DELMON POST LOGO

نهار آخر .. الهند..عملاق يولد من تحت الرماد

بقلم: رضي الموسوي

"استعد لكل ما تأتي به الأيام

وواجهه سواءً بسواء

تحمّل إذا كنت سندانا

وإذا كنت مطرقة إضرب"

(زين العابدين عبد الكلام، رئيس جمهورية الهند الأسبق ورائد المشروع النووي الهندي..من كتاب "أجنحة من نار").

بينما كان العالم يصارع للخروج من تبعات وباء كوفيد19 (كورونا) الكارثية، وفيما كانت القوى الكبرى تدخل في حرب أوكرانيا الاستنزافية، كانت الهند تسير بخطى ثابتة نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي محققة قفزات مهمة تمكنت فيها من إزاحة مكان لها تحت الشمس بجانب الدول الكبرى، رغم التحديات التي تواجهها وخصوصا الانفجار السكاني الذي بلغ 1.4286 مليار نسمة وأصبح في الأشهر الأخيرة الأكبر على مستوى العالم، متقدمة على الصين التي تراجع عدد سكانها إلى 1.4257 مليار نسمة، وفق إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة.

عدد السكان الكبير سلاح ذو حدين، يمكن أن يكون عنصر قوة مثلما استثمرته الصين بعد انتصار الثورة في عام 1949 بقيادة الحزب الشيوعي الذي تزعمه ماوتسي تونغ، وحولت البلاد إلى مصنع كبير للعالم، وتقف اليوم إلى جانب الولايات المتحدة على قمة الهرم الاقتصادي العالمي وتفوقها في براءات الاختراع وفي الصناعات العديدة، وتمكنت من تحويل التحدي إلى فرصة نجاح وعنصر قوة. وتسعى الهند للسير على خطى هذا النموذج وتضع له استراتيجيات فشل الحد من معدل الخصوبة المرتفع نسبيا في العقود الماضية. كان الرئيس الهندي الأسبق عبد الكلام قد طرح تساؤلا يتعلق بمصير أمته: "لقد فرضت قلة من الدول التي نمت من الناحية التكنولوجية خلال القرون القليلة الماضية هيمنتها وفق مصالحها الذاتية، وأعلنت عن نفسها بأنها فائدة مزعومة لنظام العالم الجديد. ماذا تعمل دولة تضم بليون نسمة مثل الهند في وضع كهذا؟ ليس لدينا أي خيار إلا أن نصبح قوة تكنولوجية. لكن، هل باستطاعة الهند أن تصبح رائدة في المجال التكنولوجي؟"، كان جواب عبد الكلام بشكل حازم: "نعم".

أصبحت الهند قوة نووية في 13 مايو 1998 عندما فجرت قنبلتين انشطاريتين، وعقدت حكومتها مؤتمرا صحفيًا أعلنت فيه "أن الهند أصبحت دولة نووية مكتملة الأركان". هذا الانجاز كان نتاج فكر وجهد الرعيل الأول من قادة الهند الذين وجدوا في هذه الأمة عظمة لم يكشف عنها بعد نظرا للجهل والفقر والمرض. وقد أكد الزعيم جواهر لال نهرو في 1961 على ضرورة مكافحة هذه الآفات الاجتماعية، بقوله في خطاب له: "العلم وحده هو القادر على حل مشكلات الجوع والفقر ونقص الصرف الصحي والأمية والخرافات والعادات والتقاليد الخاطئة، إن المستقبل للعلم، ولمن يتخذون العلم صاحبا".

مرت الهند بمحطات تاريخية مفصلية منذ ما قبل الميلاد حيث الحضارات القديمة منذ 2500 قبل الميلاد، وإخضاع الهند للحكم البريطاني المباشر في 1858، وبدء مواجهة الاستعمار البريطاني التي توجت بالاستقلال في 1947، وبتقسيم البلاد إلى الهند وباكستان، ثم تحولت الهند إلى جمهورية في 1950هيمن عليها حزب المؤتمر لفترة ليست قصيرة. واندلاع حرب حدودية محدودة سنة 1962 بين الهند والصين، وولادة دولة جديدة (بنغلادش) سنة 1971 نتيجة الحرب بين الهند وباكستان، لتزيد التوترات بين البلدين وتصبح لازمة منذ الاستقلال حتى الوقت الحاضر، الأمر الذي قاد الهند للتفكير في التجارب النووية التي بدأتها في عام 1974، واستمرت حتى أصبحت دولة نووية وقوة عسكرية لا يستهان بها.

