DELMON POST LOGO

ماذا فعل المستشار البريطاني تشارلز بلغريف في البحرين؟ (6-7)

- واجه المستشار مشكلة التوفيق بين الحاكم الشيخ سلمان وبين الانجليز، وكان يقف مع الحاكم ويهدئه إذا ارتكب المقيم السياسي في الخليج فظائع

- في عهد الشيخ سلمان بن حمد، تم وضع اللبنات الأساسية لتشكّل الدولة الحديثة، وبناء إدارة قوية للبلاد.

- ساهمت مشاريع البنية التحتية والنمو الاقتصادي في ارتفاع مستوى الوعي السياسي، وبروز نخبة من المثقفين الذين روّجوا لمفاهيم الحرية والمساواة والعدالة والاستقلال عن الاستعمار البريطاني.

- حركات الوعي والتنوير في الوطن العربي، أدت لنمو مبكر للوعي القومي للمواطنين، وهيمنة الأفكار المؤيدة للقومية العربية، والمُنتقدة للسياسات الاستعمارية، ولوجود الشركات النفطية الأجنبية في

البلاد.

- لم يكن بلغريف يعتقد بأن الزعماء في هذه الحركة يملكون أية قوة، لكنهم وحدهم يملكون الخطاب الديمقراطي، والذي يؤيده الأشخاص الواعون من شعب البحرين.

- قرّرت هيئة الاتحاد الوطني إعلان الإضراب العام في البلاد، مما دفع الحكومة للإعلان عن بعض الإصلاحات، لكن هيئة الاتحاد الوطني طالبت بإصلاح الأوضاع الاجتماعية للمواطنين.

- لعبت الصحف والمجلات، كـ«صوت البحرين»، دورها في إبراز المطالب الشعبية التي تبنتها هيئة الاتحاد الوطني، ومنها وضع حد لسلطات بلجريف كرمز لهيمنة الاستعمار البريطاني.

- في 26 يوليو 1956، خرجت جماهير البحرين بقيادة الهيئة في مظاهرة احتجاج على العدوان الثلاثي على مصر، فاعتقل الإنجليز قادة الهيئة ونفيهم للخارج.

بقلم: الدكتورة شرف محمد علي المزعل

في دراسة بحثية مهمة  للدكتورة شرف محمد علي المزعل، تسلط فيها الضوء على شخصية جدلية مهمة في تاريخ البحرين السياسي والاجتماعي من طراز مستشار حكومة البحرين تشارلز بلغريف، الذي ترك بصماته في مفاصل البلاد في مستوياتها المختلفة. أكثر من ثلاثين عاما والمستشار يفصل السياسات ويوجهها نحو المصالح البريطانية رغم أنه مستشار لحكومة البحرين، وأن الجيش البريطاني كان يضع على إمارات الخليج بما فيها البحرين حتى الاستقلال عام 1971,

وتضيف المزعل في بحث محكم بعنوان «دور المستشار البريطاني تشارلز بلجريف في تأسيس دولة البحرين الحديثة: دراسة تاريخية (1926 - 1957)» تنشره " دلمون بوست على سبع حلقات ، بان هذه الاحجية أوقعت المؤرخين في جدل مستمر حول ما إذا كان تشارلز بلجريف يعمل فعلا مستشارا لخدمة حكومة البحرين، ويسعي لتطوير البحرين وتحديثها، ويدرك مكامن الخلل في بعض الدوائر الحكومية، لكنه لم يقدم الحل البديل؛ أم أنه كان يمثل اليد التي كان يستخدمها المستعمر البريطاني للتسلط على الشأن البحريني، وضمان الحفاظ على الخليج العربي، والذي كان بالنسبة لبريطانيا «مصدرا للنفط، وكانت البحرين ذات موقع استراتيجي هام في الهند والشرق وبدونها لا يمكنها القيام بأعمالها ومهماتها؛ فيجب ألاّ تفقدها».  نواصل البحث عن الدور الذي لعبه المستشار البريطاني تشارلز بلجريف في تأسيس دولة البحرين الحديثة، ومكانته السياسية في البلاد

وفي الحلقة السادسة تواصل الدكتورة شرف محمد علي المزعل سرد  المحور الثالث والاخير الذي لعبه المستشار البريطاني تشارلز بلجريف، في تأسيس دولة البحرين الحديثة، ومكانته السياسية في البلاد.

