DELMON POST LOGO

نهار آخر ..الرابع عشر من فبراير..لماذا وصلنا إلى هنا؟

بقلم: رضي الموسوي
يصادف اليوم، الرابع عشر من فبراير، الذكرى الثانية عشرة للحراك الشعبي، الذي انطلق بدعوات مجاميع شبابية على وسائل التواصل الاجتماعي، لتمتد شرارته إلى مختلف المناطق إثر تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبقائها دون حلول، وتراجع وعود الإصلاح التي وردت في ميثاق العمل الوطني الذي تمر الذكرى الثانية والعشرين للتصويت عليه . يأتي 14 فبراير هذا العام وبلادنا البحرين مثقلة بأزمات كبرى تعاني من تعقيدات أكثر مما كانت عليه قبل اثني عشر عاما، فلماذا وصلنا إلى هنا؟ وهل بقت فسحة من أمل للخروج من هذا الوضع الذي ينذر بمخاطر تهز السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي؟
عندما سقط أول شهيد هو على مشيمع فجر الرابع عشر من فبراير 2011 ولحق به في اليوم التالي شهيد آخر هو فاضل المتروك، وبعد ثلاثة أيام تم الانقضاض على دوار مجلس التعاون الخليجي (دوار اللؤلؤة) استشهد أربعة هم علي خضير، محمود أبو تاكي، علي المؤمن والحاج عيسى عبدالحسن، كرّت السبحة وسقط عشرات الشهداء في العديد من مناطق البحرين، بعد أن تحول الحراك إلى موجات بشرية فرضت معادلتها وعادت الجموع للدوار قرابة شهر قبل الانقضاض الثاني عليه في 16 مارس 2011 وسقوط المزيد من الشهداء والضحايا ودخول السجن آلاف المحتجين واتخاذ قرار فصل آلاف آخرين من أعمالهم، لندخل في تلك العتمة.
منذ ذلك الوقت سالت دماء كثيرة أزّمت المشهد أكثر وضاعفت التوتر والاحتقان. تشكلت اللجنة البحرينية لتقصّي الحقائق برئاسة محمود بسيوني وقدمت تقريرها المفصّل في الثالث والعشرين من نوفمبر 2011 إلى القيادة السياسية، حيث خرجت بنوصيات منها توصية تقضي بتشكيل لجنة لمتابعة تنفيذ التوصيات تكون المعارضة جزءًا منها. وافق الجانب الرسمي والمعارضة السياسية على تقرير بسيوني وتوصياته، رغم ما جاء فيه من قصور، وتشكلت لجنة المتابعة بلا جمعيات معارضة، بخلاف المطلوب. ادّعت اللجنة أن الحكومة أنجزت كل التوصيات بل وزادت عليها، لكن الشواهد تقول غير ذلك، فعاشت البلاد في إنجازات وهميّة بينما ظلت الأزمات تتراكم وتحتقن، وتتضاعف أسباب تفجّر الحراك الذي تمّت مواجهته بالحلول الأمنية بعد أن تم الدعس على الحلول المتاحة حينها ممّا زاد الطين بلة.
إحدى توصيات لجنة بسيوني أن تشرع البلاد في حوار وطني جاد، فكان حوار التوافق الوطني مطلع شهر يوليو 2011 واستمر شهرا، وشارك فيه أكثر من 300 شخص غالبيتهم الساحقة ليس لهم علاقة بالمجال السياسي، بينما كانت نسبة القوى المعارضة تشكل أقل من 10 بالمئة من إجمالي المشاركين الذين جاء أغلبهم ليكرّروا مقولتهم الشهيرة "الله لا يغير علينا"، والتي تم نسخها في كل اللجان التي تشكلت، ومنها اللجنة السياسية التي تعتبر لجنة رئيسة في الحوار.
خرج حوار التوافق الوطني بخفّي حُنين، فأصدر جلالة الملك مطلع عام 2013 أمرًا باستكمال الشق السياسي من حوار التوافق الوطني، لكن هذا انتهى أيضا بنفس النتيجة التي بلغها سابقه، ذلك أنه حين تغيب الإرادة السياسية  والنيّة الجادة للخروج من الأزمة والبحث عن حلول لها، لن تكون النتائج في مستوى الطموح ولن توضع الأزمة على سكّة الحل الناجع لها.
لم يغب عن قوى المعارضة السياسية المعطيات المعقدة التي بلغتها الأزمة وحالة التجييش التي تمت بتشكيلات تأكد أنها آنية وتأسست لأغراض ضرب المعارضة، وهذا ما أكده أحد قادتها الرئيسيين في مقابلة إذاعية: "نحن معارضة ضد المعارضة"، بل بادرت قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية إلى تقديم مبادرات ومقترحات لحل الأزمة. فبالإضافة إلى تمسّكها بسلمية الحراك وبالثوابت الوطنية الجامعة وفي مقدمتها ميثاق العمل الوطني، تقدمت بمقترحات مهمة وجادة من شأن تنفيذها أن تزيّت مفاصل الأزمة الجامدة وتحرك المياه الآسنة من تحتها، انطلاقا من التزام أخلاقي وإنساني تجاه الوطن والمواطن، وللإسهام في لجم اندفاعة الفجور في الخصومة التي كان الإعلام يغذّيها ويصب الزيت على نارها. لقد أصدرت القوى المعارضة وثيقة المنامة في أكتوبر 2011، تحتوي على نقاط وبنود جدّية تحاكي وتنطلق من مبادئ مبادرة سمو ولي العهد التي أعلنت المعارضة تأييدها، لكن الإعلام طمس الحقيقة وروّج غير ذلك.
