DELMON POST LOGO

نهار آخر .. يا أحمد، أرقد بسلامٍ فقد وفّيت العهد

بقلم: رضي الموسوي

كانت مقبرة أم الحصم على موعد مع الحشود التي جاءت تودّع المناضل أحمد الشملان إلى مثواه الأخير. كان الحضور يعزّي بعضه البعض، فالفَقد كبير، والراحل أكبر، اختطّ طريقًا عسيرًا منذ صغره. شارك في انتفاضة 5 مارس 1965 فبدأت رحلته الطويلة مع السجون والمنافي والتشريد والحياة المريرة، فكان يخرج من السجن ليعود إليه بعد حين أكثر صلابةً وإصرارًا على ممارسة ما يبشّر به من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية لأبناء شعبه. بوصلته ثاقبة حادّة النظر صوب الحق والإيمان بأن تحقيق الحلم على أرض الواقع من حتميّات الحياة رغم وعورة الدرب وطولِه.

**

بهدوء وسكينة أُدخل جثمان أحمد إلى محطته الأخيرة. كان القادم من وراء الجسر يحبس دموعًا في عينيه سرعان ما تساقطت، بينما كان الجسد الطاهر يتوارى عن الأنظار لتتواصل مراسم الدفن وسط حزن خيّم على الجمع والتراب ينهال على القبر، لتصطفّ الجموع تعزِّي بعضَها في أواخر أيام يونيو الحارة، ينظر الجَمع في بعضِه فيرى نفسَه في المرآة التي أشتدّ حزنها لرحيل قامة استثنائية.

**

لم يسترح أبو خالد طوال مشواره النضالي. لم يتردد في اتخاذ المواقف الصعبة، ولم يستوحش طريق الحق لقلّة سالكيه. كان يحفر في صخر القلعة وجِدَا وسافرة وفي الطريق كان يزيح حجارة ويعبِّد دَربا للآخرين الذين جاءوا بعده يحملون أحلامهم الصغيرة في وطن حر لا يرجف فيه الأمل وشعب سعيد يعيش الحياة بعزة وكرامة. سَبَر أحمد أغوار النضال. كان نقيًّا كماء الزُلال وشفّافًا ككأس العزّة التي لا يعرفها إلا من عجنته التجارب فأصبح لا يهاب ركوبَ الجبال ويرفض العيشَ بين الحُفر. لم يسترح حتى آخر جلطة غيَّبته عن الوعي. يومًا قال رفيقه في الحركة الثورية: "لا يعرف أحمد البقاءَ دون عملٍ نضاليٍ دؤوب. لم يؤمن بالفراغ، ولم يبحث عن رفٍّ يُركَن فيه".

**

كانت سنواتُ جَمر التسعينات تشتدّ حِلكة، وكانت قوافل المعتقلين تُسيَّرُ نحو "القلعة" و"الحوض الجاف" و"جو".. وما بينهم. كانت القبضات تعانق السماء، تبحث عن نور بينما الأحبة وراء القضبان. كان صوت أحمد في ألـ "بي بي سي" يكسر العتمة والصمت،  كان بدرا في ليلة ظلماء..يحكي وجعه..وجع الآخرين وأنينهم المنتشر في الأرجاء. لم يتحشرج صوت أحمد، ولم يتهدّج لحظة وهو يروي سرديته، سرديتنا المخضّبة بالدم والجراح الغائرة. كان يستحضر ظفار ودبي وبيروت وعدن وموسكو، وهو يتحدث عن جمرٍ نُفِخَ فيه للتو فتطاير رماده وأزداد الجمر احمراراً.

يا له من أحمد. كان الأهالي يتقاطرون على مكتبه المكتظّ بملفّات مئات من أبنائهم وأخوتهم وهم ينتظرون دورهم في المحاكم، بينما يقضي هؤلاء أوقاتهم في زنازن مشبّعة بالرطوبة والمرض وموزعة على الخريطة. وضع أحمد روحه ومحاماته على كفّه ومضى معهم. جلطة أفلَتَ منها فأخرى عطّلت لسانه عن الكلام وثالثة..آه لك المجد كله.  

**

يا أحمد،

أيها الراحل إلى الغد، خذ رحيقا وزادّا لمسيرة الشمس. حين تصل يستقبلك (أبو قيس)، أحمد الذوادي، سيف بن علي، وأبو أمل، عبدالرحمن النعيمي، سعيد سيف، ستتوسطون ثلّة من الأحبة الذين باغتتهم "عتمة باهرة" في ليلة ليس بها قمر. كأن مصائر الكبار تتقاطع في مفاصل من التاريخ يا أحمد.

**

هذه الحشود أتت لتهمس إلى ذاك المحمول على نعش مغطى ببشت أسود. هؤلاء ممتنّون   إلى ذاك الذي أفنى حياته وأشعل سنوات عمره قنديلا يضيء الدروب الوعرة والأزقة المعتمة.

رحل أحمد واقفا كنخيل البلاد العطشى وعاد إلى تراب حبيبته "أم الحصم"، التي حدّثها شعرًا ذات يوم من أيام مارس، بعد عشرين عامًا على أول دخول له في تلك الزنزانة المعتمة، قال كلاما لمدينته وكأنه يودعها:

"وافترقنا يا أم الحصم

أنا في المنفى

وأنت خارجه

وحين عدت ملهوفا لشاطئيك

أجابني الإسمنت والقار في جهامة:

يا للتخلف!!!

أجئت تندب نخلك القتيل؟

أم جئت تبكي شاطئًا صغيرًا

إياك تنشر الذعر

في انفتاحنا الجميل!!!"

**

نم قرير العين فقد أدّيت واجبك وأكثر، أنحزت لفقراء ومهمشي بلادك والعالم ولم تتردد قيد أنملة، ولم تلتفت إلى مغريات الزمن الرديء، فحفظ شعبك لك كل ذلك.

إلى رفيقة دربك "أم خالد"، فوزية مطر والعائلة الكريمة أحر التعازي الموصولة لرفاق دربك الأوائل والأواخر..

يا أحمد،،

سلامٌ لك وسلامٌ عليك،

وأنتَ، عظم ألله أجرك يا وطن