اقتصاد صاعد

هكذا انطلقت الهند، من تحت الرماد ومن الفقر والإثنيات والقوميات المتناحرة لتؤسس دولة تقنية ونووية بعد أن وضعت نصب أعينها الاستثمار في الإنسان ليكون وسيلة التنمية المستدامة وهدفها في آن واحد. فرغم التحديات التي تواجهها هذه الدولة على مختلف الصعد، إلا أنها تمكنت من السير فوق الألغام التي زرعها الاستعمار البريطاني ومنها الخلافات الدينية والمذهبية والعرقية لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم، حيث قفز حجم الاقتصاد الهندي من 1.857 تريليون دولار في عام 2013، ليصل في عشر سنوات إلى المرتبة السادسة عالميا بناتج محلي إجمالي يبلغ 3.17 تريليون دولار في 2023، بعد أمريكا والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا، متقدما على اقتصاديات عريقة مثل فرنسا وإيطاليا وكندا وروسيا وأسبانيا. وفي فبراير/شباط 2023 توقع وزير التجارة الهندي بيوش غويال، "أن تصبح الهند ثالث أكبر اقتصاد في السنوات الخمس المقبلة، وإذا استمر النمو بهذه النسبة فسيرتفع الناتج المحلي الإجمالي إلى 40 تريليون دولار في عام 2040"، أي بعد مائة عام من استقلال الهند. ويحقق الاقتصاد الهندي معدل نمو كبير مقداره نحو 9 بالمائة، رغم أن لديها أدنى دخل للفرد ويبلغ 2256.6 دولارًا سنويا. لكن هذا الدخل كان قبل 50 عاما يبلغ 83 دولارًا، حسب البنك الدولي. متقدمة على الصين التي يبلغ النمو فيها 8.3 بالمائة، وفق توقعات صندوق النقد الدولي للعام الجاري.

وفي مجال التكنولوجيا حققت الهند تقدما ملحوظا خصوصا في الإدارات العليا للشركات التكنولولجية. وتفيد المعطيات أن الأشخاص من أصول هندية في هذه الشركات في "وادي السليكون" بالولايات المتحدة الأمريكية يشكلون نسبة مهمة، فهناك 12 رئيسا تنفيذيا أو نوابهم في هذه الشركات، ويشكل العاملون من أصول هندية في وادي السليكون 6 بالمائة من إجمالي العاملين هناك، رغم أنهم يشكلون 1 بالمائة من سكان أمريكا. وفي هذا الصدد يقول المدير التنفيذي السابق لشركة "تاتا سان" الهندية الشهيرة ر.غوبالا كريشنان "لا توجد دولة أخرى في العالم تدرب العديد من المواطنين بطريقة أشبه بالمصارعة كما تفعل الهند (..) ينشأ الأشخاص ويدربون في الهند ليكونوا (مديرين بشكل طبيعي) بدءاً من معاناتهم مع الحصول على شهادات ميلاد إلى استخراج شهادات وفاة الأهل، وبيروقراطية قبولهم في المدارس إلى حصولهم على وظائف، ناهيك عن معاناتهم مع البنية التحتية المتردية إلى القدرات غير الكافية".

لكن الهند ليست النمو في الناتج المحلي الاجمالي فقط، بل هي التحديات الكبرى التي تسعى لتحويلها إلى فرص تُقتنص، والهند دولة مصدرة للعمالة، نظرا للفقر المدقع الذي تمكنت في الفترة ما بين 2006 و2016 من مواجهته وإخراج 271 مليون هندي من براثنة، وفق تقارير الأمم المتحدة. كما أن البطالة تشكل تحديا آخر، حيث بلغت نسبتها نهاية ديسمبر الماضي 8.3 بالمائة مقارنة بنحو 8 بالمائة في الشهر الذي سبقه. ومع أنها نسبة كبيرة لكنها تقترب من نسبة البطالة أو أقل منها في الدول النفطية الغنية مثل دول مجلس التعاون الخليجي التي تزيد البطالة في بعض دولها عن 12 بالمائة. وتعتبر البطالة واحدة من التحديات الكبرى التي تواجهها الهند، وهي تعمل على معالجتها، بينما تعمل على الاستفادة من تحويلات العمالة الهندية المهاجرة البالغة 100 مليار دولار في 2022 لتعتبر أول دولة تدخلها هذا الحجم من المليارات من عمالتها المهاجرة.

