DELMON POST LOGO

التضارب في الفهم والاستخدام اللغوي بين القلب والعقل

بقلم : د. قاسم عمران *

من وجهة نظري الخاصة اعتقد ان هذا الفيدو المرفق أعلاه يؤكد وجود تضارب في الفهم والاستخدام اللغوي بين القلب والعقل، لربما لتداخل لغوي لم يُحسم حتى الآن، مما يؤدي بالتالي إلى عديد من الإلتباسات في الفهم عند المتلقين.

ومقدما اقول ان المحتوى في هذا المقطع يتعارض علميا مع ماهو مثبت من وظائف القلب والمخ.

قبل البدء، يجب التنويه هنا أن مصطلح المخ او الدماغ يطلق على التركيبة او الكتلة العصبية المكنونة في الجمجمة، بينما يطلق مصطلح العقل على مجمل وظيفة المخ من تفكير وتخطيط وتحكم وتنظير واستقراء وذاكرة وتذكر وادارة التفاعل مع الآخرين الخ من وظائف المخ.

لنبدأ بالقول ان القلب في المفهوم العلمي ليس اكثر من مضخة دم يحتويها القفص الصدري تجلس فوق الحجاب الحاجز بين الرئتين ولا علاقة له بوظائف المخ المختلفة، ولكنه هناك عدد من الأسلاك العصبية تصل من المخ إلى القلب لزيادة او تخفيض دقاته.

ولكن هناك من يحاول ان بسند إلى القلب وظائف اخرى تتجاوز المتعارف عليه في كونه مضخة تقوم بتدوير الدم، لتشمل وظائفه ايضا التفاعل العاطفي والمشاعر والضمير، والتعقل والإعتقاد والتفكير الخ.

علميا هذه الوظائف المدعاة هي ابعد ما تكون عما يقوم به القلب كعضو بخلاف وظيفته الأساسية وهي ضخ الدم، لإفتقتاره لبُنية تركيبية معقدة لازمة لأي نشاط عقلي من خلايا عصبية وامتداداتها ونتوءاتها وعقد عصبية لتشكل تجمعات عصبية مختلفة المهام لتبرز وتنعكس في المحصلة على  السلوك او اختمار الأفكار وتولدها والحركة والإحساس الخ من وظائف.

لا اعلم من اين وكيف اتت اللغة بهذا الكم من الوظائف التي أسندت إلى القلب وجعلته مركزا ومصدرا لها في حين انه وظيفيا وبنيويا وتركيبيا غير مؤهل للقيام بها. وفي الحقيقة ان كل ما ينسب في اللغة إلى القلب تتعلق بالتفكير والإعتقاد والتعقل والمشاعر وحاسة الضمير هو من صميم وظائف المخ!

في فهمي المتواضع ارى ان القلب المعني والمتداول لغويا هنا ليس المقصود منه القلب العضو او مضخة الدم المكنون في القفص الصدري، بل هو تعبير لغوي عن معنى مجازي لمنطقة وسط المخ وهي مساحة تعتبر ضمن الطبقة الثانية في المخ.

فإذا أخذنا بعين الاعتبار نظرية نشوء المخ وتطوره في الحيوانات، فإن المخ يتكون من ثلاث طبقات:

١- الطبقة الأولى وهي جذر او قعر المخ (Brain stem) التي تشترك جميع المخلوقات الحيوانيّة في حيازتها بما فيها الإنسان وهي منطقة تحتوي على المراكز الأساسية للبقاء واستدامة الحياة وادارة عديد من وظائف الجسم داخليا، وأهمها مركز التنفس ومركز ضبط ضغط الدم، مركز ضبط إيقاع دقات القلب، حركة أمعاء الخ.

٢- الطبقة الثانية للمخ وهي عبارة عن تجمعات عصبية ولكن أهمها هو الجهاز العاطفي (limbic system) ووظيفته هي التفاعل والإنفعال وإدارة الأحاسيس والمشاعر والعواطف مثل الحب، الكره، الحسد، الرحمة، العطف، التعلق، الوجد، الاعجاب، التوتر، القلق، الخوف الخ.

٣- الطبقة الثالثة وهي قشرة المخ (Cortex) ونجدها في الحيوانات الأكثر تطورا مثل القردة والإنسان، ويتربع الإنسان على قمتها من حيث النمو والأداء العقلي، ومن هذه الطبقة تدار عمليات التفكير والمنطق والعقلنة، والترشيد، والإعتقاد والحكم والتحكم والتبرير والتفسير والموازنة والترجيح واتخاذ القرار والتخطيط والتنفيذ الخ.