 

ثالثا: دور بلجريف في عهد الشيخ الحاكم سلمان بن حمد آل خليفة (1942 -1957)

عندما استلم الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ( 1942 - 1961) زمام الحكم في البلاد، كان تشارلز بلجريف قد أتم خمسة عشر عاما في عمله مستشارا للحاكم. وحيث أنه برزت أحيانا صعوبات في قبول أفكاره، ومعارضة لمشروعاته التي اضطر إلى تأجيلها أو إلغائها، فقد اتبع طريقة الإدارة بالأهداف، والتي تقوم على تحديد الهدف المنشود (المشروع الجديد مثالا)، والحصول على الضوء الأخضر في البداية من حاكم البحرين لتنفيذه، وبعد ذلك القيام بتوضيحه وشرحه لثلاثة من كبار رجال البلد، وبعد إقناعهم بجدواه وتحمسهم ومساندتهم له، كان المستشار يبدأ في تطبيقه. وحيث أن السياسة تتأثر بالرغبات والأهواء الشخصية للقائمين على الحكم، فقد تمثلت إحدى المشكلات الإدارية التي واجهها المستشار البريطاني في كيفية التوفيق بين ولائه لحاكم البحرين، الشيخ سلمان بن حمد من جهة، وانتمائه أو تبعيته لبريطانيا، من جهة أخرى. فعند نشوء الخلاف بين الحاكم والإنجليز، كان رأي السير تشارلز بلجريف، في معظم الأحيان، يتفق مع رأي الحاكم. ولكن عندما كانت السلطات البريطانية، في شخص المقيم السياسي في الخليج، ترتكب أمورا غير مقبولة، فقد كان المستشار يقوم بتهدئة الحاكم، وإقناع السلطات البريطانية باتباع طريقة اكثر اعتدالا عندما تجد نفسها مُلزمة بإبداء عدم الموافقة الرسمية. وقد وظف تشارلز بلجريف هذا الأسلوب الإداري بنجاح في إقناع قضاة المحكمة، وكبار رجالات البلد، بتقصِّي الحكومة لموضوع الوصاية وأملاك القاصرين من أجل حماية مصالح وحقوق الأرامل واليتامى والقُصّر ومن في حكمهم.

وفي عهد الشيخ سلمان بن حمد، تم وضع اللبنات الأساسية لتشكّل الدولة الحديثة، حيث لعب الشيخ سلمان دورا نشطا في بناء إدارة قوية للبلاد، فقد عمل في السابق قاضيا بالمحكمة ورئيسا لمجلس بلدية المنامة، ورئيسا لدائرة أموال القاصرين. ومع التقلص التدريجي لعدد السفن المتجهة لمغاصات اللؤلؤ عام 1945، وازدياد إيرادات الدولة، عمل الشيخ سلمان على دفع خطط التنمية المختلفة بعد توقفها طيلة فترة الحرب، ومن ضمنها بناء مكاتب حكومية جديدة، كمكتب البترول، وتطوير مرافق الدولة، وتزويد مدينة المنامة بأنابيب المياه، وتحسين الخدمات التعليمية والاجتماعية والصحية، وإحلال الكوادر الوطنية في أجهزة الحكم والإدارة المحلية. وفي عام 1956، تم تأسيس المجلس الإداري باعتباره السلطة التنفيذية في البحرين، وتقرّر التوسع في نظام المجالس البلدية.

