DELMON POST LOGO

نهار آخر.. 22 عامًا على تأسيس جمعية وعد .. من وهج الانفراج إلى عتمة العزل السياسي (3-8)

هامش الحريات الصحفية المتراجع

بقلم: رضي الموسوي

بعد عامين الانفراج الأمني والسياسي، بدأت تتلبد غيوم سوداء في سماء الحريات العامة وحرية الصحافة والرأي والتعبير. وكان أول امتحان في هذا المجال ما جرى لنشرة "الديمقراطي" لسان حال جمعية العمل الوطني الديمقراطي "وعد". ففي 24 سبتمبر 2003 حققت النيابة العامة مع رئيس تحرير "الديمقراطي"، كاتب هذه السطور، عن خبر نشره في عددها الرابع الصادر في سبتمبر 2003 عن فساد أحد مفتشي قطاع السياحة في وزارة الاعلام. ونشرت صحيفة "الوسط"، حينها، خبرا بهذا الخصوص في 22 سبتمبر 2003، جاء فيه: "استدعت النيابة العامة رئيس تحرير نشرة «الديمقراطي» التي تصدرها جمعية العمل الوطني الديمقراطي رضي الموسوي، للمثول أمام وكيل النيابة للتحقيق معه (..) وذلك في أوّل قضية ترفع ضد جمعية سياسية في البحرين. ويأتي الاستدعاء على خلفية خبر ورد في نشرة الجمعية انتقد تعيين مفتش على الفنادق زعمت النشرة أنه نفسه متهم بعدد من القضايا الجنائية. وقال الموسوي لـ "الوسط": "لم ترد في البلاغ جهة الادعاء، ولكني أرجح أن يكون الشخص نفسه المعني بالموضوع". وبيّن "أحد أهداف الجمعية محاربة الفساد المالي والإداري وتعريته، ويأتي نشر خبر النشرة في هذا الإطار". انتهى خبر صحيفة الوسط.

ينبغي القول أن تأسيس جمعية "وعد"، كما الجمعيات السياسية الجادة، لم يكن ترفًا ولا ديكورًا لتلميع الصورة، بل كان مسؤولية كبيرة تحملتها النخب السياسية التي كانت تقود وتعمل في صفوف التنظيمات السرية، وأعضاء وجمهور هذه التنظيمات الذين دفعوا اثمانا كبيرة لمواقفهم المعارضة.

لم يكن هؤلاء يلعبون أو يمضون أوقات فراغهم في العمل السياسي، انما كانوا يؤمنون بضرور هذا العمل بما يسهم في خدمة شعبنا البحريني. وحين تم تأسيس جمعية وعد أستنفرت كل الطاقات من أجل تجاوز مرحلة العتمة التي حكمها قانون تدابير أمن الدولة ووضع الأسس المتينة لمرحلة الانفراج الامني والسياسي والمشروع الاصلاحي. في تلك الاجواء ليس هناك مكانا للمزاح، بل للجدية حتى اقصاها. لقد وجدنا في العمل السياسي وهجًا يمكنه دفع المشروع الاصلاحي إلى الأمام لو تم التعاطي مع المعارضة بحد أدنى من التعاطي مع القضايا الكبرى بمرونة أكبر.

كانت قضية "الديمقراطي" التي بدأت في سبتمبر 2003 وانتهت بعد قرابة ثلاث سنوات عملت فيها على كشف فساد بيّن وواضح لو أن الجهات المختصة كلّفت نفسها البحث في التفاصيل لتوفِّر على نفسها عناء سنوات في محاكمة "الديمقراطي"، بتنقل الدعوى من المحكمة الجنائية الكبرى إلى المحكمة الدستورية بالتوازي مع الجلسات في المحكمة المختصة وصولًا إلى محكمة التمييز التي أعادتها إلى المحكمة الجنائية الكبرى التي قررت تبرئة الديمقراطي ورئيس تحريرها من التهم المنسوبة إليه وحبس المفتش الذي كتبت خبره بعد أن تبين أن هذا الموظف يواجه العديد من الدعاوى المتعلقة بالفساد في كل من البحرين والكويت، وربما دول خليجية أخرى.

التراجع في منسوب حرية الرأي والتعبير والذي بسببه سِيقت "الديمقراطي" للنيابة العامة، قوبل بردة فعل قوية من قبل الجمعيات السياسية ومنظمات المجتمع المدني الحقيقية التي طالبت جميعها بوقف هذه الجرجرة ووقف التحقيق مع الصحافيين ونشطاء الجمعيات السياسية على خلفية إبداء آرائهم التي كفلها الدستور. لقد كان استدعاء رئيس تحرير "الديمقراطي" مَفصلا جديًّا، وأرادت هيئة الدفاع امتحان الكيفية التي سيتم بها تطبيق قانون الصحافة والطباعة والنشر. هيئة الدفاع اجتمعت ليلة جلسة التحقيق مع قيادة جمعية العمل الوطني الديمقراطي "وعد" ووجهت سؤالًا لرئيس تحرير الديمقراطي: هل أنت مستعد لرفض دفع الكفالة وبالتالي التوقيف وذلك لوضع القانون أمام امتحان في مسالة "حبس الصحفي بناءً على رأيه"؟ كان الجواب بنعم. لكن هيئة الدفاع طلبت منِّي حسم الموضوع مع العائلة..كان جواب رفيقة الدرب ليلى مطابقا لما قررناه في ادارة جمعية وعد وهيئة التحرير.

