DELMON POST LOGO

نهار آخر .. بين 1 يناير 1965 و7 أكتوبر2023 .. التحول النوعي المطلوب

بقلم: رضي الموسوي

يصادف الأول من يناير ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية في التاريخ المعاصر. ففي ذلك اليوم من عام 1965 انطلقت الرصاصات الأولى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) التي أسسها الشهيد ياسر عرفات بمعية القادة الأوائل أمثال أبو إياد وأبو جهاد. وقد تزعم عرفات المنظمة حتى وفاته في أحد مستشفيات فرنسا في نوفمبر عام 2004 إثر تعرضه للتسميم البطيء الذي دسه الاحتلال الصهيوني في غذائه وهو محاصر في رام الله. وأعلن عن انطلاقة الثورة الفلسطينية بقيام مجموعة فدائية بتفجير نفق عيلبون الذي كانت قوات الاحتلال تسرق من خلاله مياه نهر الأردن لتزوّد بها المستوطنات الصهيونية في صحراء النقب. وقد أصدرت حركة فتح حينها بلاغا عسكريا رقم (1) جاء فيه: "اتّكالًا منا على الله، وإيمانًا منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيمانًا منا بالموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج، وإيمانًا منا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم، لذلك تحركت أجنحة من قواتنا الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964م، 1/1/1965م، وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملة ضمن الأرض المحتلة".

كانت الأمة العربية تغلي غضبا على النظام الرسمي العربي الذي فرّط في فلسطين إثر النكبة عام 1948، وكان القرار الفلسطيني مصادرا من قبل هذا النظام المرتهن للقوى الاستعمارية في ذلك الوقت مثل بريطانيا التي كانت تتواطأ مع الحركة الصهيونية فأصدرت وعد بلفور عام 1917، بعد عام على اتفاقية سايكس بيكو (3 يناير1916) التي ورثت الإمبراطورية العثمانية المريضة أواخر الحرب العالمية الأولى في الولايات العربية خارج شبه الجزيرة العربية، فقررت الاتفاقية التي صادق عليها البلدان في مايو من نفس العام تقسيم منطقة الهلال الخصيب لتكون فلسطين والأردن وجنوب العراق تحت السيطرة البريطانية، بينما ذهب إلى فرنسا جنوب شرق تركيا وشمال العراق وسوريا ولبنان.

على إثر النكبة شهدت بعض البلدان العربية انقلابات وتحركات جماهيرية وخصوصا في مصر والسودان وسوريا والعراق والأردن ولبنان، فتشكل نظامٌ رسميٌ عربيٌ هجين بعضه منهكٌ والآخر تحت السيطرة الاستعمارية، وكانت الثورة الفلسطينية في بواكيرها الأولى وتشكيلاتها الطرية، فجاءت ثورة عام 1936، التي فطن مفجروها إلى المرامي الصهيونية بتنفيذ وعد بلفور وإقامة الدولة الصهيونية في خاصرة الوطن العربي. قادت هذه الإرهاصات إلى تشكّل الوعي الفلسطيني بضرورة تفجير ثورة منظمة تستند على القاعدة الجماهيرية للشعب الفلسطيني ودعم قوى التحرر العربية بما فيها الأنظمة الوطنية العربية الوطنية مثل مصر عبد الناصر التي أعادت إحياء القومية العربية وطرحت شعارات ونفذت برامج الاصلاح على الأرض وأممت قناة السويس وبنت السد العالي.

وفرت انطلاقة حركة فتح مناخا إيجابيا ومعنويات عالية بين جماهير الشعب الفلسطيني، لتنطلق بعد قرابة ثلاث سنوات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (ديسمبر1967) بقيادة جورج حبش ووديع حداد، والتي وضعت لها في البداية شعار "وراء العدو في كل مكان"، وشكلت فرعا للعمليات الخارجية بقيادة حداد الذي أذاق العدو مرًّا لم ينسَه حتى يوم وفاته عندما قال أحد زعماء العدو الصهيوني "انبشوا قبره وتأكدوا أنه مات"، لشدة الرعب الذي بثه في قلوب الصهاينة، منذ عام 1968 بعملية اختطاف طائرة العال الصهيونية في 23 يوليو1968، وتبعتها بعدة أشهر الهجوم على إحدى طائرات شركة العال في ديسمبر من نفس العام، ثم اختطاف عدة طائرات في 1970، لتستمر عملية خطف الطائرات التي كان آخرها عمليتا عنتيبي في 1976وعملية اختطاف طائرة لوفتهانزا في 1977 التي استشهدت فيها الشهيدة البحرينية الفلسطينية ناديا دعيبس. كانت "الشعبية" ترمي من قرارها هذا إعادة الضوء الذي خفت والاهتمام الذي تراجع بالقضية الفلسطينية وكأن النسيان قد بدأ يدب في مفاصل العالم تجاهها، لكنها في النهاية أغلقت هذا الفصل وركّزت على الفعل الداخلي الذي تجلَّت بعض ملامحه في "جيفارا غزة".

