DELMON POST LOGO

العلاقات الأمريكية-السعودية بين قرارات أوبك بلس وحرب بوتين في أوكرانيا

بقلم : هشام ملحم

وصلت التطورات الميدانية والسياسية المتلاحقة بسرعة مذهلة في الحرب الأوكرانية إلى نقطة انعطاف هامة خلال الأسبوع الماضي. خلال أيام هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، ورد عليه نظيره الأميركي جوزيف بايدن، وغيره من المسؤولين الأميركيين، بأن لجوء موسكو إلى مثل هذا التصعيد الجنوني سيعرضها إلى عواقب كارثية. وفي خطوة لافتة، أبعدت دول بارزة، مثل الهند والصين، نفسها عن موسكو في أعقاب تهديدات بوتين النووية، وهجماته الصاروخية ضد الأهداف المدنية، ما يعني أن علاقات روسيا السياسية والاقتصادية بهاتين الدولتين الهامتين مرشحة لفتور أكثر، خاصة إذا تمادى الرئيس الروسي في تصعيده.

وفي ظلال الحرب الأوكرانية، قررت الدول النفطية المنضوية تحت مظلة أوبك بلس، التي تضم روسيا، تخفيض إنتاجها الجماعي بحوالي مليوني برميل في اليوم (هناك اجتهادات مختلفة بين الخبراء حول الحجم الحقيقي للتخفيض، وما إذا كان جميع اعضاء المجموعة سيلتزمون بالاتفاق خاصة وأن بعضهم مثل العراق أبدوا تحفظهم عليه) بحجة أن الانخفاض المستمر لأسعار النفط العالمية بدأ يؤثر سلبًا على اقتصاداتها. وأحدث قرار أوبك بلس دويًا هائلًا في واشنطن في ضوء الدور القيادي الذي لعبته السعودية في تحقيقه، خاصة وأنه جاء بعد أشهر قليلة من زيارة بايدن إلى الرياض، وحصوله على وعد من القيادة السعودية بأنها ستزيد من إنتاجها اليومي بنسبة نصف مليون برميل. (السعوديون يقولون أنهم وعدوا بزيادة مئة ألف برميل في اليوم فقط).

وسارع الرئيس بايدن إلى القول أنه ستكون هناك “عواقب” على السعودية بسبب اتفاقها مع موسكو على قرار التخفيض، وأشار إلى أنه سيجري مشاورات مع قادة الكونغرس بعد الانتخابات النصفية في مطلع الشهر المقبل حول الاجراءات العقابية التي ستتخذ ضد الرياض في سياق عملية “إعادة تقييم” العلاقة مع المملكة. حديث الرئيس بايدن عن عواقب ضد السعودية جاء في سياق ازدياد الانتقادات ضد السعودية في الكونغرس، وخاصة من قيادات الحزب الديموقراطي التي تطالب بإجراءات عقابية مختلفة ضد المملكة.

الرئيس بايدن لم يتطرق إلى مضمون هذه العواقب، ولكنه يدرك أن بعض القيادات الديموقراطية في الكونغرس، وتحديدًا في مجلس الشيوخ، تسعى إلى تعليق مبيعات الأسلحة للرياض، وحرمانها من التقنيات العسكرية الأميركية، أو سحب القوات الأميركية من السعودية، والتي يقدر عديدها بثلاثة آلاف عنصر، وتعديل القوانين التي تسمح بمقاضاة قطاع الطاقة السعودي في المحاكم الأميركية، والتركيز على انتهاكات حقوق الانسان.

وكان رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور النافذ، بوب منينديز (Bob Menendez)، قد هدد بعرقلة جميع صفقات الأسلحة المقبلة مع السعودية، بسبب ما وصفه بـ “دعمها” للغزو الروسي لأوكرانيا، وبسبب دورها في قرار أوبك بلس خفض إنتاج النفط. وطالب منينديز، المعروف أصلا بانتقاداته للسعودية، واشنطن أن “تجمد على الفور كل جوانب تعاوننا مع المملكة العربية السعودية، بما في ذلك أي مبيعات للأسلحة، وأي تعاون أمني بما يتجاوز ما هو ضروري بحت للدفاع عن الطواقم والمصالح الأميركية”. من جهته قال السناتور الديموقراطي بيرني ساندرز (Bern ie Sanders) “يجب علينا سحب جميع القوات الأميركية من المملكة العربية السعودية، والتوقف عن بيع الأسلحة لهم، وإنهاء كارتل النفط الذي يحدد الأسعار”.

