DELMON POST LOGO

نهار آخر .. ما الأمر يا بيروت؟

بقلم: رضي الموسوي

ليس هناك عاصمة تشبهها. كلما أرادوا خنقها وإحراقها تنتفض. تخرج من تحت الرماد، تجدد هيأتها وتعود عروسًا كما يليق بها. ربما تحاكي بيروت طائر الفينيق المرصعة صوره على جدران شارع "الحمراء" وتفريعات أزقته. يعلن الفينيق عن انبعاث جديد لمدينة أرادوا قبرها والخلاص من مقاومتها التي أسقطت ورقة توتهم؟

لا تشبه بيروت مدينة أخرى. رغم الخناجر المغروزة في أحشاء عواصم عدة قبل وبعد نزيف بيروت. يراد لها طأطاة الرأس لغولٍ لايتوقف عن لعق الدماء، في وقت تمعن فيه العواصم من تنكرها وتدير ظهرها كلما حاولت النهوض.. لكن بيروت غير. تشد أزرها  وتحمل وجعها ماضية بخطىٍ ملائكية واثقةٍ، غير آبهةٍ بنباح من يهرولون لعدوٍ يتهيأ للانقضاض.

**

هي بيروت المثخنة، النازفة حتى النخاع، المتراكمة قماماتها، المتزايدة قوارضها، المعتمة في زواياها الكثيرة، المنزاح أغلب أهلها نحو خط الفقر كما لم يحدث لأي عاصمة أخرى. مدينة جُبِلت على الحروب والمحاصصات الطائفية. ابتلت بطبقة فاسدة أفقدت عملتها الوطنية "الليرة"أغلب قيمتها الشرائية فهوى أغلب ما تبقى من ناسها إلى القاع. هي التي لاتزورها كهرباء الدولة إلا بضع ساعات مفسحة لقبضايات المولدات الخاصة وتجارها فتل عضلاتهم على العامة، كل في منطقته، لتأتي الخدمة لكل من يتمتع بالقدرة على دفع مقابل "الأمبيرات" المستأجرة. هي بيروت التي ينتشر الشحادون بمن فيهم الرضّع بحثا عن كسرة خبزٍ مغمّسة بالوجع والدم والقهر.

**

كأن بعضهم استكثر على بيروت موسمًا سياحيا دسمًا عماده المهاجرين الذين وجدوا في بيروت حضنا دافئا رغم تكسّر أضلاعها بحوافر خيل عدوها المتربص جنوبا وبعض أبنائها العاقّين الذين ارتموا في حضن عدوها وراحوا ينفذون أجندة شيطانية تتكشف ملامحها كلما تداوت بيروت وحاولت تجاوز كبوتها ووحشتها التي صعبت على "الكافر" بينما تجمّد جفن شقيقاتها دون أن يرف، بلا دم ودون حسٍ ودون عاطفةٍ وبلا خجلٍ. كانت تلك العواصم ترقص على الجراحات، وتتمتع بفرجة قاتلة وتواطؤٍ لم يفعله هولاكو في ضحاياه.    

**

هي بيروت التي واجهت بعينيها مخرز احتلال استيطاني لم يشهد التاريخ مثيلا له. احتلالٌ سُخِرت له الطوابير الخامسة لتركيعها ومساومتها على ثروة لاتزال مدفونة في قاع البحر،  يرفض عدوها استخراجها قبل أن يقبض ثمنها راية بيضاء لم يتمكن من نيلها حين كانت الحمم تسقط على رؤوس أبنائها قبل سبعة عشر عاما وتسحق بناها التحتية وضلوع اللذين رفعوا شعارهم الخالد "هيهات منا الذلة"، فأذاقوا عدوهم ويل الخزي والعار.

**

لكنها بيروت التي خبرَت لعبة السفارات السافرة، قاومت تدخلاتها في الانتخابات الأخيرة فطارت مئات ملايين الدولارات التي "بعزؤوها" على المتردية والنطيحة لإشعال حرب أهلية جديدة تطلق سهامها على كل من يفتح صدره يواجه رصاصات غازٍ متغطرس غرائزه لا تمت للبشر بصلة. ألم تكشف كذبة الكهرباء الموعود لبنان بها عبر مصر والأردن وسوريا وتجميد قانون قيصر الإجرامي على سوريا ولبنان لإنجاز هذه المهمة، فطار المازوت الايراني ولم تأتي كهرباء السفارة العتيدة؟!

"قيصر" الذي تمتد خرائبه إلى المتاجرة بأوجاع وآلام اللاجئين السوريين والقبض على رقابهم لإبقائهم قنبلة موقوتة في الأراضي اللبنانية عبر الإمساك بلقمة عيشهم كبشر يحق لهم العودة لديارهم وتأمين الحياة الحرة الكريمة لهم.

**

هي بيروت التي يستميت أعداؤها وخصومها لتفجيرها من الداخل كلما سنحت لهم فرصة، بينما يشمخ ناسها يقدمون دماءهم لإبعاد شبح الحرب الأهلية التي خبر اللبنانيون ويلاتها ولا تزال آثارها تفعل في الجسد اللبناني فعلتها في مختلف مناطق الالم والوجع ومفاصل الاقتصاد والسياسة والاجتماع والحالة النفسية.

بيروت تدفع ثمن رفضها التطبيع مع ما تعتبره عدو غاشم يقتل أطفال وشباب فلسطين. يهدم بيوتهم ويدنّس مقدساتهم ويصادر أراضيهم ويهجِّر أهلها خارج تراب وطنهم. ثمن تدفعه بيروت كما تدفعه فلسطين منذ قرابة المائة عام دما وفقدانا للشباب الذي لم ولن يستكِن ما دامت أرضه مدنّسة بالغزاة.

**

يوما تألقت الأيقونة فيروز فأطلقت حنجرتها في الفضاء الرحب:

"لبيروت من قَلبي سَلامٌ لِبيروت.

وقُبَلٌ للبَحرِ وَالبُيوت

لِصَخرةٍ كأنها وَجه ُبَحَّارٍ قَديمِ.

هي مِن روحِ الشَعبِ خَمرٌ …

هي مِن عَرَقِهِ خُبزٌ وَياسَمين

فَكيفَ صار طَعمُها.

طَعمَ نارٍ ودُخانِ.

لِبيروت مَجدٌ من رمادٍ لِبيروت.

من دَمٍ لِولدٍ حُمِلَ فَوقَ يَدِها.

أطفأت مَدينتي قَناديلُها.

أغلَقَت بابها

أصبَحَت في المَساء وَحدَها وَليلُ.

أنتِ لي أنتِ لي

آهِ عَانِقيني أنتِ لي.

رايَتي وحَجَرُ الغَدِ وَمَوجٍ وسفرٍ.

أزهَرت جِراحُ شَعبي أزهَرت.

دَمعَةُ الأُمَّهاتُ أنتِ بيروتُ لي.

أنتِ لي آهِ عانِقيني".

**

هذه الـ "بيروت" التي نعرفها ونعشقها، نصلي لها لكي لا يتمكن خفافيش الظلام من استلابها وأسرها، فهي فوق كل حالتها المتوثبة، تشكل قبلة المناضلين العرب والأمميين الذين كانوا يشعرون بأمن وسلام داخلي لم يعيشوه في بلادهم بسبب القمع والاضطهاد. وما حدث البارحة في منطقة الكحالة ليس إلا بالون اختبار لقدرة الفرقاء على لجم الانزلاق إلى مستنقع دموي لا يبقي ولا يذر.

ثمة من يكمن لبيروت ليعاقبها على فعلها المقاوم.

لك المجد يا بيروت