DELMON POST LOGO

سورية بين خولة مطر ونجاة رُشدي

بقلم : سامي كليب

عيّن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، السيدة المغربية نجاة رشدي في منصب نائبة المبعوث الخاص إلى سوريا، وذلك خلفا للكاتبة البحرينية السيدة خولة مطر. لا شك أن رُشدي تستحق هذا المنصب وذلك لخبرتها الطويلة في حل النزاعات وهي بالأصل كانت قد دخلت الى الملف السوري من بوابة واسعة، حيث تولّت منصب مستشارة إنسانية رفيعة المستوى للمبعوث الخاص إلى سوريا، ورئيس فرقة العمل التابع ل “مجموعة الدعم الدولية لسوريا”، لكن هل إمكانية نجاحِها قائمة فعلا؟  اعتقد انها ستخوض مهمة شبه مُستحيلة نظرا للتطورات السورية والدولية الكبرى.
الواقع أن هذه المقالة، ليست عن السيدة رُشدي وإنما عن أمرين آخرين، أولهما عن الكاتبة والدبلوماسية العريقة والصديقة خولة مطر، والثاني عن علاقة المبعوث الخاص للأمم المتحدة بسورية منذ بداية الأزمة ثم الحرب.
كنتُ غالباً ما أتساءل كُلّما عُيّنت خولة مطر في منصب دولي، أكان في الأمم المتحدة أم الإسكوا، كيف لهذه السيدة التي بدأت حياتَها بالتمرّد والنضال السياسي والاجتماعي، ثم تمايزت عن الكثير من زملائها عبر مقالاتِها الصحافية الجريئة، أن تهدأ أو تهنأ في منصبٍ دبلوماسي. فهي تتمتع بصراحةٍ وجرأة نادرتين، والعمل الدبلوماسي يتناقض تماما مع الصراحة.
ففي آخر مقالاتها مثلا في صحيفة ” الشروق ” تكتب:” طالت قائمةُ الممنوعات العربية، حتى صار الرقيبُ يستقرّ في قعرِ أدمغتِنا، بحيث يكتب الكاتبة او الكاتب سطرا ويمحو عشرة، فتفقد الكلمات معانيها وبريقها، وتصبح بقعةَ ماء بعد عاصفةِ مطر” ؟.
وفي المقال الذي سبق في “موقع 180″، نطقت خولة بما صار يسكت عنه اللسان العربي. وما هو شبه ممنوع حين تكون في مسؤولية دولية.  قالت باستشهاد الزميلة الفلسطينية شيرين أبو عقلة حزنها وألمها وغضبها وثورتها فكتبت: لم يكن بالإمكان أن ترحل شيرين كما يرحل الآخرون والأخريات.. بعض قماش وكفن.. لم يكن بالإمكان أن تبعد عن تراب أرضها الطاهرة التي سقيت بكثير من دمائهم، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا، وكثيرا من الشباب حاملي أكفانهم على كفوفهم وماضين في مواكب مهيبة إلى جنات الخلد.  
ابنة البحرين بدأت حياتَها إعلامية وكانت أول سيدة ترأس تحرير صحيفة يومية (الوقت) وعملت مراسلة لمؤسسات إعلامية عربية ودولية مهمّة وكبيرة ( اسوشييتد برس، بي بي سي، تلفزيون الشرق الأوسط، صحيفة الخليج وغيرها..) ، وتخصّصت أكاديميا في شؤون الاعلام ( وهذا نادر عند الإعلاميين العرب) حيث حصلت على دكتوراه في سوسيولوجيا الاعلام من بريطانيا، ثم تولّت بعد تغطياتها الإعلامية المهمة من اليمن وجيبوتي الى لبنان والبوسنة والهرسك وغيرها، إدارة المركز الإعلامي للأمم المتحدة في القاهرة ، وشاركت في العام 2011 في وضع تقرير عن أوضاع حقوق الانسان في تونس ضمن الأمم المتحدة، ثم صارت منذ العام 2012 المتحدثة باسم المبعوث الدولي الخاص الى سورية الأخضر الابراهيمي عام 2012.