وتقدم كل من السناتور الديموقراطي ريتشارد بلومنتال (Richard Blumenthal) والنائب الديموقراطي رو خانا (Ro Khanna) بمشروع قانون في مجلسي الكونغرس يدعو إلى “الوقف الفوري لجميع مبيعات الأسلحة الأميركية إلى المملكة العربية السعودية”.

الشعور السائد بين المسؤولين الأميركيين، وأقطاب الحزب الديموقراطي في الكونغرس، هو أن قرار مجموعة أوبك بلس الذي يأتي في سياق حرب ضارية تخسرها روسيا، وبغض النظر عن الاعتبارات الاقتصادية لمعظم الأعضاء، سوف يساهم عمليًا في تمويل الغزو الروسي لأوكرانيا، كما أن توقيته ليس بريئًا برأي الحكومة الأميركية لأنه جاء قبل حوالي شهر من الانتخابات النصفية، ولأنه أدى إلى ارتفاع أسعار المحروقات في الولايات المتحدة حتى قبل الإعلان الرسمي عنه، مع ما يحمله ذلك من دلالات سلبية على مشاعر الناخب الأميركي وفرص المرشحين الديموقراطيين.

هكذا، وخلال أيام قليلة، دفعت الحرب الأوكرانية الأطراف المشاركة فيها مباشرة إلى اتخاذ قرارات جذرية وتصعيدية، أكدت أكثر من أي وقت مضى أنها لن تنتهي في أي وقت قريب، وأن الأطراف المتقاتلة ليست في مزاج تفاوضي. كما دفعت بدول أخرى بعيدة جغرافيًا عن ساحات المعارك، مثل الهند والصين، لإبعاد نفسها عن التصعيد الروسي ضد المدنيين. قالت الخارجية الصينية إن “سيادة جميع الدول وحرمة أراضيها تستحق الاحترام”، ودعت إلى بذل جميع الجهود لحل الأزمة سلميًا. وأعربت الخارجية الهندية عن قلقها من مضاعفات التصعيد الأخير، وأضافت في نقد ضمني للهجمات الصاروخية الروسية، “بما في ذلك الهجمات التي تستهدف البنى التحتية وقتل المدنيين”.

من جهتها سارعت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة إلى تأكيد وقوفها مع أوكرانيا بعد إطلاق روسيا لمئات الصواريخ روسية الصنع، والمسيرات إيرانية الصنع، والتعهد بزيادة دعمها عسكريًا وتزويدها بالأسلحة المضادة للصواريخ. ويمكن القول إن الحرب الأوكرانية – على الأقل من وجهة النظر الأميركية – أعادت وضع العلاقات الأميركية-السعودية في منطقة التأزم.

تفجير جسر كيرتش الاستراتيجي، الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم المحتلة، ورد الفعل الروسي المدمر والدموي عليه، أكد بشكل صارخ ما يقوله المحللون العسكريون منذ أسابيع، من أن روسيا تخسر الحرب على طول جبهة القتال، وأن أوكرانيا تملك المبادرة العسكرية والإرادة السياسية لمواصلة القتال. وإذا كانت أوكرانيا وراء تدمير الجسر كما ألمح بعض المسؤولين فيها وكما تتهمها موسكو، فإن ذلك يعكس قدرة أوكرانيا على التخطيط لتنفيذ عملية تستهدف الشريان الأساسي الذي يوفر الخدمات اللوجستية للقوات الروسية المنتشرة في جنوب أوكرانيا. هذا التخطيط الدقيق ينسجم مع طبيعة الهجمات المنسقة والفعالة التي تقوم بها القوات الأوكرانية ضد القوات الروسية منذ شهر سبتمبر/أيلول الماضي، والتي أرغمت القوات الروسية على الانسحاب من مناطق واسعة في محيط مدينة خاركيف في شمال أوكرانيا ومحيط مدينة خيرسون في الجنوب، مخلفة ورائها جثث قتلاها ومئات الدبابات والعربات المسلحة التي غنمتها القوات الأوكرانية، وسارعت إلى استخدامها ضد اصحابها السابقين.

في المقابل، جاء الرد الروسي على شكل قصف صاروخي عشوائي وغاضب، استهدف مناطق ومراكز سكنية وصناعية وحتى سياحية، وبعض البنى التحتية غير الحيوية، وأظهر بشكل محرج أن موسكو عاجزة عن تنظيم رد عسكري منظم ومنسق ضد القوات الأوكرانية.