مرت الثورة الفلسطينية بمنعطفات تاريخية ومفصلية، أهمها مجازر إيلول في الأردن عام 1970، وانتقال قوات الثورة الفلسطينية إلى لبنان لتتفجر الحرب الأهلية في منتصف سبعينات القرن الماضي وتستنزف قوات الثورة وتترهل بعض قياداتها بغرق بعضهم في العمل المكتبي بدلا من الفعل النضالي على الأرض. ولم يكن النظام الرسمي العربي بعيدا عن هذا التحول في أكبر فصائل الثورة الفلسطينية، بل كان مساهما في تحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى شبه نظام رسمي يغرق في الفساد والمحسوبية والحسابات البعيدة عن عملية تحرير فلسطين، حتى جاء الاجتياح الأول لجيش الاحتلال إلى جنوب لبنان في مارس 1978 وإقامة شريط حدودي أطلق عليه "دولة لبنان الجنوبي" بقيادة الضابط المنشق عن الجيش اللبناني سعد حداد، وذلك بهدف إبعاد صواريخ الكاتيوشا ومقاتلي الثورة الفلسطينية عن مستوطنات شمال فلسطين المحتلة.

كان الإرباك في قيادة منظمة التحرير هو السائد وقد تمت تغذيته من قبل بعض الانظمة العربية، فقد زاد الترهل رغم بعض العمليات التي تم تنفيذها انطلاقا من الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، حتى جاء الغزو الصهيوني للبنان في صيف 1982، وما انتجه ذلك من إبعاد قوات الثورة الفلسطينية من بيروت والجنوب وضرب البنى التحتية لمنظمة التحرير وفصائلها المقاتلة وترحيل المقاتلين إلى الشتات الجغرافي الذي أضعف كافة الفصائل وأثّر سلبا على عطائها وعملها في سبيل التحرير.

كرّت سبحة التنازلات بعد مؤتمر القمة العربية في فاس المغربية، والتي تمخّضت عن اعتراف ضمني بالكيان الصهيوني، وتواصلت بعد الخروج الكبير من بيروت بينما كانت قوات الاحتلال تعيث فسادا في لبنان، ما أدى  لإنطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في سبتمبر1982 من القوى الفاعلة كالحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي والحزب القومي السوري الاجتماعي وغيرها من الأحزاب الأخرى، حتى جاءت العملية الكبرى في 1983 التي أودت بحياة نحو 250 من ضباط وجنود قوات المارينز والقوات الفرنسية المتواجدة في لبنان، وهو الأمر الذي أدى إلى فرار هذه القوات من الأراضي اللبنانية. ربما تكون هذه العملية هي التي عُرِف بها تاريخ تأسيس حزب الله.

بعد هذه الفترة الصاخبة والمليئة بالمنعطفات الحادة، جاء السكون والتحول إلى العمل السياسي، لكن الداخل كانت له كلمة أخرى لتبدأ مرحلة جديدة تحول فيها الثقل الى الاراضي المحتلة، وتوَّج بالانتفاضة الأولى التي هندسها الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) والتي تفجرت في 1987وصار يطلق عليها "انتفاضة أطفال الحجارة"، لتعم الأراضي المحتلة حالة الغضب ورفض الاحتلال وممارساته الفاشية. ومع أن الانتفاضة كانت في أوجّها وكان يمكن استثمارها لصالح استراتيجية التحرير، إلا أن قرار المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1988 بإعلان الدولة الفلسطينية على أراضي ما قبل نكسة يونيو/حزيران 1967 قد ثبَّطت من الهمم وأحدثت شرخا بين الفصائل، التي بدأ الانهاك يدبّ في مفاصل بعضها بينما أخذت مكانها الحركات الإسلامية الجهادية وفي مقدمتها حركة حماس التي أسسها الشهيد أحمد ياسين مطلع ثمانينات القرن الماضي. مع بلوغ المفاوضات السرية أوجّها، أسدل الستار على هذه الانتفاضة كشرط صهيوني-امريكي للوصول إلى اتفاق أوسلو، وتلاه بعد عام اتفاق وادي عربة. بيد أن الإحباط الذي أصاب الشعب الفلسطيني في الداخل من اتفاق أوسلو وسلسلة التنازلات التي حولت السلطة الفلسطينية إلى جهاز أمني يحرس الاحتلال وحمايته من مقاتلي الفصائل المناضلة، قد فجر الانتفاضة الثانية في عام 2000، وكان الشهيد الطفل محمد الدرة أيقونتها بمشاهدة العالم صراخه وهو في حضن والده محاولا الاحتماء به وخلفهما جدار لم يشفع للطفل وأبيه صرف جنود الاحتلال عنهما، فانهالوا عليهما بالرصاص الحي حتى استشهد الطفل محمد. ومع استمرار الضغط من قبل الكيان الصهيوني والنظام الرسمي العربي ومن ورائهما الولايات المتحدة الأمريكية تم إخماد انتفاضة الأقصى في عام 2005.