هذا طبعا المعروف والرسمي عن تاريِخها وتاريخ عائلتِها التي ترعرعت في كنفها بالبحرين على البحرِ وعلى كل ما يعكسه من مدى رحب وأمواج ثائرة وعاتية، وثروات اللؤلؤ، ثم أكملت الانفتاح وحرية التفكير والتعبير عن هذه الحرية من خلال احتكاكها الواسع مع الغرب.  أما غير المعروف منذ شبابِها ونظرتِها الخاصة لأحوال بلادها والخليج والوطن العربي والعالم، فلو كتبته يوماً، لا شكّ أنها ستُحرّك مياهاً راكدة كثيرة، وربما ستكشفُ عن ملفاتٍ سياسية كبيرة ومهمة وخطيرة. فهي تعرفُ الكثير، ولم تقل الا أقلّ من القليل.
التقيتُها في المرة الأولى في اليمن. وجدتها شابةً زاخرة بالحيوية، ذات ذكاء متقد، وحرية تفكير نادرة في الوطن العربي، وجرأة في التعبير لا يحدّها شيء سوى الأخلاق، وسرعة بديهة تستنبط الطُرفة من بين الكلمات وتبتسم. ثم تكرّرت لقاءاتُنا التي غالبا ما كانت ذات نقاشات عميقة وغنيّة عن اوضاعنا العربية وتطورات العالم.
نادراً ما عرفتُ موظفاً دولياً من أصلٍ عربي، يواصل حملَ همّ أمّته ويحزن على حالِها، كما شأن خولة مطر. فهي في كلّ دولة عربية عاشت أو عملت فيها، تصرّفت كأنها دولتها، فرِحَت لفرحِها وحزِنت لحُزنِها فجمعت صداقاتٍ واسعة، وتعمّقت في سبرِ أغوار كل القضايا حتى لتشعرَ بها لُبنانيةً في لُبنان، ومصريةً في مصر، ويمنية في اليمن … الخ.
حين حطّت خولة مطر رحالَها في سورية، كانت تعرفُ الكثير عنها، ولا شكّ أنها كانت وما زالت تُحبّ كل ما تمثله هذه البلاد العريقة من حضارة وثقافة وتاريخ كما عدد لا بأس به من حواضِرِنا العربية. وكانت تعتقد أن ذلك سيُساهم في تسهيل عملِها الإنساني والأممي مع كل الأطراف، أي السُلطة والمعارضة، ذلك أن هذه الدبلوماسية العربية-الدولية ذات الخبرة الواسعة، كانت تُدركُ تماما حساسية الوضع، وتحرص على  الاّ يبدو عملُها ميّالاً لطرف على حساب آخر، وكان همُّها الأول والأخير، هو انقاذ ما يُمكن انقاذُه من الأرواح، وإيصال المساعدات الإنسانية لكل مُحتاج، والمساهمة قدر الإمكان في اقناع كافة الأطراف بالحلّ السياسي، وتشجيع التعامل مع الأمم المتحدة كغطاء دولي موضوعي الى حدٍّ ما.  
هنا بالضبط، يُصبح التناقض في أقصاه. بين قلبٍ عربي يحزن ويغضب ويبكي ويُجرح وهو يرى دولة عربية تُدمّر، وبين عقلٍ دولي دبلوماسي، يرى الحرب من منظورِها الأوسع، ويسعى لإقناع الجميع بتقليص فترة القهر والعذاب والدمار والدماء والدموع بالقبول بحلٍ سياسي.
نجحت خولة مطر في الكثير من المهمات الصعبة. خاطرت. غامرت بحياتِها. دخلت الى مناطق منكوبة. اجتازت حواجز الموت. كادت تموت مرارا. لكنها عرفت كيف تُحافظ دائما على ابتسامتِها المجبولة بالألم والأمل والقهر والرغبة بالإنقاذ، وهو ما ساعدها مرارا على تخليص أشخاص من فم الموت والقتل، وإنقاذ كثيرين عبر الجبهات.
