DELMON POST LOGO

في ذكرى 9 يونيو .. ودروس التجربة الثورية

بقلم : مسعود أحمد - عمان
تحل علينا هذه الأيام الذكرى الثامنة  والخمسون لثورة التاسع من يونيو / حزيران  المجيدة  والتي انطلقت في مثل هذا اليوم  من جبال ظفار  سنة  ١٩٦٥ . و تطورت في مجرى النضال تحت راية برنامج استراتيجي   طموح  الى ثورة وطنية جذرية  شاملة .. جرت مياه  كثيرة في نهر العملية الثورية وتقاطعت المسارات واختلطت المذاقات ،  ويبقى  للمناسبة   العظيمة معنى خاص   يحتفاء  به  ويحتفل . ويمثل  هذا اليوم عنوان  بارز  للنهوض الشعبي العارم  ،  وتعبيرا مكثف عن حالة الرفض والثورة على الحكم الاستبدادي العنصري في محطة   مفصلية هي   الأكثر ظلمه  وحلكة وسواد  ، و تكمن عظمتها   في إيمان  مناضليها  بحتمية النصر كأيمانهم بحتمية الموت ،  و في فكرتها الشمولية  ورومنسيتها الثورية التي تخطت الأسوار الشائكة الحقيقية منها والوهمية فكرا وممارسة ، لتشمل معظم ساحات الخليج العربي  ووحدة ترابه وترابط أهدافه الوطنية .
ولايزال البعد الوحدوي في العمل الوطني خيار استراتيجي   يحظى بغطاء جماهيري واسع .  أخذت بعض نزعاتها  الرومنطيقية  المشروعة  التي تدفقت  كطوفان  جارف  من جراء العزلة  والغضب والمعاناة   المتراكمة  عقود  طويلة  برهان للنكوص عن الموجبات الوطنية . أفرزت التجربة الثورية  الكثير من الدروس  التي  تستحق التوقف امامها  وتأمل معانيها والتمعن في أبعادها ومدلولاتها  التاريخية  وانصافها كظاهرة فريدة  هي الأكثر إشراقا وروعة  في التاريخ الوطني المعاصر ،  حين دفعت بالعنف الثوري المنظم الأغلال ،  واشهرت الواقع المأزوم ، وأثارت جدلية الجوع والطغيان  كنقيض للسلم والاستقرار وعدم تعايشهما .
الكثير من الأطراف  تسعى للانتقاص من قيمتها  والتقليل من أهميتها و تضحياتها وهو بحق  مؤسف ومحزن . الامر الذي يستدعى أقتفى رسالتها  بموضوعية ، بعيدا عن الاحقاد، وردات  الفعل ،  والدوافع الانتهازية والوصولية ، والتقييمات  الآحادية ؛ بحيث تفهم كما هي ،  في زمانها ومكانها ،  ووفق ظروفها ومعطياتها ، حركة  وطنية صنعها الشعب في خدمة الشعب  ؛ وكل عمل مهما كان عظيم و نبيل ومخلص  لا يخلو بالضرورة  من النواقص والثغرات ،   و يؤخذ  ككل  مشروع تحرر وطني بأحلام وإنجازات واخطاء وهفوات ، مقابل المشروع القائم آنذاك ولا حاجه لتعداد مثالبه .. ولا يخالجني أدنى شك  في ضرورة  و أهمية  المشروع الوطني التقدمي وآفاقه العريضة ، الذي  فتح الطريق لتحولات كبرى  في الواقع الاجتماعي  ..
إن  سيرة الابطال  تفوق الخيال وهي أشبه بسيرة الأولياء ،   سعود المرزوقي  أحد  أبرز قادة الحركة الوطنية  وشهدائها العظام عندما وجه إليه  المحقق البريطاني تهمة خيانة الوطن أجاب : " أن كان حبي لعمان جريمة فليشهد التاريخ أني مجرما  "  لماذا لا يدرج هذا  النص  الرائع   ضمن مناهج التربية الوطنية ؟ السلام  عليك  يوم ولدت ويوم استشهدت  ويوم تبعث حيا ؛ و سلاما  على أرواح الشهيدات  والشهداء الساكنة  في كبد الشمس وقلب الشعب والوطن .