وبين 2005 وعام 2023 الذي انقضى للتو جرت مياه كثيرة تحت جسر النضال والقضية الفلسطينية، فكان التطبيع مع النازيين الجدد هو الشغل الشاغل للإدارات الأمريكية المتعاقبة، حتى جاء الرئيس ترامب ونفذ ما لم يقدم عليه أي رئيس أمريكي قبله بأن قام بنقل مقر السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وأعلن ترامب مدينة القدس عاصمة أبدية للكيان وبهضبة الجولان السورية جزءًا من أرض هذا الكيان الغاصب، ضاربا عرض الحائط كل القوانين الدولية المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني ووضع القدس والجولان. تُوِج كل ذلك بما يسمى ب"الاتفاقات الإبراهيمية" التي هي في جوهرها خضوع للإرادة الصهيونية المدعومة أمريكيا، فكانت هذه مقدمات أفاضت كأسها العدوان المتكرر على المسجد الأقصى وسحل النساء في باحاته، ففاض الكأس وجاء طوفان الأقصى كعنوان رئيسي لمرحلة جديدة لم تكن مبتورة من جذورها التاريخية، بل هي استكمال لمسيرة النضال الوطني الفلسطيني، الذي يتجسد اليوم على أرض غزة والضفة الغربية، حيث يتصرف الكيان وجنرالاته ومستوطنوه مع الشعب الفلسطيني كحيوانات بشرية وفق وصف وزير مالية الحكومة الصهيونية، فيما أكد الشعب الفلسطيني وفصائله المقاتلة الصمود ومواجهة جيش الاحتلال الذي يمارس إبادة جماعية وتطهير عرقي قل نظيره.

في صبيحة السابع من أكتوبر 2023 أصدرت كتائب القسام، الذراع العسكري لحركة حماس البلاغ الأول، جاء فيه: "إنه في ظل غطاءٍ صاروخيٍ مكثف واستهدافٍ لمنظومات القيادة والسيطرة لدى العدو، تمكن مجاهدو كتائب القسام من اجتياز الخط الدفاعي للعدو، وتنفيذ هجوم منسق متزامن على أكثر من 50 موقعاً في فرقة غزة والمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال وأن مجاهدي الكتائب لا يزالوا يخوضون معارك بطوليةً في 25 موقعًا حتى اللحظة، ويدور القتال حالياً في قاعدة "رعيم" مقر قيادة فرقة غزة". وبعد مضي قرابة 3 أشهر على الطوفان، تتجسد الوحدة الوطنية في الميدان..في غزة التي تقاوم غزو الدول الغربية وليس جيش الاحتلال وحده. لقد احدث الطوفان نقلة نوعية في الصراع مع العدو، وسيؤرخ ذلك اليوم بما قبله وما بعده.

في الذكرى التاسعة والخمسين لانطلاقة الثورة الفلسطينية ثمة أولويات ملحة ومن الضروري انجازها من قبل الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح التي فقدت الكثير من بريقها وجمهورها بسبب مواقف السلطة الفلسطينية التي تعتبر فتح عمودها الفقري. أولى هذه المهام هي التخلص من درن أوسلو الذي قاد للتطبيع المشين وإغراق الضفة الغربية والقدس بمئات آلاف المستوطنين، والوحدة الوطنية الفلسطينية التي هي هدف مرحلي لفعل استراتيجية التحرير ومواجهة الاحتلال أينما وجد على أرض فلسطين من النهر إلى البحر. فطوفان الأقصى في السابع من أكتوبر كُتب بالدم الفلسطيني الذي يراق على كل الخارطة الفلسطينية بما فيها أراضي الــ48، ولا يمكن الحديث عن دعم وتضامن عربي وأممي فعّال إن لم تنتقل الفصائل الفلسطينية إلى تجسيد الوحدة على الأرض وكنس اتفاق أوسلو المذل، والبناء على النتائج المباشرة للطوفان وخصوصة تداعي وبداية انهيار السردية الصهيونية وصعود السردية الفلسطينية معبرة عن الحقيقة التي لا يمكن حجبها بغربال الاحتلال ووسائل إعلامه وداعميه.