اعود إلى الطبقة الثانية او الوسطى حيث تتوسط المخ بين جذر المخ وقشرة المخ وبها يتواجد الجهاز العاطفي الذي يمر من خلاله كثير الوطائف العقلية التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات فيما يخص التفاعل وضبط العواطف والتحكم في المشاعر والاحاسيس. وهذه المنطقة كغيرها من مناطق المخ تحتوي على خلايا عصبية يتفرع منها أسلاك ونتوءات إلى مراكز المخ العصبية الأخرى المتواجدة في الطبقة الثالثة (العليا) وإلى المنطقة الأولى (السفلى) وعند تنشيط أي مركز عصبي تنتقل الإشارات العصبية بشكل متناسق بين المراكز العصبية المتعددة لتغذي الأعضاء المعنية بالتنشيط العصبي، بناء على الظرف الذي يعيشه الفرد او يحيط به او بحسب الحاجة، فمثلا إذا كان هناك ظرف خوف وهلع يتم ارسال اشارات عصبية من مناطق المخ إلى ا لأعضاء المعنية بحالة الخوف لتهيئة الجسم للتعامل مع هذا الطارئ، فتتم ارسال اشارات للقلب لزيادة الدقات، وأخرى للرئتين لزيادة التنفس، وإشارات إلى الغدة الكظرية لزيادة افراز الأدرنالين، وأخرى الى العضلات لزيادة الانقباض وايضا يتم اشارات الى الطبقة الثالثة في المخ للتخطيط والتحكم وتقدير الموقف الخ. وعلى ذات المنوال تتفاعل المنطقة الوسطى من المخ وتستجيب للمحيط في حالات مثل الحزن او الاعجاب والانجذاب او تتفاعل مع الرائحة الطيبة او الخبيثة، او سماع ما يطرب او يبكي. وبما ان القلب يتلقى الإشارات العصبية من منطقة المشاعر هذه وليس العكس، فإنه سيتأثر بهذه المشاعر التي تتمظهر احساسا بخفقان في القلب عند الفرد.

وعليه فإن الإستخدام اللغوي لمعنى القلب قد ينطوي على احتمالين وكلاهما يحملان معنى يستبطن المعنى المجازي للقلب.

الأول: ما اردت قوله في الاحتمال الأول للألتباس اللغوي (على نطاق أضيق) انه يمكننا اعتبار المنطقة الوسطى في المخ بأنها قلب المخ والعقل مجازيا، لتوسطها المخ اولا، ولمحوريتها في النشاط العقلي ثانيا. مع التأكيد على انها منطقة مؤثرة بشكل كبير في القلب عن طريق زيادة خفقانه في حالات مختلفة من التفاعل، وليس العكس صحيح.

وموضع اللبس عند الناس هنا هو ان الفرد عندما يتفاعل مع محيطه عن طريق العقل فقط ثم ان استدعى هذا التفاعل التأثير في القلب وإشراكه لسبب او لآخر فإن اعراض هذا التأثير ستتمظهر في تغير في خفقان القلب، مما يوّلد عند الفرد احساسا بأن الفاعل الحقيقي او مصدر التفاعل عنده هو مع الحدث المحيط به هو القلب الذي احس بخفقانه وليس المخ الذي لم يلمس تفاعله.

ثانيا: أما الإحتمال الآخر لفهم هذا الإلتباس اللغوي(على نطاق اوسع) هو ان استخدام معنى القلب للتعبير مجازيا عن العقل. فلو افترضنا ان المخ ووظائفه المختلفة هي اصل وجود الإنسان وكل وجود هذا الإنسان يدور حول محتواه العقلي، بمعنى ان الإنسان ككيان لا يعد موجودا وذي قيمة تستحق المخاطبة إذا لم يكن لديه عقل، وبالتالي يمكن الاشارة مجازيا إلى العقل وكأنه قلب هذا الوجود وهذا الكيان المسمى انساناً، وكل تعبير لغوي عن القلب هي تلقائيا تعني العقل وليس القلب العضو المكنون في القفص الصدري.

وفي الختام، تبقى هناك عدة تساؤلات تحتاج لمزيد من النقاش العلمي والفهم اللغوي لعلنا نستطيع الربط بين مسمى او كلمة القلب في اللغة العربية او أي لغة أخرى، وبين منطقة وسط المخ لنتبين تأكيدا او نفيا هل الاستخدام اللغوي لكلمة القلب هو استخدام نصي على القلب العضو فقط ام انه تعبيرا مجازيا!

كذلك نحن بحاجة إلى تفسيرا مقنعا حول تكرار الإشارات اللغوية للقلب، بما يدفع الكثير من المفسرين لجعل القلب العضو الصدري وكأنه مصدر لوظائف عقلية كثيرة، وأغلبها يحوم حول المشاعر والوجدان مثل الحب والرحمة والرأفة والكره والحقد،  

والضمير، بل وذهب البعض إلى ابعد من ذلك في إسناد التفكير والإعتقاد إلى القلب، وجميعها وظائف اثبتت العلوم الطبية انها وظائف لا تمت إلى تركيبة القلب بصلة إلا صلة التأثير فيه وليس التأثر به او التلقي منه، وأن هذه الوظائف هي من صميم وظائف المخ فقط.

وأخيرا، المستقر علميا ان لكل عضو في الجسم وظيفة يقوم بها  لتتكامل وظائف الجسم، والقلب احد هذه الاعضاء ووظيفته التي لا خلاف عليها هي ضخ الدم لباقي اعضاء الجسم، وفي المقابل يقوم المخ والجهاز العصبي بجميع الوظائف العصبية ومنها التفكير والتخطيط والتحكم وادارة المشاعر والعواطف وضبط الاحاسيس والضمير، وإدارة التنسيق بين الأعضاء داخل الجسم، وكذلك إدارة التفاعل مع البيئة المحيطة. فلماذا الإصرار لتحميل القلب القيام بمهام اخرى كالوظائف العصبية، وماذا سنجني من وراء هذا الإسناد؟ هل نحن غير راضين عن الأداء العقلي للمخ ونريد ان نشرك القلب معه، او غير راضين بأن يكون القلب مجرد مضخة دم ونتمنى ان نرى له دورا في ادارة المشاعر والتفكير والعقل؟

------------------------------------------------

• طبيب عناية مركزة، وأمراض تنفسية وإضطرابات نوم.

الولايات المتحدة.