السُلطة السورية لم ولن تثقَ بمبعوث دوليٍ. فهي تعتبرُهم جميعا أدوات أطلسية. غالباً ما أغلقت وستُغلقُ الأبواب في وجه أي مبعوث يأتيها لينزع بعض التنازلات. فمنذ وصول الأخضر الابراهيمي طارحا حلاً سياسيا يقضي بنقل جزء من الصلاحيات الرئاسية والحكومية الى المعارضة، حصلت أزمة أولى وتفاقمت حين طرح فكرة اللقاء من خارج البرنامج الرسمي مع فاروق الشرع. ثم تطوّر الخلاف مع المبعوث الآخر ستيفان دي مستورا الذي يُمكن وضعُ كتابٍ كامل حول محاولاته اليائسة والبائسة والفاشلة لإيجاد حل، فكان مساعدُه العربي المصري الجنسية والدبلوماسي المُحترِف رمزي عز الدين يدفع الثمن بحيث ينتظر أشهرا طويلة حتى يُحدّد له موعد في دمشق وغالبا مع مسؤولٍ من درجة ثانية أو ثالثة.
لن يكون الحال في الحاضر والمُستقبل أفضل، فالسُلطة السورية التي تعتبر أنها ربحت الحرب العسكرية، لن تُقدّم في السياسة ما تقول إن الآخرين عجزوا عن سحبه منها بالحرب. لن تقبل إدارة الرئيس بشّار الأسد لا الآن ولا غدا ولا بعد غد فرضَ أيّ دستور من الخارج، أو إشراكاً فعليّا للمعارضة (التي صارت مُعارضات متناقضة) في السلطة. لا بل بعد التحولات الدولية الكُبرى في أعقاب الحرب الأوكرانية، وعودة العالم الى شكل من أشكال الحرب الباردة بين الناتو من جهة وروسيا والصين وحلفائهما من جهة ثانية، صار من شبه المُستحيل أن نرى موسكو تضغط على الأسد لتقديم تنازلات. ربما سنشهد العكسَ تماما، أي تشجيعا على القيام بعمليات ضد الاحتلالين الأميركي والتركي (خصوصا بعدما خذلت انقرة الرئيس فلاديمير بوتين بقبولها عضوية فنلندا والسويد في الأطلسي).
ستحاول نجاة رُشدي لا شك أن تلعب دورا، لكن مهمتها ستكون شبه مُستحيلة ما لم تشعر السُلطة السورية أن هذا الدور مفيدٌ لها. فمن خلال معلوماتي بما “جاهدت” خولة مطر للقيام به في سورية حتى في أوج ضعف الدولة، أعرف كم اصطدمت بحواجز وحيطان وصخور، فكيف سيكون حال رُشدي فيما إدارة الأسد تشعر أنها ربحت الحرب وما عادت بحاجة لأي تنازل.
ربما لو سمعت الأطراف السورية بعض النصائح المُهمة والصادقة من خولة مطر في لحظات مفصلية، لكانت تجنّبت الكثير من الويلات.
كانت خولة مطر وستبقى علامة فارقة في العمل الدبلوماسي الأممي، لكنها حتماً ليست من النوع الذي يُريح من يُريد منفّذين خاضعين متملّقين يقولون ” نعم” لكلّ شيء، ويفعلون ما ليسوا مقتنعين به. فالفتاة التي تمرّدت على الكثير في مطلع شبابها، وتجرأت على ما لم يجرؤ عليه كثيرٌ غيرها في عالم الإعلام، واخترقت جبهات الموت مرارا لإنقاذ الناس، وتعزيز صورة الأمم المتحدة المهزوزة في عدد كبير من الدول، نموذج قلّ نظيره في العمل الدبلوماسي الدولي.
ربما لحسنِ حظّنا في عالم الاعلام، أننا سنربحها كاتبة أكثر نشاطاً من السابق، وربما سننجح بإقناعها يوما بأن تكتب بعضاً مما تعرف، فمعلوماتُها غزيرة، واسلوبها في الكتابة شيّق، وجرأتها مهمة ومفيدة وضرورية لنعرف أكثر.
----------------------------------------------
تنشره ( دلمون بوست ) نقلا عن موقع لعبة الامم – اعلاميون لا ابواق