وعندما تواصل الانزلاق الخطير نحو شيطنة المعارضة وتسقيطها وزاد منسوب الفجور في الخصومة والاحتقان وانتشار دمامل التمييز الطائفي والمذهبي للدرجة التي هددت الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي المحتقن أصلا، باشرت قوى المعارضة في كتابة وإصدار وثيقة "إعلان مبادئ اللاعنف" في نوفمبر 2012، جددت فيها  التأكيد على احترام الحقوق الأساسية للأفراد والقوى المجتمعية، والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية، وإدانة العنف بكل أشكاله ومصادره وأطرافه، والدفاع عن حقوق المواطنين في حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين الجمعيات.
لم تكن السنوات اللاحقة لحراك فبراير 2011 هادئة، إنما كانت شديدة التعقيد، والسياسة السائدة تضرب العمود الفقري للوحدة الوطنية بخطاب الكراهية الذي تصاعد بالتوازي مع عملية تجريف العمل السياسي التي بلغت أوجها في استدعاءات أمين عام أكبر جمعية سياسية الشيخ علي سلمان في 2013 مؤقتا ثم اعتقاله  نهاية ديسمبر  2014 حيث لايزال وراء القضبان يقضي حكما بالسجن المؤبد. هذه الأجواء فرضت على المعارضة القيام بواجباتها تجاه الوطن فأصدرت في يناير 2014 وثيقة "لا للكراهية"، مشروع التسامح ومناهضة التحريض ضد الكراهية، أكدت فيها على  أن التحريض على الكراهية آفة تفتّت المجتمع البحريني، وتقوّض السلم الأهلي، وتشجّع على التعصب والتشدد والاستقطاب الطائفي ويتوجب محاربته.
لم تكن قوى المعارضة تعبث بالوقت ولا بالناس، بل كانت مسؤولة وجادة بحثا عن حل للأزمة التي تناسلت فأنبتت أزمات تراكمت. وجاء لقاء الشيخ علي سلمان مع سمو ولي العهد منتصف يناير 2014 بهدف معالجة الأزمة المتفاقمة وفشل حوار 2013. في ضوء ذلك صدر بيان حكومي منتصف يناير 2014 أكد على أن اللقاء (بين ولي العهد والشيخ علي سلمان) أكد على أن المحادثات المستقبلية "ستركز على قضايا منها القطاع التشريعي والقضائي والدوائر الانتخابية"، حسب البيان الحكومي حينها.
لم يجرِ التعاطي مع وثائق المعارضة وأدبياتها بإيجابية، بل كان العمل جار على تسقيط هذه القوى وشيطنتها في الوقت الذي تغرق فيه البلاد في المزيد من الأزمات بما فيها تضاعف الدين العام بسبب استمرار العجز في الموازنة العامة والتسرب الذي لم يتوقف، حتى بلغ هذا الدين  أكثر من الناتج المحلي الإجمالي ومرجح له أن يستمر في التزايد، بما يضع الاقتصاد والبلد أمام مأزق كبير فوق ما تعاني منه في قضايا البطالة والفقر والإسكان والأجور المتدنية وإيقاف الزيادات السنوية للمتقاعدين. كل ذلك يحصل بينما الأزمة السياسية في احتقان متصاعد والقيادات السياسية لاتزال في السجون بمعيّة آلاف السجناء على خلفية الأزمة، رغم إطلاق مبادرات العقوبات البديلة والسجون المفتوحة، وهي مبادرات مرحب بها لكنها ليست كافية.
السنوات الاثنى عشر التي أعقبت الرابع عشر من فبراير 2011، أكدت على أن الحوار ليس مطلبًا للمعارضة فحسب، وهو ليس ترفًا سياسيًا يجرى الاستغناء عنه ببيان صحفي لا يغني ولا يسمن من جوع، بل هو ضرورة، وضرورة قصوى لمواجهة استحقاقات المرحلة بعد أن تأكد أن الحلول الأمنية للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لن تؤدّي إلى مكان، بل تُعقّد الوضع وتزيد الأزمة استفحالا.
إن شيطنة المعارضة ومحاربتها وعملية التجريف والعزل السياسي وحل الجمعيات قد فاقم الأزمة بكل تفريعاتها، ولم يعد هناك من خيار إلا الحوار المجدي بين أطراف العمل السياسي الذي يشكل خارطة طريق للحل والشروع في التنمية المستدامة وتشييد الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على العدل والمساواة واحترام حقوق الانسان والحرية والديمقراطية.