوق في مسقط: تحريم التبغ والكحول والموسيقى والرقص وحلق اللحية، وفرض قص الشوارب بطريقة معينة.
واجه البانيان، بما إنهم هندوس، سنوات صعبة في مسقط. فبعد الأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم وبضائعهم، صارت الشكوى متكررة من السرقة والنهب والابتزاز والمضايقات والحبس واقتحام محلاتهم ومصادرة بضائعهم، بل حرقها في الجمارك. الأمر الذي اضطرهم إلى نقل ممتلكاتهم، ومغادرة الكثيرين منهم إلى خارج مسقط حتى انخفض عددهم عل نحو خطير "من 2000 شخص في العام 1840 إلى حوالي 250 في العام 1870.
كتبت هذه التغيّرات التي شهدتها مسقط بداية النهاية لوجود جماعة الباتيا من تاتا السند هناك، وبحلول العام 1900 لم يكن في مسقط سوى تاجرين من السند، فيما لم يكن يوجد أيٌّ منهم في العام 1914. وقد انتقل ثقل بانيان السند إلى المنامة بعد ازدهار ميناء المنامة، واستقرار أوضاعها بعد العام 1869. وتضاعف النشاط التجاري بصورة كبيرة مع الهند. فقد ارتفعت قيمة واردات البحرين من (2229177 مليون روبية) سنة 1878 إلى 8827650 مليون روبية سنة 1898. وارتفعت قيمة الصادرات من 2181995 مليون روبية سنة 1878 إلى 7940880 مليون روبية سنة 1898. والحاصل أن قيمة السلع المستوردة في البحرين من الهند في العام 1873 حتى 1900 ارتفع إلى أكثر من 300%.
وخلال هذه الفترة، أيضًا، استخدمت الروبية الهندية كعملة أساسية في البحرين منذ تسعينيات القرن التاسع عشر حتى أكتوبر 1965. والأهم أن جمارك البحرين كانت في أيدي البانيان منذ العام 1888 حتى العام 1923، وكانت "حسابات الجمارك أيام الهندوس تودع في السند" حتى إصلاحات العام 1923. ترد الإشارة أحيانًا إلى أسماء هندوسية عديدة غير معروفة كانت تدير الجمارك منذ أواخر القرن التاسع، إلا أن أهم شركة من شركات البانيان في البحرين احتكرت إدارة الجمارك منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى العام 1923، هي شركة كنكارام تيكمداس الشهيرة.
بانيان البحرين بعد العام 1947
بدأ نفوذ البانيان في سوق المنامة في التراجع مع انهيار اقتصاد اللؤلؤ أواخر عشرينيات القرن العشرين، وتصاحب مع هذا الانهيار تشدّدان أشعرا البانيان بأن تجارة البحرين تسحب من بين أيديهم ومن تحت أقدامهم: تشدّد بلدية المنامة في تطبيق العقوبات على كل مخالفة تجارية، وتشدّد جمارك المنامة في فرض رسوم على إعادة شحن البضائع، ومنعهم من المتاجرة مع شبه الجزيرة العربية.
جلب عصر النفط معه جملة تحديات اجتماعية وسياسية لم تكن في حسبان أحد من جماعة البانيان. فبعد أن كان البانيان يشكّلون الجماعة الهندية/الهندوسية الأساسية (وكانت في يوم من الأيام الجماعة الهندية الوحيدة) في البحرين، واكتسبت، على إثر ذلك، سمعة طيبة، واحترامًا كبيرًا بين مجتمع التجار وحكومة البحرين، إذا بهذه الجماعة تشهد تدفّقًا غير مسبوق لأعداد كبيرة من هنود وهندوس الطبقة الوسطى من ذوي الأعمال الفنية والإدارية الوسيطة في شركة نفط البحرين (بابكو) كما في البنوك والشركات والمؤسسات الأخرى (شركة كري مكنزي، والبنك الشرقي، والبنك البريطاني، ومكتب البريد، ودائرة الجمارك، وشركة يوسف بن أحمد كانو وغيرها).
وبعد استقلال الهند في 1947، واجهت جماعة البانيان تحدّيًا آخر تمثّل في تراجع حجم التبادل التجاري بين البحرين والهند على نحو درامي، حيث تحولت أنظار نخبة التجار البحرينيين عن الهند إلى البلدان الرأسمالية الصناعية في الغرب (أمريكا وإنجلترا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا وألمانيا والسويد وغيرها)، وفي الشرق الصناعي فيما وراء الهند، إلى اليابان بعد طفرة الإنتاج وصناعة السلع اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية.
استمرّ الهنود في البحرين، بعد استقلال الهند في العام 1947، يتمتّعون بالحماية البريطانية، ولكن هذه المرة بوصفهم أجانب لا رعايا بريطانيين. الأمر الذي فرض على هؤلاء التجار أخذ زمام المبادرة بأنفسهم دون انتظار العون من الوكالة السياسية البريطانية.
ومع تقسيم الهند، ضاع وطن بانيان البحرين الأصلي، أي بلدة تاتا بالقرب من كراتشي في السند التي أصبحت جزءًا من باكستان الإسلامية. وعندئذٍ وجد التجار البانيان في البحرين والخليج أنفسهم أمام ظروف صعبة، وكان لا مناص أمامهم من إحضار عائلاتهم التي اضطرت إلى اللجوء إلى الهند بعد التقسيم. بدأ هؤلاء التجار في التفكير جديًّا في تحويل المنامة إلى وطن بديل لتاتا المفقودة وليس فقط مجرد مكان للمتاجرة والإقامة المتقطّعة.
المدرسة الهندية
ويأتي تأسيس المدرسة الهندية في العام 1950 كمؤشر على قرار البانيان في تحويل المنامة إلى وطن استقرار يقيمون فيه هم وعائلاتهم بصورة دائمة واعتيادية. وكانت كل الظروف مهيئة لافتتاح المدرسة. وكشف إحصاء العام 1950 أن عدد الهنود في البحرين قفز لأكثر من الضعف قياسًا بما كان عليه في العام 1941، فبعد أن كان عددهم لا يتجاوز ـ1424 نسمة في العام 1941، إذا بالعدد يقفز إلى 3046 نسمة في العام 1950، وتضاعف، كذلك، عدد الهندوس حيث بلغ عددهم 975 نسمة بعد أن كانوا 424 نسمة في العام 1941. وارتفع العدد، في إحصاء العام 1959، ليصل إلى 4043 نسمة، بينهم 2128 من الهندوس، وهو أكبر عدد وصلوا إليه طوال تاريخهم.
امتلك البانيان، طوال تاريخهم، روحًا كوزموبوليتانية جعلتهم قادرين على العيش في بلدان متباينة تتوزّع بين الهند ودبي وأبوظبي والبحرين ومسقط ومدن ساحل فارس وبلدات ساحل أفريقيا الشرقي وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. غير أن أبناء جماعة الباتيا من تاتا السند الذين قرّروا الاستقرار في البحرين ظلّوا يعيشون في المكان موزّعين بين اندماجهم في البحرين، وبين اتصالهم الوثيق بالهند كأهل وحضارة ودين ولغة وحتى كسياسة. وقد انتقلت أعداد كبيرة منهم إلى دبي إبان ازدهار إمارة دبي منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.