في مقابلته الأخيرة مع شبكة سي إن إن، قال الرئيس بايدن أنه لا يتوقع أن تستخدم الرئيس بوتين الأسلحة النووية في الحرب الأوكرانية، ولكنه انتقد تهوره في التلويح بهذه الأسلحة، مشيرًا إلى أن الرئيس الروسي أخطأ جذريًا في حساباته وتوقعاته من الغزو. ولكن من الواضح من تقويم العديد من المحللين العسكريين أنه مع دخول الحرب في شهرها الثامن واقتراب فصل الشتاء، وحقيقة أن القوات الروسية تجد نفسها في حالة تقهقر وعاجزة عن اتخاذ المبادرات الميدانية، ما أدى إلى خلق حالة احباط في أوساط القيادة السياسية والعسكرية في موسكو، هو ما يقلق المسؤولين في واشنطن وغيرها من العواصم الغربية من أن الخيار النووي ليس مستحيلًا، وإن ليس قريبًا أو متوقعًا. التقويم الأولي للهجمات الصاروخية الروسية الانتقامية بعد تفجير جسر كيرتش هو أن بوتين أراد من هذه الهجمات الانتقام من الأوكرانيين، ولكن أيضا إرضاء الفئات والشخصيات الروسية المتشددة، التي تريده أن يصعّد أكثر من حربه ضد أوكرانيا، وأن يتخلص من القادة العسكريين الذين أخفقوا في تحقيق الانتصارات العسكرية المتوقعة، أو الذين انسحبوا أمام تقدم القوات الأوكرانية.

قبل يومين، أصدرت إدارة الرئيس بايدن “استراتيجية الأمن القومي ”، وهي الوثيقة التي يفترض أن تعتمدها كل إدارة أميركية (وفقًا لقرار من الكونغرس)، والتي تشرح فيها مفهومها للأخطار والتحديات الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية التي تواجهها الولايات المتحدة. تقول الوثيقة إن التحدي الأساسي الذي تواجهه الولايات المتحدة في السنوات المقبلة هو “تحقيق تنافس أفضل ضد الصين وضبط روسيا”، وفي الوقت ذاته العمل على صيانة وإصلاح الديموقراطية في الداخل.

وترى الوثيقة أن روسيا “تمثل خطرا مباشرًا للنظام الدولي الحر والمفتوح، وهي تنتهك بشكل متهور القوانين الأساسية للنظام العالمي الراهن، كما يتبين من حربها العدوانية الوحشية في أوكرانيا”. في المقابل فإن الصين “هي الدولة الوحيدة التي تنوي إعادة تغيير النظام الدولي، وتحصل أكثر فأكثر على القوة الاقتصادية والديبلوماسية والعسكرية والتقنية لتحقيق هذا الهدف”. من هذا المنظور، روسيا تمثل خطرا آنيًا أمنيًا، ولكنها ليست قوة اقتصادية أو تقنية عالمية مثل الصين.

كيف أثرت الحرب في أوكرانيا على مكانة روسيا؟ تقول الوثيقة الأميركية “بشكل عام، حرب بوتين أدت، بشكل عميق، إلى تهميش مكانة روسيا مقارنة بالصين وغيرها من القوى الآسيوية مثل الهند واليابان. والقوة الناعمة لروسيا (نفوذها الثقافي والفني) ونفوذها الديبلوماسي قد انحسر، بينما أدت جهودها لعسكرة مصادر الطاقة إلى ردود عكسية. والرد العالمي التاريخي على الغزو الروسي لأوكرانيا قد بعث برسالة مدوية تقول إن الدول لا يمكنها أن تستمتع بفوائد الاندماج العالمي في الوقت الذي تنتهك فيه البنود الأساسية في ميثاق الامم المتحدة”.

تاريخيًا، تحالفت روسيا مع فصل الشتاء لهزيمة غزو نابوليون بونابارت في القرن التاسع عشر، وغزو أدولف هتلر في القرن العشرين. هذه المرة، في ضوء الاخفاقات الروسية اللوجستية، من المتوقع أن تحقق أوكرانيا، وليس روسيا، مثل هذا التحالف القوي مع فصل الشتاء، واستخدامه في مقاومتها للاحتلال الروسي. سيكون شتاءً قاسيًا ينتظر بوتين وجيوشه في أوكرانيا.

------------------------------------

هشام ملحم هو باحث غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، وكاتب عمود ومحلل سياسي.