وخلال فترة حكم الشيخ سلمان، استمر بلجريف، كمستشار للحاكم، في التعامل مع الأمور المالية للدولة، فشارك في مفاوضات مع شركة بابكو لتوقيع اتفاق جديد حول تقاسم أرباح عائدات النفط بالمناصفة عام 1952، وتقلد مناصب شرفيّة، كسكرتير اللجنة البحرينية لسباق الخيل، ورئيس شركة طيران الخليج، ورئيس نادي البحرين للسيارات، كما رافق الشيخ سلمان في زيارته للسعودية عام 1947، وتم تعيين حمد، ابن بلجريف، مديرا للعلاقات العامة في الحكومة عام 1948.

وبفضل تنوّع مصادر الدخل القومي الصناعية والمصرفية، وتنفيذ مشاريع البنية التحتية، فقد ساهم النمو الاقتصادي للبلاد في ارتفاع مستوى الوعي السياسي لدى المواطنين، وبروز نخبة من الروّاد المثقفين الذين روّجوا لمفاهيم الحرية والمساواة والعدالة والاستقلال من الاستعمار البريطاني، وكانت منابرهم من الجرائد والمجلات المحلية، والأندية الثقافية والرياضية، مواكبة لحركة النهضة، وحاضنة للتيارات السياسية المتحرّكة، وللفكر القومي العروبي في تلك المرحلة. وحيث أن توقيت الحراك السياسي في البحرين في منتصف القرن العشرين قد تزامن مع تصاعد حركات الوعي والتنوير في الوطن العربي، فقد أدى ذلك إلى النمو المبكر للوعي القومي للمواطنين، وهيمنة الأفكار المؤيدة للقومية العربية، والمُنتقدة للسياسات الاستعمارية، ولوجود الشركات النفطية الأجنبية في البلاد.

وفي ظل نمو الوعي السياسي المطلبي، حدثت في 20 سبتمبر 1953 بعض المناوشات بين أتباع الطائفتيّن الكريمتيّن (السنيّة والشيعيّة) في البحرين. ويرى بعض الباحثين أن تشارلز بلجريف كان مُتهما رئيسا بأنه كان يقف وراء تلك المناوشات والأحداث، لكن المستشار البريطاني أجتمع مع وجهاء الطائفتين في 21 سبتمبر 1953 للذهاب إلى القرى والبلدات لتهدئة المواطنين؛ مما جعل البعض يصرح بأن تشارلز بلجريف أصبح بديلا للسلطة البحرينية التي فقدت السيطرة على البلاد. وفي 13 أكتوبر 1953، وفي رسالة سرية إلى أنتوني إيدن وزير الخارجية في لندن، يقترح المقيم السياسي بوروز اللجوء إلى الحل الأمني، وذلك بالاتفاق مع المستشار تشارلز بلجريف، بتقوية جهاز الشرطة وتدريب أفرادها بشكل أفضل. وكان تشارلز بلجريف، بصفته رئيسا للشرطة، يسعى بالتعاون مع الحكومة إلى احتواء الاضطرابات الداخلية، غير أنها كانت خارج نطاق السيطرة، حيث امتدت من المنامة إلى المحرق، وتحولت إلى إضراب شامل لعمال شركة بابكو في 3 يوليو 1954، شارك فيه 2500 شخص. غير أن تشارلز بلجريف لم يكن يعتقد بأن الزعماء في هذه الحركة يملكون أية قوة؛ لكنهم وحدهم يملكون اليوم الخطاب الديمقراطي، والذي يؤيده الأشخاص الواعون من شعب البحرين. وفي 28 أكتوبر 1954، طالبت هيئة الاتحاد الوطني بإنشاء مجلس تشريعي يمثل كل فئات الشعب بالانتخاب الحرّ، لكن الحكومة رفضت هذا المطلب بينما تنازلت بالنسبة للمطالب الأخرى، وهي إصلاح القضاء والقانون المدني والجنائي، والسماح بالنقابات، وتأسيس محكمة استئناف، لذا قرّرت هيئة الاتحاد الوطني إعلان الإضراب العام في البلاد؛ مما دفع الحكومة للإعلان عن بعض الإصلاحات، لكن هيئة الاتحاد الوطني طالبت بإصلاح الأوضاع الاجتماعية للمواطنين من الداخل، والحدّ من طموحات الاستعمار في الهيمنة على مقدّرات البلاد.