إن الذين  يجرؤون على إدانة  حركة  شعب  مضطهد   ومحروم  من ابسط الحقوق الإنسانية ،  ويقدم حوالي  ٣٠ شهيدة على مذبح الخلاص من الظلم   وتتقدمهن   اتسلوم سالم محاد المعشني التي افتتحت  سجل الخالدات في ١٠/٩/١٩٦٨ .. وتقف طليعته امام مقاصل الاعدام بهذا العنفوان الثوري والصفاء الذهني والانتماء الوطني  قلوبهم غلف وعيونهم اصابها الرمد . وستبقى  التجربة الثورية مصدر إلهام  ؛
وأن الإحاطة  بدروسها الثمينة  من كل الجوانب و صيانة  الذاكرة التاريخية   من التشوية   مهمة وطنية  مقدسة  تستحق المجازفة . ولاشك  بان كل  عمل وطني ديمقراطي يكون  أكثر نضجا عندما يتكيء  على  دروس الماضي وما أفرزه  من حقائق . وحيث التاريخ  لا يعرف الفراغ  فإن  مراجعة صادقة   تتجاوز ندوب الماضي وأثاره   أملا قائم ،  وأني ألمح  في  الافق إيجابيات عديدة  في  ظل العهد  الجديد  الذي هو امتداد  لمشروع دستوري مبكر في التجربة الحديثة  و لم يأت   نتيجة   صراعات وحروب أهلية ، ولا تلبية لرغبه خارجية ملحة ، ولم يفرش بساطه الأحمر  بالدماء ، وهي مزايا نادرة لم تتوفر لغيره  ، واذا ما احسن استغلالها  واستثمارها قادرة على تمكينه  من مقدرة  الإمساك بالقاعدة الفقهية الشهيرة "رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غير خطأ يحتمل الصواب "  وبالحسابات  السياسية  تعتبر فرصة تاريخية  استثنائية نحو التأسيس للدولة المدنية الديمقراطية  بكافة  عناصرها و استحقاقاتها  ومتطلباتها العصرية  ،  وهو مطلب وطني  في هذه المرحلة ؛  ولعله الطريق الأسلم  في تصليب البنية الداخلية من العواصف القادمة  ؛ حيث الانفراد والإقصاء والتهميش في النماذج العربية نتائجها  مؤلمة  .
لقد شاع كثيرا في المرحلة السابقة  مصطلح العفو ورغم  مظهره الأبوي العاطفي   إلا أنه  مصطلح غير سياسي ، و  تقف خلفه  قوى  معروفة   لن تكون أحرص على مصلحة الوطن من الوطنيبن أنفسهم   سواء كانوا في السلطة أم  خارجها  ؛  مهما ادعت  النصح والإخلاص وغيرها من الادعاءات . وكأن تعدد الآراء والاختلاف في الاختيارات السياسيه والاقتصادية  والاجتماعية  يعد من الموبقات. وكان بالأحرى نحت مصطلح المصالحة الوطنية بمضامينها الشاملة  .. وتبقى تطلعات القوى الاجتماعية في حرية العمل السياسي مشروعة ، وهو  من الضامنات  الرئيسية للاستقرار على المدى البعيد  ؛ حيث يفسح في المجال لقطاع كبير من أبناء هذا الوطن العزيز لهم اجتهادهم في خدمة وطنهم سابقا  ولاحقا.
في الذكرى الثامنة  والخمسون المجد لمن قدموا أرواحهم  في سبيل ان يحيا الآخرين  ، وعاشت عمان على طريق السلم  والتقدم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية   .