وللهند علاقات تاريخية وطيدة مع الخليج العربي، تزايدت بعد الانسحاب البريطاني من الخليج وحصول الطفرة النفطية منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث تدفقت العمالة الهندية على الخليج لتشكل نحو 30 بالمائة من إجمالي العمالة الوافدة، حيث يبلغ عددها قرابة 10 ملايين عامل، اي نحو ثلث العمالة الوافدة في هذه الدول والبالغة 28 مليون عامل. ويتركز العاملون الهنود في الإمارات، إذ يشكلون 3.5 مليون عامل، وهم أكثر من مواطني الدولة الذين يبلغ عددهم 2.7 مليون نسمة، كما أنهم يوازون تعداد مواطني خمس دول خليجية وهي الإمارات وقطر والبحرين والكويت وعمان. وبالمقابل يستثمر الهنود في دول الخليج مليارات من الدولارات، وتشير الاحصائيات إلى ان حجم استثمارات أكبر 100 رجل أعمال من الهنود تبلغ 26.5 مليار دولار في 2018، يقف على رأس هؤلاء الملياردير يوسف علي صاحب مجموعة اللؤلؤ لتجارة التجزئة بثروة تقدر ما بين 4-5 مليار دولار، وبي آر شيتي بثروة تقدر بـ4 مليار دولار ورافي بيلاي المتخصص في أعمال التشييد والبناء وتقدر ثروته بنحو 4 مليار دولار.

وفي مجال متصل، تقدر التجارة الثنائية بين الهند والخليج بنحو 154 مليار دولار حسب موقع "إنديا تودى"، بعجز لصالح دول مجلس التعاون يبلغ 67 مليار دولار، نظرًا لاعتماد الهند على النفط الخليجي بنسبة تصل إلى 80 بالمائة. لكن هذ العجز ربما يكون في طريقه إلى التراجع بسبب دخول روسيا على الخط وبيعها النفط على الهند بأسعار مُخفضة.

قلق أمريكي

صعود الهند السريع يعني صعود آسيا بوجود عملاقين يتمتعان بثقل بشري ضخم هما الصين والهند، فضلا عن قوتهما الاقتصادية وتشعّب نفوذهما في مختلف بلدان المعمورة، إضافة إلى اليابان وكوريا الجنوبية وأندونيسيا. يأتي قلق واشنطن وحلفاؤها، بعد الحرب الأوكرانية التي أرادت منها الدول الغربية إغراق روسيا في مستنقع لا قاع فيه، فبدأت الضغط على نيودلهي من أجل فك ارتباطها بموسكو، لكن العلاقات الهندية الروسية تاريخية راسخة، إذ تعتمد الهند في تسلّحها على السلاح الروسي بشكل رئيسي، ما يصعب تفكيكها، خصوصًا وأن تطور العلاقات الصينية الروسية تقلق الهند، لما لهذه الأخيرة من توترات مع بكين تتعلق بالخلافات الحدودية وبعلاقة الصين مع باكستان.

هذا التشابك في العلاقات الإقليمية والدولية واندلاع الحرب في أوكرانيا، تشكل إرهاصات لولادة عالم متعدد الأقطاب بعد عقود من تفرّد أمريكا بزعامة العالم أو بما يعرف بعالم القطب الواحد، وهو التطور الذي ترفضه واشنطن رغم أنه أمر واقع ولا مفر من قرب تحوله إلى حقيقة خصوصا في الجانب الاقتصادي. فمن أصل 20 دولة في مقدمة الركب الاقتصادي العالمي، هناك 10 دول آسيوية ومن أمريكا اللاتينية، بعضها على خصام مع الولايات المتحدة نفسها، ما يجعل من تأليب واشنطن الوضع على روسيا عند الهند لا يستقيم مع متطلبات ومصالح البلدين. فقد زادت نيودلهي من استيراد النفط الروسي، رغم العقوبات المعلنة على موسكو، من 70 ألف برميل في اليوم قبل حرب أوكرانيا إلى 1.62 مليون برميل يوميا في مارس/آذار الماضي، تشكل 40 بالمائة من إجمالي واردات الهند من النفط، وتقوم الهند بتكرير هذا النفط وتصديره إلى الدول الغربية.

أما العلاقات الهندية الصينية التي تسعى واشنطن للعب على حبلها وتوتيرها، فيبدو أن البلدين مدركان مصالحهما، وقد نجحا في تهدئة التوتر إلى حدودها الدنيا وإعادة بناء العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية وتوسيع علاقاتهما الإستراتيجية والعسكرية، بما يقطع الطريق على محاولات واشنطن.

خلاصة القول، أن الهند عملاق آسيوي يخرج من بين الرماد، ليسهم في إرهاصات ولادة عالم متعدد الأقطاب بعد طول انتظار. وفي المخاضات ثمة آلام مصاحبة للولادة الجديدة..وهذا ثمن التغيير.