وضمن هذا السياق التاريخي، لعبت الصحف والمجلات الوطنية، كمجلة «صوت البحرين»، دورها في التأكيد على المطالب الشعبية التي تبنتها هيئة الاتحاد الوطني، ومنها وضع حد لسلطات تشارلز بلجريف كرمز لهيمنة الاستعمار البريطاني، وحينما وجد تشارلز بلجريف أن مطالب هيئة الاتحاد الوطني (1956-1954) تهدِّد منصبه ومستقبله كمستشار لحاكم البحرين يمتلك صلاحيات واسعة في القضاء والشرطة والأمور المالية، فقد كان رد فعله عليها عنيفا، حيث اقترح على الشيخ سلمان في 5 نوفمبر 1956 اعتقال زعماء هيئة الاتحاد الوطني فوافق، حيث تم اعتقال عبد الرحمن الباكر، وعبد العزيز الشملان، وعبد علي العليوات، وتم نقلهم إلى جزيرة جدة تحت حراسة القوات البريطانية، وعمد تشارلز بلجريف إلى نشر مادة طويلة في هيئة الإذاعة البريطانية لتوضيح سبب اعتقال زعماء الهيئة، مؤكدا على عدم وجود نيّة لإلغاء هذا القرار، ولما كان تشارلز بلجريف، كمستشار لحاكم البحرين، يمتلك صلاحيات قانونية واسعة، ويميل إلى الاستبداد بالقرار السياسي، والإنفراد باتخاذه دون التشاور المسبق مع وزارة الخارجية البريطانية، وأخذ موافقتها قبل تنفيذه، فإن هذا السلوك الإداري تسبّب في إحراج الحكومة البريطانية بوجه عام، وأثار حالة من الاستياء والسخط لدى وزارة الخارجية البريطانية، حيث تساءلت عما إذا كانت محاكمة زعماء هيئة الاتحاد الوطني تتم وفق مبادئ حقوق الإنسان، وفي 7 فبراير 1957، تنصّلت من دعمها للمستشار البريطاني السير تشارلز بلجريف، زاعمة أنه لا ينتمي إلى البريطانيين.

إن مجمل هذه التطورات قد أثارت القلق لدى السير تشارلز بلجريف حول مستقبله السياسي، ولكن موقف الإنجليز وتشارلز بلجريف والحكومة أصبح موحدا في مارس 1956م؛ ولذلك تم وضع خطة لاعتقال أعضاء هيئة الاتحاد الوطني بتهمة التحريض على العنف. وفي 26 يوليو 1956، خرجت جماهير البحرين بقيادة الهيئة في مظاهرة احتجاج على العدوان الثلاثي على مصر، وحصلت أعمال شغب وعنف؛ مما أعطى الإنجليز المبرِّر لاعتقال قادة الهيئة ونفيهم إلى الخارج. ومع تصفية الهيئة، كان تشارلز بلجريف قد عرف أن نهايته قادمة أيضا بعد أن تعمّدت دار المقيمية البريطانية إزاحته أثناء حوارها مع هيئة الاتحاد الوطني بعد أن أصبح السبب الرئيس في كل ما حصل في البحرين، فكان لا بدّ له من تقديم استقالته نتيجة لما تعرّض له من ضغوط من قبل الدوائر البريطانية، وفي عملية مقصودة من قبلهم لإحراج حكومة البحرين، وإقناع هيئة الاتحاد الوطني بأن دار المقيمية البريطانية هي التي تقرر مجريات الأمور في البحرين، حيث كانت بريطانيا تحاور طرفا على حساب الطرف الآخر. وبالنتيجة، عاد السير تشارلز بلجريف إلى بلاده في 18 أبريل 1957.

.. يتبع