في اليوم التالي بدأ التحقيق بحضور هيئة الدفاع وقرر الافراج عني بكفالة 1000 دينار لكنني امتنعت عن دفع المبلغ، وفق التفاهم مع قيادة "وعد" وهيئة الدفاع. رفع وكيل النيابة الجلسة للتشاور، وانقسم المحامون والحضور بين مؤيد لعدم الدفع وامتحان الكيفية التي سيطبق فيها القانون، وبين من دعا إلى دفع الكفالة.. تم سؤال زوجتي: سيتم توقيف رضي إن لم يدفع الكفالة. أجابت: لقد تفاهمنا البارحة على كل التفاصيل..وأنا مع قراره.. و"قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان" ورفضتُ دفع الكفالة فأُرسلت إلى مركز شرطة العاصمة في الحورة.

طلبت أن أرتاح في الزنزانة، لكن مدير المركز قال: أنت لست موقوفا. قلت له: إذن أذهب للبيت. قال: لا. بقيت فترة من الزمن، تمت إعادتي إلى النيابة العامة حيث قرر نفس وكيل النيابة تخفيض مبلغ الكفالة إلى 500 دينار، ورفضت دفع المبلغ ثم أُعدت مرة ثانية إلى مركز الشرطة. بقيت فترة، قصيرة وكان مدير المركز يرفض إرسالي إلى الزنزانة فبقيت مع بعض أفراد العائلة والرفاق والرفيقات، حتى جاءت وجبة الغداء من احدى بيوتات المحرق العريقة، وقد جُلب بصواني معبأة بالطعام الطيب، طبخته رفيقات لهن كل الاحترام.

طلب مدير المركز من موظفيه مغادرة مكاتبهم والقاعة التي يعملون فيها لنتناول طعام الغداء على تلك المكاتب. كان تصرفا حضاريا من مدير المركز الذي كان لبقا في تعامله معنا، حتى أنه وفّر قاعة عندما رغبنا في عقد لقاء استثنائي بين اعضاء قيادة "وعد" المتواجدين في مركز الشرطة، ناقشنا فيه مسألة الاستمرار في الموقف الرافض وعدم دفع الكفالة، كما ناقشنا عرض جمعية الصحفيين بان تدفع الكفالة، وقد تم رفض عرض الجمعية التي لم ترسل مندوبا لها في التحقيق وفق ما ينص عليه القانون.

خرجت من مركز شرطة العاصمة قرابة الساعة العاشرة مساءً دون أن أدخل الزنزانة وتوجهنا إلى مقر جمعية "وعد"، حيث تم تنظيم لقاء مفتوح على عجل مع الأعضاء حول ملابسات التحقيق والتوقيف. كانت هيئة الدفاع على حق عندما أرادت امتحان القانون والنيابة العامة والكيفية التي تتعاطى فيها مع نصوص القانون. لقد كان امتحانًا حقيقيًا، إذ لم يدخل بعدها صحفي السجن بسبب كتابته خبرًا، وقد استمر هذا الأمر حتى مارس 2011.

في ردة فعل محسوبة ومؤكدة، تضامنت الجمعيات السياسية والأهلية مع قضية "الديمقراطي" ونظمت اعتصامات أثناء التحقيق والمحاكمة، وأصدرت بيانات تضامنية، ووجدت في جرجرة "الديمقراطي" للمحاكم تراجعًا خطيرًا في مساحة الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير والحريات الصحفية. وكان الموقف اللافت بين الجمعيات الأهلية، ما أكدته اللجنة التحضيرية لنقابة الصحفيين في بيان لها قالت فيه "مع احتجاز الزميل رضي الموسوي إثر رفضه دفع الكفالة، يكون أول صحافي بحريني يتم حبسه بسبب قضية نشر في عهد الاصلاحات والديمقراطية، ولا نعتقد أن احتجاز الزميل الموسوي سابقة حميدة للمشروع الاصلاحي ولا للديمقراطية الناشئة في بلادنا، بل نقطة سوداء في سجل الديمقراطية".

في افتتاحية العدد السادس من نشرة "الديمقراطي" الصادر في نوفمبر 2003، كتبتُ في مطلع افتتاحية العدد: "تتعرض الحريات العامة، وعلى راسها حرية الرأي والتعبير، إلى امتحان عسير، ربما يؤدي إلى قلب الطاولة والانقضاض على الهامش الذي أتيح مع انطلاقة المشروع الاصلاحي لجلالة الملك والعودة إلى الأيام المظلمة لقانون تدابير أمن الدولة".

كان هذا التفصيل في قضية "الديمقراطي" ضروريًا لأن التوقيت كان مقدمة لتراجعات متتالية أعقبت المحاكمة. والآن، وبعد عشرين عامًا على دعوى "الديمقراطي" في المحاكم، تراجعت الحريات الصحفية من بشدة لدرجة لم يعد القارئ يُفرّق بين الأخبار التي تنشر في الصحف المحلية، فتصدر صباح كل يوم وكأنها خارجة من مطبخ واحد، بينما يغيب عنها الرأي الآخر الذي هو لازمة وشرط أي إصلاح منشود.

لقد كنا جادين في الفعل الاعلامي والصحافي، ومخلصين للإصلاح المطلوب من بلادنا الولوج فيه، دون وهم الحلول المعجزة والعصا السحرية، بل كنا نؤمن أن مكافحة الفساد قضية وطنية وينبغي الشروع فيها دون تاخير إن أردنا تنمية مستدامة وتطور لبلادنا. وبدون وجود معارضة سياسية جادة وإعلام مهني يكشف مواطن الخلل والفساد ويضع يده على الجرح، فإن الوضع سوف يزداد سوءًا، كما لا يمكن الحديث عن إصلاح دون شفافية وإفصاح محميين بقوة القانون الذي ينبغي أن يطبق على الجميع دون استثناء.